وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

انتفاضة السويداء تنعش آمال المعارضين السوريين

تمثّل انتفاضة السويداء الراهنة، التي بدأت منذ آب/أغسطس 2023، نقطة تحوّل في احتجاج أبناء السويداء ضد نظام بشّار الأسد، مقارنة بالإحتجاجات السابقة.

انتفاضة السويداء
فتاة صغيرة ترفع علم المعارضة السورية، خلال مظاهرة في مدينة إدلب الشمالية الغربية التي يسيطر عليها المتمردون في 25 أغسطس 2023، دعماً للاحتجاجات المناهضة للحكومة في مدينة السويداء الجنوبية التي يسيطر عليها النظام. Abdulaziz KETAZ / AFP

علي نور الدين

منذ منتصف آب/أغسطس 2023، واظب أهالي منطقة السويداء السوريّة على الاحتجاج في وجه النّظام السوري، في انتفاضة صاخبة انطلقت على خلفيّة الوضع المعيشيّ، وحملت شعارات سياسيّة تطالب بإسقاط الرئيس السوري بشّار الأسد.

انطلاق هذه الاحتجاجات، وحفاظها على زخمها حتّى هذه اللّحظة، أعاد إلى الأذهان أولى مراحل الثورة السوريّة، التي اتسمت بقوّة الحراك الشّعبي المدنيّ، قبل أن تغرق المدن السوريّة بأتون الحرب الأهليّة الراهنة. أمّا تاريخ السويداء القديم، الحافل بالثورات والتمرّد منذ أيّام الانتداب الفرنسي، فأنعش آمال المعارضين بقدرة السويداء على الصمود في انتفاضتها الراهنة.

إلا أنّ تفاؤل المعارضين السوريين بهذه المستجدات تصاحبه جملة من التحديات التي لا يمكن تجاهلها، ومنها على سبيل المثال عدم توسّع رقعة الاحتجاجات بالزخم عينه، في سائر المحافظات السوريّة.

ولهذا السبب، وعلى الرغم من الشعارات السياسيّة الطموحة التي يحملها المحتجون حاليًا، ومنها شعار إسقاط النظام، قد يصعب على المحتجين ترجمة هذه الشعارات العالية السقف في إنجازات عمليّة، ما لم تتحوّل الحركة الاعتراضيّة إلى حالة ذات طابع وطنيّ تتجاوز النطاق المناطقيّ الضيّق. وهذا ما يفترض أن يدفع المعارضين للبحث عن أسباب عدم توسّع الاحتجاجات في سائر المناطق السوريّة، لتذليل تلك العقبة.

السويداء: تاريخ حافل بالتمرّد

منذ بدء الاحتجاجات الأخيرة، أدرك النّظام السوري حساسيّة الوضع في منطقة السويداء، وهو ما دفعه للحذر في طريقة التعامل مع الوضع الراهن. فمنطقة السويداء بالذات تتسم برمزيّة خاصّة في تاريخ سوريا، وخصوصًا في مرحلة النضال من أجل الاستقلال. كما اتسم تاريخ هذه المنطقة السوريّة بالتمرّد الصاخب منذ ذلك الوقت، إلى حدٍّ جعلها منها نقطة عبور لانطلاقة الثورة السوريّة الكبرى في وجه الانتداب الفرنسي عام 1925.

ففي ذاكرة أبناء السويداء، ذات الأغلبيّة الدرزيّة، هناك مكانة خاصّة لقائدهم التاريخي سلطان باشا الأطرش، الذي تزعّم جبل العرب (أي السويداء وريفها) أيام الانتداب الفرنسي، ورفض آنذاك عرض الفرنسيين بترؤّس دولة خاصّة بالدروز في الجبل، إيمانًا بفكرة الوحدة العربيّة في ذلك الوقت. ثم قاد الأطرش عام 1925 ثورةً على الانتداب انطلاقًا من جبل العرب، قبل أن تمتد الثورة إلى سائر المدن السوريّة، ويتحوّل الأطرش إلى أحد قادة المقاومة السوريّة المناهضة للانتداب.

