في كل عامٍ ولمدة خمسة أيامٍ في شهر أكتوبر، تجذب مدينة دسوق الصغيرة في دلتا النيل في مصر ملايين الزوار لتصبح مركزاً للصوفية في البلاد.
المناسبة هي الاحتفال بمولد الشيخ الصوفي، الولي إبراهيم الدسوقي، الذي عاش في مدينة دسوق في القرن الثالث عشر، ويقع ضريحه في مسجدٍ وسط المدينة.
أثناء المولد، تنقلب المدينة رأساً على عقب، حيث تعجّ شوارعها بالناس وأماكن الجذب. تقدّم عروض السيرك مثل المهرجين والسحرة ورماة السكاكين والثعابين والأقزام ودوامات الخيل والسيارات التصادمية والدوامات المرتفعة.
وقال محمود السيد، أحد الفلاحين من قرية مليج، لفَنَك “يأتي الناس من كل مكانٍ إلى هنا، وعادةً ما يستأجرون مكاناً للإقامة طوال الأسبوع.” غالبية الزوّار من الفلاحين، الذين عادةً ما يُسافرون لساعاتٍ ضمن حافلاتٍ منظمة من قرى دلتا النيل وخارجها.
أما أولئك الذين لا يستطيعون تحمل تكاليف السكن يبقون في الشوارع أو في مسجد إبراهيم الدسوقي نفسه، الذي يُصبح مكدساً بالأشخاص الذين ينامون ويأكلون على الأرض. تُترك بعض الممرات الصغيرة ليعبر منها الآخرون لزيارة ضريح الدسوقي، حيث يتدافعون نحو القبر للإمساك بقضبانه والصلاة. كما يلمس المصلون حجراً في جدران المسجد يقال إنه يحتوى على أثر قدم النبي إبراهيم، للتبرك به.
وبحسب قول السيد، “يُعرف إبراهيم الدسوقي باستجابته لصلوات الناس عن طريق إيصالها إلى الله، أياً كان ما تطلبه، سيحصل.” وأضاف “عندما أصل إلى المسجد وأقف بالقرب من قبره، أشعر بعظمته وهيبته.”
يتجلى الطابع الديني للمولد أيضاً من خلال وجود العديد من الشيوخ من مختلف الطرق الصوفية الذين يقودهم مؤدون صوفيون غالباً ما يتمتعون بالشهرة. يعزفون الموسيقى الصوفية، بينما يؤدي العديد من الحضور الذِكر، وهو شكلٌ من أشكال الحركات الروحية أثناء ترديدهم أسماء الله الحسنى- دون مزجها بالرقص. بينما يجلس آخرون وهم ينصتون بصمت، ويدخنون الشيشة.
إبراهيم الدسوقي هو مؤسس الطريقة الدسوقية، والتي تُعرف أيضاً بإسم البُرهامية. يُنسب إليه قدرٌ كبيرٌ من الأعمال الصالحة، أو الكرامات، فعلى سبيل المثال، يُقال أنه أنقذ صبياً صغيراً كان يلتهمه تمساحٌ بعد أن أمر التمساح ببصق الصبي وهو على قيد الحياة.
يعتبر مولد الدسوقي واحداً من العديد من الموالد التي تُقام في مصر. فمدينة طنطا، في دلتا النيل أيضاً، موطن مولد السيد البدوي، مؤسس الطريقة الصوفية البدوية. بينما تحتفل الاسكندرية بالشيخ الصوفي أبو العباس المرسي. وعلى غرار الدسوقي، جميعهم ينحدرون من القرن الثالث عشر. وفي القاهرة، تُقام ثلاثة موالد كبيرة للاحتفال بحفيد النبي محمد، الحسين، وحفيدته السيدة زينب، والسيدة نفيسة من أهل البيت.
