وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

التعليم في الخليج: البحث عن التوازن بين المشرق والمغرب

Education in the Gulf countries
انشطة تعليمية للأطفال في احدی مدارس مدينة الكويت، الكويت. Photo Corbis/Anthony Asael

لا يمكننا أبدا أن نخرج النفط من أية معادلة في حياة دول الخليج العربي، فتلك المجتمعات الفقيرة التي كانت تعيش في بيئة ريفية أو بدوية نامية أصبحت تتمتع بثراء فاحش في طرفة عين. كما بدأت دول الخليج بإقامة مشاريع البناء وأغدقت الأموال على شعوبها وأقامت الأعمال التجارية الضخمة، فقفزت معدلات الاستهلاك في تلك الدول وأصبحت المجتمعات الخليجية تواكب نمط الحياة الغربية.

اعتمدت دول الخليج بشكل كبير على مهنيين وخبراء من الدول الغربية لتطوير البلاد، لا من قبيل الكسل بل بهدف تلبية حاجات التطوير. وحتى فترة الخمسينات من القرن الماضي، كان الغرض الرئيسي من التعليم في دول الخليج الحفاظ على هوية الثقافة التقليدية والدين وضمان توارثهما من جيل إلى جيل. إلا أنه وعندما انطلقت الثورة النفطية في دول الخليج، لم يكن هناك ما يكفي من الموارد البشرية المحلية لإنجاز تلك المهمة. لذلك قدر زعماء دول الخليج العربي بأنه لا يمكن أن يستمر ذلك الوضع إلى الأبد، فتم استحداث نظام تعليمي على يحاكي النمط الغربي في الصفوف الدراسية. إلا أنه لم يخف هؤلاء القادة بعض التردد في تلك المرحلة نظرا لحرصهم على عدم تأثير تلك التغيرات الجوهرية بشكل كبير على الثقافة الوطنية والقيم الإسلامية والتقليدية في البلاد.

ولطالما تركزت مناقشات تحديث المناهج التعليمية – أو بالأحرى تغريبها– في منطقة الخليج العربي على الانقسام بين تقليد الغرب والحفاظ على التقاليد الأصيلة، حيث يرى البعض أن هناك الحاجة للمزيد من التحديث بينما رأى البعض الآخر، خصوصا ممن يتبنى أفكارا أصولية متشددة، أن مسيرة التحديث قد تخطت خطوطا حمراء لأنهم يشعرون بأن المدارس تتعرض لما يشبه الهجمة الإمبريالية الغربية. ويبدو أن المجموعة الثانية تتمتع بسلطة سياسية كافية للحفاظ على الوضع الراهن دون تغيير، كما لا تزال الأسر الحاكمة نفسها مترددة في تعليم شعوبها أساليب التفكير نقدي. حيث غاب نهج الاعتماد على الذات واستقلالية التفكير في النظام التعليمي ليحل محلهما “التلقين” والحفظ دون طرح أية أسئلة.

في هذا السياق، نقل تقرير التنمية البشرية لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي في الدول العربية لعام 2003 بعنوان “بناء مجتمع المعرفة” عن الناقد الأدبي المعروف إدوارد سعيد قوله أننا “لا نحتاج إلى المعرفة بصفتها منتجا أو سلعة… بل نحتاج إلى معرفة مختلفة نوعيا تستند أساسا إلى الفهم والتحليل بدلا من الاستنساخ الميكانيكي وحفظ المعلومة وتكرارها دون تمحيص.” وليس الهدف من مثل تلك التوصيات تطوير التفكير النقدي لدى الطلبة فحسب، لأنه خارج الصفوف المدرسية يوجد هناك عالم من البنوك وشركات التأمين وشركات النفط والشركات القانونية والتجارية والوزارات التي تحتاج جميعها إلى مفكرين مبدعين لا تابعين.

