وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

النزاعات القبلية في السودان، إلى أين؟

تضع النزاعات القبلية في السودان النسيج الاجتماعي المكوّن لهذا البلد على المحك وبصورة تنذر بنتائج وخيمة على عموم السودانيين.

النزاعات القبلية في السودان
صورة تم التقاطها يوم 14 يناير 2005 في بلدة نايلة الموجودة في جنوب دارفور. ويظهر في الصورة رجلٌ سوداني وهو يرتدي الملابس القبلية احتفالاً باتفاقية السلام الموقعة حينذاك بين الخرطوم والجيش الشعبي لتحرير السودان، والتي أنهت 21 عاماً من النزاعات. المصدر: JOSE CENDON / AFP.

يوسف م. شرقاوي

شهد السودان، على امتداد السنوات الماضية، عدّة نزاعات قبلية أسفرت عن مئات القتلى والجرحى في شرق البلاد وغربها وجنوبها.

ومرة بعد مرة، يزداد النزاع عنفاً، ما يضيف تحديات جديدة للسودان، وأزمات على الصعيدين السياسي والاقتصادي، وإشكاليات في الاستقرار السياسي وبناء الدولة والتعايش السلمي.

الحالة القبلية

لا شكّ في أنّ البُنْية القبلية تشكّل حقيقةً أنثروبولوجية وخاصيةً سوسيولوجية في السودان. وحافظت هذه البنية على كيانها كبنية نفسية وثقافية تؤطر أنماط السلوك، بما في ذلك السلوك السياسي. ويرى عبده مختار موسى، أستاذ علم الاجتماع السياسي بجامعة أم درمان، أنّ نفوذ البنية القبلية في السودان يمتد ليشمل الثقافة السياسية والعملية السياسية السائدة في هذا البلد.

وتعتبر القبيلة الوحْدة الاجتماعية الرئيسية في المجتمع السوداني، ولها أدوارٌ مهمة على المستويات التاريخية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية. وعلى الرغم من قيام الدولة الحديثة في السودان على أسس سياسية حديثة، إلّا أنّ هذه الدولة بقيت تعتمد في وجودها على التكوين القبلي للمجتمع السوداني.

وسواء في تاريخ السودان القديم أو الحديث، فإنّ القبيلة تعتبر المحور الذي يستمد منه المجال السياسي والديني والأمني والاقتصادي والثقافي قوته. ويعود السبب في ذلك إلى عدم وجود مؤسسة يمكنها أن تضاهي القبيلة في السودان.

لا بل أن المؤسسات الموجودة في هذا البلد وليدة القبيلة، باعتبارها المحرك الفعلي للتاريخ السوداني. وبذلك، أصبحت القبيلة في السودان عبر التاريخ القوة المحركة والمؤسسة للدولة وللمجتمع. وعلى هذا الأساس، لا يمكن قول أي شيء عن الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية في السودان بمعزل عن الحالة القبلية.

جذور النزاع القبلي

شهدت الآونة الأخيرة تنامياً في حدّة النزاعات القبلية التي يعيش على وقعها السودان. ومن الأسباب التي أدت إلى هذا التنامي فساد الأنظمة السياسية المتعاقبة وتعقيد مرحلة ما بعد إسقاط نظام الرئيس السوداني السابق عمر حسن البشير.

بيد أن جذور النزاع القبلي تعود إلى ظروفٍ تاريخية سابقة تراكمت لتشكّل الصورة الكئيبة لواقع الحال في السودان. وبحسب ما ذكره الباحث أكرم السيّد، فإنّ حالة النزاع القبلي ظهرت لأول مرّة في عام 1932، وكان ذلك بين قبيلتي الزيادية والميدوب ضد قبيلتي الكبابيش والكواهلة، في منطقة شمال دارفور.

وظلّ هذا النزاع يتكرر طوال أعوام لاحقة، وصولاً إلى عام 1983. ويرى السيّد أن هذا العام يشكّل مرحلة فاصلة في النزاع القبلي السوداني، إذ شهد ظهور النزاعات بين قبائل الرعاة والمزارعين.

