وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

السياسة الخارجيّة البحرينيّة: نافرة من بين الدول العربيّة

لقد اتخذت السياسة الخارجية البحرينية منعطفاً مميزاً، حيث تتماشى بشكل وثيق مع المواقف الغربية، وخصوصًا الأمريكية، في المنطقة.

السياسة الخارجيّة البحرينيّة
متظاهرون يلوحون بالأعلام الفلسطينية خلال اعتصام تضامني مع قطاع غزة في المنامة. مازن مهدي / أ ف ب

علي نور الدين

منذ بداية الحرب الإسرائيليّة على قطاع غزّة في تشرين الأوّل/أكتوبر 2023، اختارت البحرين سياسة خارجيّة نافرة واستثنائيّة، مقارنة بمواقف جميع الدول العربيّة الأخرى على تنوّعها.

فالموقف البحريني، بات يُعتبر اليوم الموقف العربي الأكثر تماهيًا مع المواقف الغربيّة – وخصوصًا الأميركيّة – في المنطقة، سواء في ما يخص الحرب على غزّة، أو في ما يتعلّق بالنزاعات الأخرى التي ارتبطت بهذه الحرب، مثل اضطرابات البحر الأحمر قرب الشواطئ اليمنيّة.

كل هذا المشهد، يطرح أسئلة عديدة، تختصُ بالمصالح والحسابات التي تدفع النظام البحريني باتجاه سياسة خارجيّة من هذا النوع، بالإضافة إلى الأهداف التي يسعى النظام إلى تحقيقها من مواقفه الراهنة.

وفي الوقت عينيه، ثمّة حاجة ملحة للبحث في طبيعة التوازنات السياسيّة الداخليّة القائمة في البحرين نفسها، والتي تجعل النظام يذهب بعيدًا في هذا النوع من التوجّهات، بمعزل عن المزاج العام في الشارع العربي.

السياسة الخارجيّة البحرينيّة قبل الحرب

في واقع الأمر، كانت البحرين قد بدأت بتكريس هذه السياسة الخارجيّة قبل اندلاع الحرب على قطاع غزّة. ففي شهر أيلول/سبتمبر 2023، وبخلاف الدول الخليجيّة العربيّة الأخرى التي كانت توازن في علاقاتها بين الشرق والغرب، اختارت البحرين أن توقّع مع الولايات المتحدة الأميركيّة “اتفاقيّة التكامل الأمني والازدهار الشامل”. وكان هدف الاتفاقيّة، كما أكّد وزير الخارجيّة الأميركي أنتوني بلينكن، توسيع التعاون الأمني والدفاعي بين البلدين، وتطوير العلاقات الاقتصاديّة بينهما، بالإضافة إلى تعميق التعاون العلميّ والتقنيّ في مجالات الأمن الرقمي.

ببساطة، لم تكن هذه الاتفاقيّة مجرّد خطوة روتينيّة لتنظيم العلاقات الدفاعيّة القائمة أصلًا بين الولايات المتحدة والبحرين، والتي يكرّسها تمركز مقر الأسطول الخامس الأميركي بشكلٍ دائمٍ في البحرين، منذ إعادة تشكيله في العام 1995.

وأهميّة الاتفاقيّة الجديدة تمثّلت في سعيها إلى تطوير التنسيق العمليّاتي والميداني بين القوّات المسلّحة في البلدين، بهدف تأمين ممرّات الشحن والتجارة الحيويّة في منطقة الخليج العربي. كما فتحت الاتفاقيّة الجديدة باب التخطيط المشترك لمواجهة التهديدات الأمنيّة الإقليميّة، بما في ذلك الاتفاق على “قواعد الاشتباك الخاصّة” التي يمكن أن تنتج عن أي مخاطر عسكريّة.

هكذا، كان من الواضح يومها أنّ البحرين اختارت أن تعمّق علاقتها الدفاعيّة والعسكريّة مع الولايات المتحدة، لمواجهة التهديد الإيراني في منطقة الخليج. وبدا أنّ الكثير من مندرجات الاتفاقيّة تتعامل تحديدًا مع النفوذ الأمني والعسكري الإيراني في المنطقة، وخصوصًا عند الحديث عن تحديث الخطط الأمنيّة على نحو نصف سنوي، لوضع جهود مشتركة تردع التهديدات الخارجيّة. كما ظهر ذلك في البنود التي تنص على تشكيل مجموعات عمل مشتركة بين الطرفين، لمراجعة التقدّم في وضع خطط الردع ومواجهة احتمالات الاعتداء الخارجي.

دول الخليج العربيّة: اتجاه معاكس للسياسة الخارجيّة البحرينيّة

وعلى أي حال، وخلال تلك المرحلة، كان سائر أعضاء مجلس التعاون لدول الخليج العربيّة يسيرون بالاتجاه المعاكس كليًا للسياسة الخارجيّة البحرينيّة.

فقبيل اندلاع الحرب على غزّة، كان ولي العهد السعودي محمد بن سلمان يستكمل مسار المصالحة مع إيران، كما كان يحاول تفادي أي خطوات يمكن أن يعتبرها النظام الإيراني تهديدًا لمصالحه الإستراتيجيّة في المنطقة. أمّا النظام القطري، فكان يتمسّك بالعلاقة الإيجابيّة مع الولايات المتحدة الأميركي كحليف، وإنمّا بالتوازي مع الحفاظ على العلاقات الإقتصاديّة والدبلوماسيّة والسياسيّة الجيّدة مع إيران.