وإضافة إلى التباعد بين الوضع التعليمي وحاجة السوق، تعتبر نوعية المعلمين من المشاكل الأخرى التي واجهتها العملية التربوية في دول الخليج. ففي البداية، كان هناك نقص في معلمي اللغات الأجنبية من ذوي اللغات الأم، تماما كخبراء النفط، فكان من الضروري “استيرادهم” إلى دول الخليج. وهذا ليس بالأمر السيء إذا ما تم تطبيق عملية صارمة لاختيار وفحص قدرات الموارد البشرية. ومع ذلك، هناك تقصير بعض الشيء في هذا المجال.

أحد المشاركين في منتدى للإنترنت في الكويت يصف بسخرية الوضع قائلا: “هل تتكلم الإنجليزية أو الفرنسية؟ إذا تفضل للعمل في مدرستنا لتصبح مدرسا بكل هذه البساطة.” طبعا، كان المشارك يتحدث عن المدارس الخاصة؛ ناهيك عن المدارس الحكومية التي تطبق معايير أقل صرامة. وعندما سئل عدد من طلبة الجامعات عن سبب عدم إتقانهم للغة الإنجليزية، رد أغلبهم بالقول أنهم “كانوا يرتادون مدارس حكومية كان مدرسو اللغة الانجليزية فيها من ذوي الجنسيات الهندية أو المصرية.”

أما معلمو دول العالم الثالث ممن تلقوا التعليم التقليدي والتلقين بدلا من التفكير النقدي فهم يحتلون مقاعد متأخرة في اقتصاد العالم المتقدم، ولا ذنب لهم في ذلك. فهم يقبلون رواتب متدنية وعلى استعداد للعيش في بلدان يصعب العيش فيها في كثير من الأحيان، وهو ما لا يقبله المعلمون من الدول الغربية، لذلك كان الطلب على المعلمين المتميزين يفوق العرض.

كما لم تنجح خطة تثقيف المعلمين، فعرب دول الخليج ينقصهم الحماس ليكونوا معلمين، ومهنة التعليم لا تستهوي الخليجيين. كما أنه ليس أمام كليات التربية أي خيارا آخر سوى قبول الطلبة ممكن حصلوا على معدلات متدنية في الثانوية العامة لا تؤهلهم للالتحاق بكليات أكثر إقبالا ككلة الطب والهندسة والحقوق وغير ذلك.

ومن المشاكل الأخرى التي تواجه العملية التربوية الطلبة أنفسهم، فغالبا ما يفتقر الطلبة إلى الدافع في التحصيل العلمي. وفي ظل توفر الوظائف الحكومية الآمنة والسكن والرعاية الصحية والقروض البنكية الميسرة، من الصعب أن يجد الطالب حافزا للدراسة، ناهيك عن الدراسة الجادة. ومع توفر أشكال الدعم التنموي للمواطنين في بلاد الخليج، نجد أن حكومات دول مجلس التعاون الخليجي كانت قد قررت منذ فترة طويلة أن تمنح شعوبها السمكة بدلا من سنارة الصيد لتكسب قوتها بنفسها.

محمد الرميحي، أستاذ علم الاجتماع السياسي في جامعة الكويت، يذكر في مقال له نشر في صحيفة جلف نيوز الإماراتية عام 2013، قائلا: “نحن نعمل على خلق جيل من الشباب المستهلك والمتخم والذي لا يبدي أي استعداد لبذل أدنى جهد في اكتساب المعرفة والتشكيك فيما يراه أو يسمعه.”

مع ذلك فإن هناك شريحة واسعة من الطلاب الطموحين ممن يثابر في اكتساب العلوم والمعرفة، لكن هذه الشريحة تصاب في كثير من الأحيان بالإحباط لأن العثور على وظيفة جيدة غير مرتبط بدرجة اكتساب المعرفة بقدر ما هو مرتبط بنوعية العلاقات التي يتمتع بها الشخص مع الآخرين. فلا تزال العلاقات الشخصية (الواسطة) أكثر أهمية من نوعية الدرجات أو الشهادات العلمية.