ولا يمكن إغفال عوامل أخرى ألقت بظلالها على النزاعات القبلية السودانية، أهمها الحرب التي وقعت في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي بين ليبيا وتشاد والحرب الأهلية التشادية. وكانت القبائل المتنازعة هناك قد طلبت حينذاك معونة أبناء القبائل السودانية ذات الصلة والنسب بهم. وبطبيعة الحال، فقد أدى ذلك إلى تداعيات سلبية بين القبائل السودانية نفسها.

وتمتد أسباب النزاعات القبلية السودانية على عدة مستويات لتغطي توفير سبل العيش وما ينطوي على ذلك من نزاع على الأراضي ومصادر المياه. كما لا يمكن إغفال غياب المؤسسات والسلطة السياسية أو الرسمية في تأجيج تلك النزاعات.

تسييس الحالة القبلية

الجماعات القبلية أضفت الشرعية على الدولة الحديثة كإطار منظّم للمجتمع ومتصرف في الشؤون العامة وكمصدر للسلطة والقوة الرسمية. إلا أنّ هذه الجماعات، في الوقت نفسه، ظلّت تبتّ في قضايا ومسائل النزاعات في المناطق القبلية. كما بقي من اختصاصها قضايا مماثلة لجمع الضرائب وتجنيد قوات الدفاع الشعبي وملاحقة الخارجين عن القانون.

وبكلمةٍ أو بأخرى، ما تزال القبائل السودانية تتمتّع بسيادة على نفسها ومواردها وتواصل حكم نفسها بنفسها، بحسب قوانينها وتقاليدها الخاصة. وبطبيعة الحال، فإن هذا الوضع المعقّد دفع العديد من الخبراء لطرح التساؤلات حول ماهية تقاسم السيادة بين القبيلة والدولة.

وللإجابة على تلك التساؤلات، لا بد لنا وأن نكون على دراية بأن تسييس الحالة القبليّة أحد أهم أسباب تصاعد النزاع القبلي، سيما وأنّ القبليّة تنطوي على عصبية وذات مدلول هوياتي. ففي الحالة السودانية، فإنّ الحالة القبلية تشكّل للأفراد هوية تطغى على الهويات الأخرى، بما في ذلك الهوية الوطنية. ووفقاً لهذا التصوّر، فإنّ النزعة القبليّة تدفع أبناء القبائل للاعتقاد بأن القبيلة هي الوحدة الأساسية التي يتكوّن منها المجتمع.

وعلى هذا الأساس، تأخذ القبيلة طابع المؤسسة السياسية أو الكيان السياسي، ما يجعل العلاقة بينها وبين السلطة السياسية مضطربة، وفيها من الشروخ ما لا يمكن تعداده.

وتقول الباحثة أماني الطويل إنّ التوظيف القبلي للصراع السياسي في السودان يملك تاريخاً طويلاً.

بدوره، يرى الباحث عبده مختار موسى أنّ تجليات تنامي النزاع تظهر في تدخّل الحكومة السودانية بصورة اعتبرتها بعض الإثنيات غير محايدة. ومن ناحيةٍ أخرى، فقد أدى غياب الإدارة الأهلية في صورتها القديمة إلى ظهور مجموعات أصبحت تستثمر في النزاعات، إما لكسبٍ سياسي حزبي أو انتخابي أو من خلال بيع السلاح. وبالتالي، فإنّ هذه المجموعات باتت تسعى لتأجيج الفتنة بين القبائل لاستمرار الصراع لتستمر مصالحها.

وبطبيعة الحال، فقد أنتج هذا التدخل السياسي الخاطئ تسييساً للقبيلة وللحالة القبليّة. كما بات هناك استقطابٌ سياسي عمل على توظيف الصراع القبلي في مختلف الاتجاهات.