هكذا، خرج الأطرش من الحدود التقليديّة التي حاول الانتداب أن يرسمها له، كزعيم لأقليّة طائفيّة، ليحوّل جبل الدروز إلى شرارة انتفاضة وطنيّة عابرة للطوائف والمناطق، ما أفضى لاحقًا إلى الاستقلال السوري. ومنذ ذلك الوقت، بات هناك رمزية خاصّة لحكاية سلطان باشا الأطرش في وجدان أهالي السويداء، والتي بدورها ترمزُ إلى عمق اتصالهم بمحيطهم الوطني والعربي، وعلى قدرة منطقتهم على التأثير الحاسم في المحطات والاستحقاقات الأساسيّة. ومع الوقت، أصبحت حكاية الثورة العربيّة الكبرى ترسم لأبناء جبل العرب صورة مثاليّة عن شجاعة أجدادهم، ما انعكس على مواقفهم الراهنة.

فمنذ وصول الرئيس السوري حافظ الأسد إلى الحكم، توجّس الرجل من ثقل أبناء جبل العرب في الحياة السياسيّة والعسكريّة السوريّة، الذي نبع من الأدوار التاريخيّة التي لعبها الدروز في مرحلة الاستقلال وتأسيس الدولة السوريّة. وبحكم العقليّة البوليسيّة التي كانت تقود النظام يومها، بعد مرحلة حافلة بالانقلابات، خشي حافظ الأسد من نفوذ جماعة يمكن أن تهدد سطوته المطلقة في المستقبل.

ولهذا السبب، تذرّع الأسد بحصول محاولة انقلاب عام 1966، لإقصاء مئات الضبّاط الدروز من الجيش السوري، بحجّة التآمر مع قائد الانقلاب. ولذلك، خسرت الطائفة حضورها المتقدّم داخل الجيش والدولة في سوريا، الذي اكتسبته قبل وصول الأسد إلى السلطة. وهكذا، حفلت ذاكرة أبناء السويداء بالذكريات المؤلمة اتجاه عائلة الأسد، خصوصًا بعد أن همّش النظام السوري دور سلطان باشا الأطرش نفسه في مراحل لاحقة، إلى حين وفاته عام 1982.

وفي آذار/مارس 1977، تمّ اغتيال الزعيم اللّبناني الدرزي كمال جنبلاط، فيما وُجهت أصابع الاتهام يومها إلى نظام حافظ الأسد، بالنظر إلى معارضة جنبلاط للدور السوري في لبنان في تلك المرحلة. على الرغم من أنّ زعامة جنبلاط كانت تتركّز في لبنان، إلا أنّه كان يحظى في الوقت عينيه بمكانة خاصّة لدى الدروز في سوريا، والذين يتصلون بعلاقات عائليّة واجتماعيّة وثيقة مع نظرائهم في لبنان. وهكذا، كانت الأحداث تزيد مرّة جديدة من استياء أبناء جبل العرب اتجاه نظام الأسد.

من هذه الزاوية بالتحديد، يمكن فهم أحداث العام 2000، التي سبقت الثورة السوريّة بأكثر من 11 سنة، يوم شهدت السويداء انتفاضة كبيرة على خلفيّة مقتل أحد الطلّاب بنيران البدو. يومها، إضطر النّظام السوري إلى فرض حصار بالمدرّعات على السويداء لأشهر من الزمن، ولم يتمكّن من إخضاع المنطقة إلّا باقتحام عسكري ضخم كلّف السويداء 23 قتيلًا من أبنائها. وهكذا، أعادت تلك الأحداث التذكير بعلاقة المحافظة الشائكة مع النّظام، وبروحيّة التمرّد التي يحملها أبناء المحافظة، والتي يمكن أن تتحوّل إلى انتفاضة شعبيّة في أيّ لحظةٍ.

