في عام 1962، ورثت الجزائر المستقلة حديثاً منظومةً تعليمية هجينة بين التعليم الفرنسي والتعليم العربي الحر والتعليم الطرقي (التعليم داخل الزوايا وهي منظمات دينية مؤسسة من طرف شيخ صوفي مشهور منذ قرون مضت). فالمدرسة الفرنسية في الجزائر كانت تلقن مرتاديها تعليماً فرنسياً لا يختلف عن التعليم المطبق في فرنسا من حيث المناهج. ومع ذلك، لم يكن هذا التعليم بمكوناته المذكورة يتوافق مع مقومات الأمة الجزائرية وتطلعات الشعب الجزائري الذي ضحى بخيرة شبابه من أجل استرجاع كرامته وثقافته العربية الإسلامية.
أما التعليم العربي الحر فقد كان موروثاً من الحركة الوطنية وجمعية العلماء المسلمين الجزائريين التي كانت لها مدارس ومعاهد منتشرة في المدن والأرياف. فقد كان للحزب الوطني الاستقلالي (حزب الشعب) حركة منتشرة في الأوساط الشعبية تقدم دروساً وتعليماً حرا لأبناء الشعب.
وفي الوقت نفسه، كان لمدارس الزوايا حظاً من التعليم كان منتشراً في المقام الأول في الأرياف وبعض المدن وبدرجة واسعة في مناطق الجنوب البعيدة عن سلطة الإدارة الفرنسية.
وبعد الإستقلال، كان على الدولة الوطنية أن تولي الجانب التعليمي الاهتمام والرعاية، ومن هنا جاء التفكير في تأسيس تعليم يتوافق مع المتطلبات الفكرية والحضارية للشعب الجزائري الذي ظل محروماً منه طيلة الفترة الاستعمارية.
الإنقسام ما بعد الإستقلال
واجه القائمون على الحكم في الجزائر بعد إعلان الاستقلال تحدياتٍ كبيرة في قطاع التعليم، حيث بلغت نسبة الأمية بين الشعب الجزائري أكثر من 90%، ومما زاد من تعقيد الوضع آنذاك هو الهجرة الجماعية للمستوطنين الأوروبيين، فقد هاجر البلاد في سنة 1962 نحو 18000 معلم من أصل 23,500 (أي ما نسبته 59,76%) من المعلمين و1400 أستاذ من أصل 2000 (أي ما يمثل 70% من الأساتذة). أحدث ذلك فراغاً كبيراً حيث لجأت الجزائر إلى الاستعانة بالمعلمين والأساتذة من بعض الدول العربية والأوروبية والآسيوية، الذين لم يستوفوا في كثير من الأحيان المستويات التعليمية المطلوبة لشغل المناصب.
شكان لذلك انعكاساته السلبية على جودة التعليم، ووجدت الجزائر المستقلة نفسها مقسمة في مجال التعليم إلى قسمين: إذ كان هناك تعليم جزائري وطني تابع للدولة الجزائرية من جهة، وتعليم فرنسي أجنبي يشرف عليه المكتب الجامعي الثقافي الفرنسي بالسفارة الفرنسية من جهة أخرى. بقيت آثار هذا الإنقسام إلى اليوم، مع نزاعٍ مازال قائماً بين المعربين والفرنكفونيين فكل واحدٍ يرى في منهجه الأصلح. وبسبب هذا الوضع المتردي كان على المسؤولين في الجزائر أن يدبروا حلولاً عاجلة وسريعة لإلحاق الأعداد المتزايدة من الأطفال بالتعليم، وتوفير الأماكن والأساتذة.
الجزائر تؤسس لمنظومتها التعليمية بعد الاستقلال
اعتبرت الجزائر التعليم عنصراً أساسياً لأي تغيير اجتماعي وثقافي واقتصادي، ونتيجةً لذلك، شكلت السياسة التعليمية الجزائرية العامة إحدى الأولويات الأساسية في السياسة التنموية الشاملة التي اتبعتها الجزائر مباشرة بعد الاستقلال. فوضعت نصوصاً ومواثيق أساسية في الدستور كمرجعية تستمد منها الإصلاحات الجذرية التي شملت مختلف الأطوار التعليمية. وما يدعم هذه السياسة هو صدور النصوص التشريعية التي وضعت المعالم والأسس القانونية لتنظيم التعليم في الجزائر، والتي ترتكز على عدة محاور أساسية، من أبرزها؛ تأصيل الروح الوطنية والهوية الدينية والثقافية لدى الشعب الجزائري، ونشر قيمه الروحية والحضارية واختياراته الأساسية، وتثقيف الأمة بتعميم التعليم والقضاء على الأمية، وفتح باب التعليم أمام الجميع، وتكريس مبادئ التعريب والديمقراطية والتوجيه العلمي والتقني، وأهم بند فيها وهو ضمان مجانية التعليم للجميع.