وحتى وإن كان الدافع من نشوب النزاع غير سياسي، إلا أنّ الاستغلال السياسي لهذا النزاع ساعد، بحسب الباحث أكرم السيّد، على استشرائه وتفاقمه واستمراره منذ لحظاته الأولى وحتى الوقت الراهن. وفي هذا الصدد، يقول السيّد: “الأسباب السياسية هي التي هيّأت المجال (للنزاع غير السياسي) وفشلت في إيجاد حلول حقيقية له”.

حالة دارفور

النزاعات القبلية في السودان
صورة تم التقاطها يوم 30 أغسطس 2023 لمقاتلين يتحركون في موكبٍ عسكري مرافق لحاكم ولاية دارفور السودانية أثناء توقفهم في بلدة القضارف الشرقية. المصدر: AFP.

ينقسم سكان إقليم درافور، الذي يضم 115 قبيلة من أصل 570 قبيلة سودانية، إلى مجموعتين عرقيتين: الأولى ذات أصول سامية عربية، فيما الثانية ذات أصول حامية إفريقية.

وبين عامي 1916 و1956، لم تُعرف دارفور إلا كجزء لا يتجزأ من السودان الحديث. وبحسب المراجع، فإن دارفور بقيت “منطقة متخلفة يحكمها موظفون بريطانيون باعتمادهم على نظام الإدارة الأهلية”.

وبعد استقلال السودان، انتقلت السلطة السياسية والاقتصادية لتصبح بيد الشماليين العرب، أو المجموعة المسماة بالنيليّة العربية، المسلمة في غالبها.

ونشبت النزاعات بين مجموعات قبلية محلية في الفترة الممتدة منذ الاستقلال وحتى إدخال نظام الحكم الإقليمي، أي ما بين عامي 1956 و1980.

وما لبثت طبيعة النزاعات أن تحولت إلى حرب بين تجمعات إثنية قبليّة والحكومة المركزية باستخدام الأسلحة الحديثة. وكان ذلك بين عامي 1983 و1993.

وفي الفترة الممتدة بين عامي 1992 و2002، حدث استقطابٌ إثني، بحيث باتت القبائل العربية في مواجهة غير العربية. ومع تدخل الحكومة لصالح العرب، فقد صار الصراع قومي الطابع.

العديد من أبناء دارفور يردّون الصراع الذي اندلع مطلع الألفية إلى ما بدأ في عام 1982. وللمعلومية، فإنّ حالة النزاع القائمة في بداية الثمانينيات أخذت بعداً جديد في عام 1986. ففي ذلك العام، وهو العام الذي تولى فيه زعيم حزب الأمة الصادق المهدي رئاسة وزراء السودان، شكّلت بعض القبائل العربية تجمعاً حمل اسم “التجمع العربي”. وحصل هذا التجمّع على دعم حزب الأمّة في مواجهة قبيلة الفور غير العربية، التي كانت مدعومة من الحزب الاتحادي الديمقراطي.

ويرى آخرون أنّ هذه المرحلة الأخيرة، أي مرحلة حكومة الإنقاذ الوطني والحركة الإسلامية، شهدت تفاعلاً للإسلام السياسي مع الاستقطاب الإثني.

وقبل ذلك، ساد التعايش السلمي بين قبائل درافور، التي ارتبطت ارتباطاً وثيقاً من النواحي الاجتماعية والاقتصادية والتنموية بمجتمع السودان الكبير، ما جعل نسيجها الاجتماعي مترابطاً. لكن، منذ التسعينات، ومع ظهور الكتاب الأسود الذي عكست فيه نخبة درافور المتعلمة بالأرقام الظلمَ الذي وقع على إقليمهم منذ الاستقلال، تعقّد الوضع.

ومنذ ذلك الحين، أصبحت ملكية الأرض والحواكير وديار القبائل من أهم أسباب الصراع القبلي في السودان. وأصبحت عناصر الملكية السابقة جزءاً أصيلاً من الموروثات والتركيبة الاجتماعية والثقافية لأهل دارفور، وصارت حقوقاً مكتسبة، الأمر الذي أمدها بأبعاد سياسية خطيرة لا يمكن تجاوزها.