دور السويداء في أحداث الثورة السوريّة (2011-2022)

منذ اندلاع الثورة السوريّة عام 2011، لعبت محافظة السويداء بعض الأدوار الاحتجاجية ضد نظّام بشّار الأسد، خلال مراحل زمنيّة متفاوتة. وجاءت ذروة هذه الاحتجاجات في محافظة السويداء بين عامي 2014 و2015، بالتوازي مع ظهور فصائل عسكريّة محليّة مناهضة لالتحاق الشبّان الدروز بالخدمة العسكريّة الإلزاميّة.

وفي تلك المرحلة بالذات، سطع نجم رجل الدين الدرزي الشيخ وحيد البلعوس، الذي تزعّم إحدى تلك المجموعات التي حملت إسم “مشايخ الكرامة”. إلا أنّ البلعوس سرعان ما قضى في انفجار ضخم عام 2015، فيما وجّه أنصاره أصابع الاتهام للنّظام السوري، الذي ضاق ذرعًا بحركة البعلوس المحليّة.

لكن على الرغم من هذه الأحداث، ظلّت معظم الاحتجاجات في محافظة السويداء –قبل العام 2022- تأخذ طابعًا محليًا، يُعنى بمطالب تتعلّق بأبناء المحافظة عينها، مثل مسألة التجنيد الإجباري للشبان الدروز، أو مشكلة نشاط المليشيات الأجنبيّة الموالية للنظام داخل المحافظة، أو التهديدات الأمنيّة التي طالت المحافظة جرّاء الحرب السوريّة. وفي بعض الحالات، جاءت الاحتجاجات كرد فعل على الظروف المعيشيّة القاسية، كما حصل في مظاهرات العام 2020.

ولذلك، لم تدخل معظم مظاهرات أبناء السويداء قبل 2022 في السياق نفسه المواجهات الأهليّة والعسكريّة التي خاضتها مدن سوريّة أخرى ضد النّظام، خلال الفترة عينها. وتشير بعض التحليلات إلى أن هذا الواقع قد نتج عن عوامل عدّة، ومنها الطابع الإسلامي الذي غلب على الفصائل العسكريّة المعارضة التي أفرزتها الحرب في سوريا، وهو ما أبعد هذه الفصائل تلقائيًا عن مزاج أبناء السويداء، الذين ينتمي أغلبهم إلى الأقليّة الدرزيّة.

وفي الوقت عينيه، واجهت المحافظة تهديدات أمنيّة جديّة، جرّاء سيطرة تنظيم داعش في بعض مراحل الحرب السوريّة على مساحات شاسعة عند حدود المحافظة الشرقيّة. بل وشهدت السويداء عام 2018 هجمات مسلّحة من جانب تنظيم داعش نفسه، ما أدّى إلى مقتل قرابة 250 شخص من أبناء المحافظة. وربما لهذا السبب، فضّلت المجموعات المحليّة، الممتعضة من حكم نظام الأسد، التركيز على خصوصيّة المحافظة وهمومها الأمنيّة والمعيشيّة، بدل الانخراط في أحداث الحرب السوريّة خارج نطاق المحافظة.

مظاهرات العام 2023: نقطة تحوّل

تمثّل موجة الاحتجاجات الراهنة، التي بدأت منذ آب/أغسطس 2023، نقطة تحوّل في احتجاج أبناء السويداء ضد نظام بشّار الأسد، مقارنة بالإحتجاجات السابقة التي جرت قبل العام 2022.