فما العمل إذا؟ جاء خبراء من جميع أنحاء العالم لتقديم المشورة في منطقة الخليج العربي. حيث استخدمت المملكة العربية السعودية خبراء من فنلندا للمساعدة في إصلاح النظام التعليمي للدولة. أما الإمارات العربية المتحدة وقطر فتحاولان جذب المؤسسات التعليمية الأنجلوسكسونية إلى بلدانهم وتعملان كالبحرين مثلا على تحسين مستويات المعلمين في بلادهم. كما أن لدى كل من عمان والكويت خطط مماثلة في هذا الصدد.

قد تنجح خطط العمل تلك. ففي ظل وجود معايير أفضل في اختيار المعلمين، يمكن تحديث المناهج وأن تصبح اختبارات التعيين مستندة قدرات التحليل لا مهارات الحفظ عن ظهر قلب. ويبقى أن نرى درجة المقاومة الدينية المتشددة لمثل هذه الجهود، خصوصا عندما يتعلق الأمر بالتعليم الحكومي (فالمؤسسات الخاصة عادة ما تتمتع بشيء من الحرية في إعداد البرامج الخاصة بها). وهل سيوافق هؤلاء المتشددون على إنهاء الفصل بين الجنسين في التعليم وتوفير مساحة أكبر للموسيقى والفنون وغير ذلك من أشكال التعبير عن الذات والعلوم والمظاهر التي ينظر إليها بأنها غير إسلامية، كتعليم نظرية داروين على سبيل المثال؟

وفي عام 2009، أطلقت مجموعة من رجال الدين السعوديين، بمن فيهم مثقفون وأساتذة جامعات، على خطط الاصلاح في ذلك الوقت بأنها تصدر من “زمرة” معروفة “باتجاهاتها الغربية المنحرفة” والتي كانت أيضا بمثابة “عيون وآذان العدو الأجنبي” في البلاد. وبينما تتفاوت درجة تأثر العائلات الخليجية الحاكمة وتخوفها من المقاومة الدينية من دولة إلى أخرى، إلا أن التحديث لم ولن يكون سهلا أبدا في تلك البلاد وعلى الخبراء أن يتوخوا الحذر في هذا الصدد.

في المقابل، يجب أن نقر بأن المال على الأقل لا يشكل أي عائق في سبيل تحقيق الغرض المنشود في المنطقة. فقد بلغ الإنفاق العام على التعليم خلال السنوات الماضية حوالي 20 في المئة من إجمالي الإنفاق الحكومي في دول مجلس التعاون الخليجي، ووفقا لوسائل الاعلام المحلية، سيصل إجمالي الإنفاق حوالي 150 مليار $ في السنوات القادمة.

إلا أن التحدي الأكبر قد يكمن خارج النظام التعليمي أو المؤسسة التعليمية. فقد تبدو دول الخليج بأنها غربية الطابع، لكنها ليست كذلك في حقيقة الأمر. فضمان فرص العمل واقتناء سيارات الفيراري الفارهة ليس مجرد مؤشرات على التفاخر في المجتمع الخليجي أو وسيلة لضمان صمته (فذلك يساعد بعض الشيء)، بل جزء من الموروث التقليدي القبلي في الخليج العربي. حيث يفترض على كل شيخ عشيرة قوي أن يظهر اهتماما بشؤون أفراد عشيرته. “الواسطة” هي الأخرى لها خلفيات قبلية ويتم استخدامها في ترتيب العلاقات بين العائلات والعشائر والقبائل لعدة قرون.

بالتالي، لا يكفي أن نستنسخ أفضل الممارسات الغربية في دول الخليج العربي، وقد لا يكون من الضروري حتى استنساخ هذه الممارسات. فشركات الخليج العربي على سبيل المثال قد تحتاج مدراء مدربين على النمط الغربي، إلا أنها تحتاج في المقابل إلى مدراء متمرسين في فن التفاوض العربي.