تُقام أشهر الموالد في صعيد مصر تكريماً لعبد الرحيم القناوي في مدينة قنا. ويُقام في جنوب مرسى علم، مولد أبو الحسن الشاذلي، تكريماً للشيخ الصوفي الذي توفي في طريقه إلى مكة لأداء الحج. بالإضافة إلى ذلك، تُقام العديد من الموالد الأصغر حجماً، ففي قرية مليج، التي ينحدر منها السيد، كان يُقام مولدٌ كبير تكريماً للشيخ علي الوصال، إلا أن الشرطة ألغته قبل عدة سنواتٍ لدواعي أمنية. فقد اندلعت شجاراتٌ عنيفة خلال آخر احتفالٍ بحسب قول السيد، واليوم، يتم الاحتفال بالمولد في ليلةٍ واحدة فقط وبمغنٍ واحد.
لا يُحب جميع من في مصر الموالد، إذ يعتبرها السلفيون وجماعة الإخوان المسلمين محرمةً في الإسلام، ذلك أنهم يرفضون تبجيل “الولاة” والحج إلى أي مكانٍ آخر غير مكة المكرمة. وبينما يعتبر السيد الولي إبراهيم الدسوقي وسيطاً للاستجابة لصلواته، يعتبر مسلمون آخرون أن العلاقة في الإسلام بين العبد والله مباشرة، ولا مكان لأي شخصٍ بينهما.
وعلاوةً على ذلك، تعتبر التيارات الأكثر تحفظاً وتشدداً الموسيقى والرقص، وحتى الذِكر، من المحرمات في الإسلام.
أحمد، على سبيل المثال، وهو مسلمٌ في العشرينيات من عمره وينحدر من مدينة المحلة، لا يرتاد الموالد، إذ يقول، “بالتأكيد لا، أعتقد أنها مجرد أعمالٍ تجارية قذرة لجني المال من الأشخاص الجاهلين.” وأضاف لنا في فَنَك، “لا يعرفون أي شيء عن الدين.”
بالنسبة لأحمد، الموالد “ليست إسلامية.” إذ يعتقد أحمد أن “الصوفيين فقط من يذهبون إليها، وليس الآخرون، مثل السلفيين،” بالرغم من اعترافه بالصوفية كجزءٍ من الإسلام. ويُضيف “ولكن ما يفعله الأشخاص الذين يُطلقون على أنفسهم إسم صوفيين اليوم لا يمت بصلةٍ للإسلام، بل أقرب إلى الشيعة.” ولكنه يؤكد أن تقليد المولد بحد ذاته الأمر السيء، وليس الأشخاص “أنا لا أتفق معهم.”
كما كان الصوفيون أيضاً هدفاً للمتطرفين الذين يستخدمون العنف. فقد قامت جماعةٌ متطرفة تابعة لتنظيم القاعدة بتفجير أضرحةٍ صوفية في تمبكتو في مالي، وأضرمت مجموعات سلفية النار في مزارين في تونس في عام 2013. كما استُهدف صوفيون في باكستان، بما في ذلك خلال تفجيرٍ كبير في أحد المزارات الصوفية في عام 2017، مما أدى إلى مقتل أكثر من 70 شخصاً، فضلاً عن تفجيرٍ آخر في شهر أكتوبر من ذات العام. كما قتلت جماعةٌ تابعةٌ لتنظيم الدولة الإسلامية تنشط في وسط سيناء داعيةً صوفي في عام 2016 وحذرت من أنها لن تسمح بممارسة الشعائر الصوفية. ووقع الهجوم الأكثر دراماتيكية في نوفمبر 2017، عندما هاجم تنظيم الدولة الإسلامية مسجداً يرتاده صوفيون في شمال سيناء، مما أسفر عن مقتل أكثر من 300 شخص.
السيد من أتباع الطريقة الرفاعية الصوفية، التي يقول أنها متوارثة من الأب إلى الأبناء. “يذهب الصوفيون الحقيقيون إلى جميع ليالي الذِكر التي تنظمها الطريقة الصوفية التي يتبعونها ويذهبون إلى الموالد.”
