لعبت تركيا دوراً حاسماً في الحرب في سوريا، حيث حشدت الدعم الدولي للمعارضة السورية، ودعمت الجهات الفاعلة العسكرية المُفضلة لديها، فضلاً عن صراعها مع الأكراد السوريين. بيد أن تورط تركيا في الصراع، على مدار ما يقرب من سبع سنوات، تغير بشكلٍ كبير، فما هي أسباب ذلك؟
منذ إندلاع الثورة السورية عام 2011، كان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان واحداً من أعلى الأصوات التي طالبت بالإطاحة بالرئيس السوري بشار الأسد. فقد لاقى عِداءه لدمشق ودعمه للمعارضة السورية استحسان العديد من السوريين، سيما أولئك الذين أجبروا على مغادرة البلاد بسبب الاضطرابات. ومقارنةً بذلك، انخفضت حدّة الخطاب من أنقرة في عام 2017. وعلى غرار زعماء العالم الآخرين، أجبر أردوغان على القبول بأن الأسد بات في مأمنٍ وبأنه لن يخسر الحرب، وذلك في ضوء دعم كلٍ من روسيا وإيران. ففي حين كانت تركيا يوماً ما المحور الرئيسي في الائتلاف المناهض للأسد، تحولت مشاركة أنقرة إلى جدول أعمالٍ يخدم بكل بساطة مصالحها الشخصية.
وعلى الرغم من أن الحرب كانت تبدو في بداياتها غير مضرّةٍ، نسبياً، بالمصالح التركية، إلا أن هيمنة الحكم الذاتي الكردي في شمال البلاد، إلى جانب تسليح الدول الغربية للميليشيات الكردية، غيرت بشكلٍ كبير ميزان القوى.
وتجدر الاشارة الى أن تركيا تخوض حرباً ضد تمردٍ على مستوى منخفض من جانب المسلحين في حزب العمال الكردستاني منذ عقود، وأن أنقرة تخشى أن ترسل الحرب فى سوريا تدفقاتٍ من الأسلحة والمقاتلين من ذوي الخبرة عبر الحدود إلى تركيا. فعلى صعيدٍ متصل، يرتبط حزب العمال الكردستاني بعلاقاتٍ قوية مع القوات الكردية الرئيسية في سوريا، بما في ذلك وحدات حماية الشعب وقوات سوريا الديمقراطية، الذين تدعمهم الولايات المتحدة الأمريكية في معركتهم ضد تنظيم الدولة الإسلامية “داعش.” وترى تركيا أن تكديس الأسلحة في أيدي الأكراد في سوريا يشكل تهديداً مباشراً لأمنها، كما تحاول أنقرة منع المساعدات العسكرية لهذه الجماعات منذ الإعلان عن دعمهم ولكن دون نجاحٍ ملموس. وفي ضوء ذلك، تشعر تركيا بالحاجة إلى إعطاء الأولوية لمصالحها الشخصية- أي بشكلٍ أساسي منع إقامة دولة كردية أو جيب رسمي على حدودها. وتحقيقاً لهذه الغاية، شنت القوات التركية عملية درع الفرات عام 2016، وبمساعدة مقاتلي الجيش السوري الحر، قسمّت القوات التركية المناطق ذات الأغلبية الكردية إلى منطقتين، مما وضع حداً للآمال بوجود جيبٍ كردي مجاور.
وبشكلٍ مبدئي، كانت العملية تهدف إلى دحر تنظيم الدولة الإسلامية “داعش،” بالرغم من تعثر التقدم التركي عند التقائه بالقوات الموالية للأسد في منطقة الباب، مما خلق منطقة نفوذٍ تتماشى مع آمال أنقرة بالرغم من كونها تُدار من قِبل السوريين.
وتدعي وسائل الإعلام التركية عودة 75 ألف سوري بالفعل إلى “المناطق الآمنة” في ديارهم من تركيا، بما فيها مناطق مثل الباب. فلطالما طالب أردوغان بـ”مناطق آمنة” أو بمناطق حظرٍ جوي مدعومة دولياً في سوريا، لتكون بمثابة ملاذٍ آمنٍ للمدنيين، وعلى نحوٍ محتمل، لوقف تدفق اللاجئين إلى تركيا، التي تستضيف اليوم أكثر من ثلاثة ملايين لاجىء سوري. وفي حين لا يوجد ضغطٌ سياسي مباشر في تركيا يدعو لعودة السوريين إلى ديارهم، ذلك أنهم يساهمون بالفعل وعلى نطاقٍ واسع باقتصاد البلاد، إلا أن إتاحة الظروف لعودةٍ آمنةٍ للسوريين يوفر رأس مالٍ سياسي كبير لأدروغان.