فهذه المرّة، حملت المظاهرات شعارات وعناوين سياسيّة عالية السقف، إلى حد المطالبة بإسقاط النّظام السوري ورحيل رئيسه، وهو ما تجاوز بأشواط عديدة عناوين الاحتجاجات السابقة، التي ركّز معظمها على عناوين معيشيّة واقتصاديّة. أمّا في الشكل، فقد شهدت المظاهرات تصعيدًا ميدانيًا لافتًا، من خلال اقتحام مقرّات حزب البعث الحاكم وإحراق صور الرئيس السوري بشّار الأسد، وهو ما مثّل جرأة غير مسبوقة في تحدّي سلطة النظام.

أمّا الأهم، فكان انطلاق المحتجين باتجاه تأسيس هيئات إداريّة وسياسيّة محليّة، بهدف تنظيم شؤون المحافظة بعيدًا عن سلطة النّظام المركزيّة. كما تمكّن المتظاهرين من الحصول على دعم القيادات الدينيّة للطائقة الدرزيّة ومرجعيّاتها المحليّة، وهو ما أمّن لهم غطاءً معنويًا بالغ الأهميّة في وجه النّظام. وفي العديد من المحطّات، ظهرت النساء في صدارة التحرّكات على الأرض، بل وتم تنظيم تحرّكات نسائيّة خاصّة ضمن إطار الاحتجاجات، بهدف تفعيل مبدأ “التضامن النسّوي” وإعلاء صوت المرأة السوريّة سياسيًا واجتماعيًا، بحسب ما أشارت المتظاهرات.

والتحدّي الأساس أمام هذه الاحتجاجات، هو عدم توسّعها حتّى اللّحظة بالقوّة نفسها، باتجاه سائر المحافظات السوريّة، باستثناء بعض الوقفات التي جاءت كتضامن مع أهالي السويداء، لا كانضمام إلى انتفاضتهم. ولعل السبب الرئيس الذي أدّى إلى هذا الواقع هو طبيعة التحوّلات التي طرأت على المشهد السياسي السوري، بعد أكثر من 12 سنة على اندلاع الثورة السوريّة.

ففي المناطق السوريّة الخاضعة لسيطرة النظام، هاجر تدريجيًا على مرّ العقد الماضي الناشطون السوريون الذين قادوا الاحتجاجات المدنيّة في بدايات الثورة، وهو ما أفقد هذه المناطق الشريحة الاجتماعيّة المُبادرة والناشطة سياسيًا. وفي بعض المناطق، مثل درعا، وقد أجرت المعارضة المسلّحة مصالحات ذات طابع أمني مع النّظام السوري، ما فرض عليها منذ ذلك الوقت الالتزام بخطوط حمر أمنيّة لا يمكن تجاوزها.

وعلى المقلب الآخر، تعيش أجزاء واسعة من المناطق السوريّة خارج كنف النظام، مثل شمال شرق سوريا الخاضع لسيطرة قوات سوريا الديموقراطيّة، ومحافظة إدلب الواقعة تحت السيطرة الإسلاميّة، بالإضافة إلى بعض نواحي محافظة حلب التي تنشط فيها المليشيات الموالية لتركيا. ولهذا السبب، باتت هذه المناطق خارج دائرة المواجهة المدنيّة المباشرة مع النظام، بخلاف ما كان الحال عليه في بدايات الثورة.

لكل هذه الأسباب، بات النظام يستغل عدم قدرة مظاهرات السويداء على التوسّع في المناطق السوريّة، عبر الإيحاء بأن الهدف النهائي لهذه الانتفاضة هو الانفصال عن سائر أرجاء سوريا، وليس تحقيق تغيير فعلي على المستوى السياسي.

وبهذا الشكل، يحاول النّظام إثارة مخاوف المناطق السوريّة الأخرى، من نوايا المحتجّين في منطقة السويداء. أمّا المشكلة الكبرى بالنسبة للمتظاهرين في السويداء، فهي تطبيع علاقات النّظام السوري مع الغالبيّة الساحقة من الدول العربيّة التي قاطعته في بدايات الثورة، وهو ما يقلّل من الضغوط الخارجيّة التي يمكن أن تحد من قمع النّظام للمظاهرات.