وقال إتش إي هيلير، الباحث في الدراسات الإسلامية في المجلس الأطلسي، لفَنَك أن هناك مستويات مختلفة من الالتزام بالطرق الصوفية. “إن كونك جزءاً من طريقةٍ ما يعني عموماً اتباع نهجٍ معين لتطوير وتنمية علاقتك بالله.”
وأضاف أنها يمكن أن تكون علاقةً رمزية بالطريقة أو بشيخها، منها على سبيل المثال وبكل بساطة محبة والصلاة للولي. بينما يقوم آخرون بقراءة الأوراد أو تعاليم أو مذكرات الولي، أو أنهم يتبعون الشيخ باعتبارهم مُريدين (تلاميذ). ويوضح هيلير هنا “في هذه الحالة، يكون شيخ الطريقة معلمهم ويساعدهم في تعلّم كيفية تطوير علاقتهم مع الله.”
يُثير الحديث مع المصريين المسلمين حول الموالد ردود فعلٍ مختلفة التي غالباً ما تصل إلى نقاشاتٍ محتدة. يقول البعض أن الصوفية تتعارض مع الإسلام السني السائد. “في الصوفية، يذهب الناس إلى الشيخ ليقربهم من الله، بينما بحسب السنة، لا وسيط بين الإنسان والله،” هذا ما قاله العديد من المؤمنين لفَنَك. كما يعتقدون أن الصوفية بدعة تُستخدم لوصف ممارسةٍ دينية جديدة تنحرف عن الإسلام. بينما لا يرفض آخرون الصوفية، إلا أنهم يعتبرون المعتقدات المحيطة بالموالد والولاة مجرد خرافات.
يرفض هيلير فكرة الفصل بين الصوفية والإسلام السني، إذ يقول “التصوف اتجاهٌ سائد ومعياري ومتشدد.”
وبحسب قوله، “قبل ظهور السلفية في القرن الثامن عشر، كانت فكرة أن كون الصوفية باعتبارها علم جماعي، بدعة، مجرد هراء.” وأَضاف “تأثرت المؤسسات القديمة في جميع أنحاء العالم الإسلامي بالصوفية أو شكلتها بطريقةٍ أو أخرى، ومن الواضح أن الصوفية جزءٌ لا يتجزأ من التعاليم الإسلامية التقليدية.” فعلى سبيل المثال، أثر التصوف بشكلٍ كبير على الأزهر في مصر، كما أن شقيق الإمام الأكبر أحمد الطيب زعيم طريقةٍ صوفية هامة.
يأتي نبذ الصوفية من صعود السلفية في المنطقة، كما يقول هيلير، ومن اتجاهٍ أكثر عمومية للحداثة يفصل الدين عن الروحانية، مما ينكر حقيقة التعالي الباطن في العالم.
بينما جادل البعض بأن شعبية الصوفية وانتشارها على نطاق واسع يجعلها وسيلةً أيديولوجية قوية لردع الناس عن التطرف وأن يتم تجنيدهم من قبل جماعات مثل القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية. وقال الخبير في شؤون سيناء مهند صابري لصحيفة الإندبندنت بعد الهجوم الكبير الذي وقع في نوفمبر 2017: “إن المجتمع الصوفي في شمال سيناء… ردع بقوة انضمام الآلاف من الشباب إلى صفوف داعش وواصل إشراكهم على المستويات الاجتماعية والفكرية، والأهم من ذلك، على المستويات الدينية.”
بينما يرى هيلير الأمر بطريقةٍ مختلفة. “الصوفية ليست تكتيكاً مضاداً للتطرف. إنها طريقة دينية للوصول إلى معرفة الله.” وأضاف “إن النظر إلى الصوفية باعتبارها رداً على التطرف تصرف نظرنا أيضاً عن فهم الدوافع السياسية والاجتماعية والاقتصادية لأولئك الذين يتحولون إلى التطرف، بينما يضع الصوفية أيضاً ضمن نطاق الخدمة السياسية للدولة.”