وكما هو حال مساعدتها للروهينغيا في ميانمار ودعمها للقضية الفلسطينية، لا تغذي المساعدة الإنسانية التركية للشعب السوري سوى الصورة التي يريدها أردوغان كزعيمٍ شعبي خيّر في العالم الإسلامي.
وخلال السنوات الأولى للصراع، كانت مؤتمرات جنيف– محادثات السلام برعاية الولايات المتحدة وبدعمٍ من الغرب- الأمل الرئيسي في إنهاء الحرب عن طريق المفاوضات. إلا أنها اليوم مشروعٌ فاشل، وباتت محادثات أستانا بين الفصائل السورية المتحاربة، التي تشرف عليها روسيا وإيران وتركيا، الوسيلة الرئيسية للتوسط في الصراع. فلطالما كانت تركيا طرفاً حاسماً في الصراع، كما شكل استعدادها للمشاركة في المحادثات في أستانا صفعةً في وجه جهود السلام الأوروبية والأمريكية.
وعلى الرغم من أن العديد في الغرب يرون في محادثات أستانا أداةً لإيران وروسيا لتمويه دعمهم لنظام الأسد، إلا أن تركيا لا تنظر إليها باعتبارها جهوداً هامشية يمكن تجاهلها. في الواقع، مع استمرار تدهور علاقات تركيا مع أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، وبخاصة في الآونة الأخيرة عندما أوقف كلا البلدين إصدار التأشيرات لمواطني البلد الآخر، أتاحت محادثات أستانا الفرصة لتركيا لمتابعة أهداف سياستها الخارجية بشكلٍ مستقل عن حلفائها التقليديين. وتفيد التقارير أيضاً بأن مشاركة تركيا في محادثات أستانا مشروطٌ، إلى حدٍ ما، بإعطاء روسيا وإيران الضوء الأخضر للعملية التركية ضد القوات الكردية في جيب عفرين المحاصر الآن في شمال سوريا.
والأهم من ذلك، فإن “مناطق تخفيف حدة التصعيد” الأربع المؤقتة التي اتفق عليها في محادثات أستانا في سبتمبر 2017- والتي تعدّ من أهم نتائجها إلى الآن- لم تسفر سوى عن تعزيز المصالح التركية في سوريا. فمن خلال إضفاء الشرعية على دور تركيا كدولةٍ مراقبة في شمال البلاد، وافقت دمشق وطهران وموسكو على عدم التدخل في العمليات التركية في البلاد في الوقت الراهن. بل إن شق محافظة إدلب، المعقل الرئيسي للمعارضة السورية، باعتبارها إحدى المناطق المذكورة آنفاً، قد مكنّ تركيا من حماية صورتها كداعمٍ للقوى المعارضة للأسد.
وعلاوة على ذلك، فإن المشاركة في محادثات أستانا لم تؤثر على التعاون التركي مع جماعات المتمردين السوريين. فهذه القوى، بما في ذلك العناصر المتطرفة التي تسيطر على الكثير من مساحات محافظة إدلب، لا تزال في حوارٍ مع تركيا. فعلى ما يبدو، كان توغل القوات التركية في شهر أكتوبر الماضي حول عفرين قد تم بالتنسيق مع مقاتلين من تحالف تحرير الشام الجهادي، الذي رافق المركبات التركية داخل سوريا. وعليه، فإن خطوات تركيا بالنأي بنفسها عن المبادرات المدعومة من الغرب في سوريا تدار بعناية لحماية مصالح أنقرة والعلاقات القائمة.
وفي النهاية، مع عدم وجود حلولٍ سريعة للصراع السوري في الأفق، أصبح النهج التركي تجاه الحرب متمحوراً حول مصالحها الذاتية، فقد ولّت أيام المطالبة بتغيير النظام. ويبدو أن الأسد باقٍ، الأمر الذي انعكس في موقف تركيا المتغير من الحرب، والذي بات يركز الآن على مواجهة القوة العسكرية الكردية، فالتهديد الكردستاني المتجدد سيضمن عدم مغادرة تركيا لسوريا في أي وقتٍ قريب.