منذ الاستقلال، مرت المنظومة التعليمية في الجزائر بعد الاستقلال بأربع محطات رئيسية هامة. أولها مرحلة التأسيس واستعادة الهوية (1962 إلى 1970): حيث نصبت أول لجنة وطنية لإصلاح التعليم في الجزائر مهمتها الإعداد لمنظومة تعليم وطنية تتماشى والهوية الجزائرية بعيداً عن ما تم توارثه عن المستعمر الفرنسي. بعدها جاءت المرحلة التي تأسست فيها المنظومة التعليمية (1970 إلى 1980): وكان من أولوياتها تعريب التعليم وجزأرته (جعله جزائرياً من حيث المنهج وكذلك من حيث المعلمين والإطارات المشرفة عليه)، بالإضافة إلى توحيد التعليم من حيث المناهج والامتحانات والإشراف الحصري للدولة الجزائرية عليه.
وتلتها مرحلة إصلاحات الجانب الهيكلي للمنظومة التعليمية، واستكمال مسيرة التعريب التعليم من سنة (1980 إلى 2000) وفيها تم تنصيب لجنة إصلاح للتعليم الأساسي التي غيّرت بالفعل المدرسة الأساسية من حيث محتواها وأعِدّت أوقات وبرامجُ ومناهج تدريس جديدة كما تمّ تأليف كتب مدرسية ووسائل تعليمية جديدة.
وبعدها برزت مرحلة الانفتاح والخصخصة ابتداء من سنة 2000، وإصدار قانون التوجيه التربوي الوطني الذي يحدد مهمة المدرسة من حيث القيم؛ وتأكيد الشخصية الجزائرية وتوحيد الأمة، وتعزيز والحفاظ على القيم المتعلقة بالإسلام والعربية والأمازيغية، والتدريب على المواطنة والانفتاح والاندماج في الحركة العالمية للتقدم. كما عرفت هذه المرحلة فتح الباب للقطاع الخاص للاستثمار في جانب التعليم في خطوة غير مسبوقة وصادمة للمجتمع الجزائري.
يجب أن نشير هنا إلى أن الأمور تدهورت إبان العشرية السوداء (1990-2000) عندما عانت الجزائر من أزمة أمنية شديدة طالت فيها أيادي الإرهاب الهمجي المؤسسات التعليمية فهدمتها، وأزهقت أرواح العديد من المعلمين والمعلمات والطلاب، وهجر قاطني القرى والمداشر، وأحرقت الكتب والمدارس، فكان التشريد والدمار والخراب والعزوف عن متابعة الدراسة. كما أن النزوح إلى المدن هروباً من الإرهاب جعل المؤسسات التعليمية عاجزة عن استيعاب العدد الهائل من التلاميذ، وأدى إلى اكتظاظ الأقسام وفتح الأقسام المشتركة ونظام الدوامين مع النقص الفادح في الإطارات التعليمية، الأمر الذي أدى إلى تدهور وانتكاسة التعليم التي لا زالت آثارها لم تندثر بعد، رغم بوادر التعافي.
انهيار التعليم للجميع
إن ديمقراطية التعليم تعني في الحقيقة ديمقراطية التعلم، أي جعل التعلم حقاً من حقوق المواطنين، ومنع احتكاره وقصره على فئة معينة كما كان في عهد الاستعمار الفرنسي. فقد كان عدد الجزائريين الذين يتمكنون آنذاك من الالتحاق بالتعليم قليلاً وعدد الذين يستطيعون منهم أن يواصلوا تعليمهم ليصبحوا أطباء ومحامين وصيدلانيين ومهندسين يُعد على الأصابع.
وما إن قامت الدولة الجزائرية بعد الاستقلال، حتى رفعت شعار ديمقراطية التعليم ونشره بين جميع فئات المواطنين على حد سواء في جميع أرجاء الوطن في المدن والقرى والأرياف. حيث يمكن أن نقول أنه لم تنقضي عشر سنوات عن الاستقلال حتى أصبح التعليم في جميع مستوياته الابتدائية والمتوسطة والثانوية والجامعية مجاناً وفي متناول جميع الجزائريين.
و ما حصل في سياسة التعليم في الجزائر خلال نصف القرن الماضي هي أن ديمقراطية التعليم قامت على التسوية بين المواطنين في التعلم لكن هذه التسوية في التعلم سرعان ما انزلقت من التسوية في الحقوق إلى التسوية في الاستحقاق الذي قام هو الآخر على فكرة إهمال الفروق الفردية في الكفاءة والتفوق، والاهتمام بالكم على حساب النوعية.