ولعب حسن الترابي، مؤسس الجبهة القومية الإسلامية ومهندس انقلابها العسكري عام 1989، دوراً رئيساً في اندلاع أزمة دارفور واتّساعها على نحو غير مسبوق. وبحسب الباحثة أماني الطويل، فإنّ الترابي حرّض بعض القبائل في دارفور على الرئيس البشير على أبعاد عرقية وقبلية. وجاء هذا التحريض على خلفية إقصاء البشير للترابي عن السلطة في عام 1999.

وتقول الطويل إن الترابي “أسّس حركة دارفورية مسلحة هي حركة العدل والمساواة. وتطور الصراع ليأخذ أبعاداً دموية بين القبائل المنتمية للأصول العربية وأخرى من العرق الزنجي، وهو الأمر الذي ترتّب عليه تحالفات لها طابع إقليمي مرتبطة بالامتدادت القبلية للزغاوة في كل من تشاد والسودان”.

سيناريوهات

ثمة سيناريوهات كثيرة يتوقعها الباحثون بما يخص النزاع القبلي السودان، بعضها تشاؤمي وبعضها تفاؤلي.

السيناريو التشاؤمي يرى أنّ النزاع سيبقى مستمراً. ويعيد مناصرو هذا السيناريو السبب في استمرار النزاع إلى عنصرين. ويرتبط العنصر الأول بتجاهل اتفاقيات السلام المعنية بالنزاع القبلي لبعض القبائل على حساب قبائل أخرى، وهو ما يجعل إنهاء الصراع غير ممكناً. أما العنصر الثاني فيتعلق بوجود أطراف إقليمية تعمل على استعادة نفوذها داخل بعض الأقاليم السودانية.

ويذهب السيناريو التفاؤلي مذهباً مختلفاً، وهو أنه يمكن إنهاء الصراع القبلي أو إمكانية تسويته، إذا ما تعاملت السلطة – الحكومة مع جذور المشكلة. ويتمثل ذلك في العمل على إرساء العدالة التنموية وإرساء دعائم الدولة المدنية الخالية من مظاهر العنصرية والتفريق بين المواطنين على أساس أعراقهم.

وبطبيعة الحال، لا يمكن تسوية هذا النزاع إلا بوجود إرادة سياسية حقيقية، لا تعمل على تسييسه، والاستثمار فيه. وعلى هذا الأساس، لا بدّ من النظر إلى أبناء القبائل على أنهم مواطنون، دون اعتبارهم ينتمون إلى قبيلة معينة. كما يجب أن تكون للقانون الكلمة الأولى في تسوية النزاعات، باستبعاد الحلول التقليدية أو العرفية.

وفي هذا السياق، تقول الباحثة أسمهان إبراهيم: “الحل الحقيقي يكمن في مخاطبة جذور الأزمة وعلى رأسها التنمية المتوازنة والتي ستزيل الغبن وتخلق روح التعاطي الإيجابي بين مكونات الشعب السوداني”. وبحسب إبراهيم، فإنّ الحل يرتبط بإعلاء خطاب التصالح ونبذ القبلية العنصرية وتمثيل كلّ مناطق السودان في الحكم والمبادرة بالمصالحات بين القبائل المتناحرة وتعويض المتضررين من الصراعات وابتعاد السياسيين عن زج القبلية في السياسة.

ويعيد الباحث أبو هريرة عبد الرحمن تمدّد العنف القبلي إلى عوامل عدّة. ومن هذه العوامل غياب الاستقرار السياسي، واحتدام الصراع على السلطة، والقصور العام في أداء الدولة، وعدم كفاءة النسق السياسي في الضبط وتحقيق الرضا.

ومع كلّ الاختلالات القبليّة والاقتصادية والسياسية التي يعيشها السودان، فإن النسيج الاجتماعي المكوّن لهذا البلد بلا أدنى شك بات على المحك وبصورة تنذر بنتائج وخيمة على عموم السودانيين.