ولعل من أبرز الأسباب التي أدت إلى تدهور مستوى التعليم في الجزائر بالإضافة إلى ما تم الإشارة إليه سابقا هي الواقع المادي المزري للمعلمين الجزائريين في مختلف المستويات. فالمعلم الجزائري
هذا التدني في مستوى التعليم كشف عنه مؤخراً مؤشر دافوس الخاص بقياس جودة التعليم خلال سنة 2016، في تقريره الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس، بعد اجتماعه السنوي في منتجع دافوس الشتوي بسويسرا، عن احتلال الجزائر المرتبة 11عربياً و119عالمياً من حيث جودة التعليم ومستوياته، وذلك من أصل 140 دولة على مستوى العالم.
إصلاحات متواصلة للمنظومة التعليمية وعثرات متكررة
تواصلت إصلاحات المنظومة التعليمية في الجزائر وتواصلت معها العثرات المتكررة. ففي يوليو 2015 اكتشف خطأ في امتحان البكالوريا للغة العربية أثناء إجرائه في مدارس الجزائر بنهاية العام الدراسي، حيث امتحن الطلبة بقصيدة للشاعر محمود درويش في حين أنها كانت في الواقع لنزار قباني، اهتم الإعلام بالموضوع واعتبره فضيحة، في حين اعتبرته وزيرة التعليم نورية بن غبريط، مؤامرة موجهة ضدها.
وفي مطلع سبتمبر 2016، قررت وزارة التربية في الجزائر سحب كتاب الجغرافيا الجديد للصف الأول من المرحلة الإعدادية بعد توزيعه على التلاميذ، بسبب ما اعتبره البيان خطأ مطبعياً بوضع إسم إسرائيل على الخريطة بدل فلسطين، وهو الأمر الذي لاقى سخطاً كبيراً في الأوساط الشعبية وعند الطبقة المثقفة معتبرة الحادثة سابقة خطيرة وهفوة لا يمكن تجاوزها بحكم الموقف الثابت للجزائر من إسرائيل.
تطرح الفضائح التربوية المتلاحقة في الجزائر أسئلةً جدية عن طبيعة التعديلات التي تشهدها المناهج التعليمية في إطار إصلاحٍ لا يُعرف من ملامحه الكثير حتى الآن، إلا أنه يقابل بقدر كبير من التحفظ والتوجس، وتنقسم الآراء بشأنه بين من يراه أداة تغريب ومن يعتقد أنه وسيلة للتحديث، وتحتفظ الوزيرة بن غبريط بموقع مركزي في الجدل الدائر حالياً بشأن الموضوع.
إصلاح نظام التعليم الجزائري رغم نقائصه يبقى تجربة ينبغي أن يُستلهم منها
بلغت نسبة ارتياد المدارس في الجزائر 98,5% في سنة 2018. ورغم ذلك فقد اعترفت نورية بن غبريت بوجود صعوبات في التعلم لدى التلاميذ، خاصة في مادة الرياضيات والعلوم. مصرحة أن “ارتياد المدارس لا يعني بالضرورة التعلم.” وفي هذا الصدد، اعتمدت الوزيرة على عمليات التقييم المختلفة التي أدت إلى تحديد الكثير من الأخطاء. كما قالت أن نتائج هذه التقييمات أظهرت أن التلاميذ ليس لديهم المهارات الكافية لمواجهة تحديات الألفية الثالثة مثل التفكير النقدي والإبداع والمشاركة والتواصل والعلاقة مع وسائل الإعلام والتكنولوجيا والمرونة والمبادرة والتفاعل وغيرها.
وقال السيد معاد بوشارب، رئيس المجلس الشعبي الوطني، أنه “على وزارة التربية والتعليم مواجهة التحدي المتمثل في الجودة وفقاً للمعايير الدولية للدخول في المنافسة، وتحسين الفرص وفقاً للمتطلبات الدولية التي تمكن للجزائر من الاندماج على الصعيد العالمي مع الحفاظ على خصوصياتها.”
من جهتها، قالت مديرة قسم المغرب العربي ومالطا، والشرق الأوسط وشمال أفريقيا في البنك الدولي، السيدة ماري فرانسواز ماري نيللي، إنها “تأثرت كثيرا بـجودة العمل الذي قامت به الجزائر لإصلاح نظامها التعليمي، معتقدة أن الدول الأخرى يجب أن تستلهم من ذلك.”
وقالت ماري فرانسواز ماري نيللي في تغريدة لها على تويتر بعد اجتماعها في الجزائر العاصمة مع وزيرة التربية الوطنية في شهر ديسمبر 2018، إلى أن الجزائر تبذل جهوداً كبيرة على المدى الطويل، وأن هذه الجهود “ينبغي تشجيعها ودعمها،” مشددةً على أن العديد من الدول يجب أن تستلهم مما قامت به الجزائر في هذا المجال.