وحتّى دولة الإمارات العربيّة المتحدة، كانت تعمل في تلك المرحلة –قبل الحرب- على إنضاج مصالحتها مع الإيرانيين، بعد استعادة العلاقات الدبلوماسيّة بين البلدين في آب/أغسطس 2022. وفي المقابل، حافظت سلطنة عمان والكويت على علاقاتهما المتوازنة وغير المتشنّجة مع النظام الإيراني، بعيدًا عن الاصطفاف الحاد إلى جانب الدول الغربيّة في مواجهة النفوذ الإيراني في منطقة الخليج.

على هذا النحو، شكّلت السياسة الخارجيّة البحرينيّة استثناءً خليجيًا واضحًا. وبالتوازي مع توقيع هذه الاتفاقيّة، كانت التشنّج يعود إلى العلاقات البحرينيّة الإيرانيّة، من زاوية تصويب النظام الإيراني على ملف حقوق الإنسان في دولة البحرين، في مقابل استياء البحرين من تدخّل الإيرانيين في شؤونها الداخليّة.

ومن المعلوم أن النظام البحريني يملك حساسيّة تاريخيّة معروفة تجاه محاولات إيران التدخّل في هذا الملف الحسّاس. إذ أنّ الثقل الديموغرافي الشّيعي في البحرين، لطالما دفع حكام البحرين السنّة من آل خليفة للخوف من محاولة الإيرانيين استغلال الاستقطاب الطائفي، لقلب نظام الحكم في البحرين.

السياسة الخارجيّة البحرينيّة بعد حرب غزّة

بمجرّد اندلاع الحرب، كانت البحرين مجددًا استثناءً واضحًا، مقارنة بسائر الدول العربيّة. ففي أيّام الحرب الأولى، شاركت البحرين جيرانها الإماراتيين في إدانة ممارسات حركة حماس، التي اعتبرها ولي العهد البحريني سلمان بن حمد آل خليفة “بربريّة ومروّعة وعشوائيّة”، بسبب “اختطافهم للرهائن والتفاوض عليهم” في سياق الحرب الجارية.

وعلى الرغم من أن بن حمد وازن ما بين إدانة حركة حماس وإدانة القصف الإسرائيلي على غزّة، جاءت مواقفه –إلى جانب الموقف الإماراتي- مخالفة لموافقة سائر الدول العربيّة. ففي ذلك الوقت، كانت الدول العربيّة الأخرى تشدد على المطالبة بوقف الحرب كمطلب أساسي ووحيد، دون الاستطراد ومقارنة أداء حركة حماس بأداء الجيش الإسرائيلي، على نحوٍ يمكن أن يبرّر بشكلٍ ما الحرب الدائرة على قطاع غزّة.

في وقتٍ لاحق، أعلن مجلس النوّاب البحريني، تحت وطأة ضغط الشارع، مغادرة السفير الإسرائيلي المملكة في تشرين الثاني/نوفمبر 2023، وقطع العلاقات الاقتصاديّة مع إسرائيل، “تأكيدًا للموقف البحريني التاريخي الراسخ في دعم القضيّة الفلسطينيّة”. غير أنّ الحكومة البحرينيّة سرعان ما أوضحت بعدها أن السفير الإسرائيلي كان قد غادر المنامة “منذ فترة”، لأسباب لا ترتبط بما أعلنه بمجلس النوّاب، وأن السفير “عاد إلى المملكة مجددًا”. ثم سرعان ما أكّدت إسرائيل ذلك، مشيرة إلى استقرار علاقاتها مع البحرين، التي بدأت في سياق “اتفاقيّات أبراهام” عام 2020.

على أي حال، لم تكن البحرين الدولة العربيّة الوحيدة التي حافظت على علاقاتها الدبلوماسيّة مع إسرائيل، بعد اندلاع الحرب على غزّة. غير أن البحرين سرعان ما أصبحت الدولة العربيّة الوحيدة التي أبدت استعدادها للانضمام إلى “تحالف حارس الازدهار” بقيادة الولايات المتحدة الأميركيّة، وذلك بهدف مواجهة العمليّات البحريّة الحوثيّة، التي استهدفت السفن الإسرائيليّة والسفن المتجهة إلى إسرائيل.

وقد جاءت هذه الخطوة بعد مواقف حادّة عبّرت وزارة الخارجيّة البحرينيّة، رفضًا لأي تهديد يمكن أن يطال “حريّة الملاحة الدوليّة سواء في باب المندب أو مضيق هرمز، وفي البحر الأحمر أو بحر العرب أو الخليج العربي.”

وبعد أولى المهمّات القتاليّة التي قامت بها القوّات الأميركيّة والبريطانيّة ضد الأهداف العسكريّة الحوثيّة، كان من اللافت إعلان الرئيس الأميركي جو بايدن عن تقديم البحرين “الدعم” لهذه العمليّات، دون أن يوضح طبيعة هذا الدعم. غير أنّه من المرجّح، نظرًا لطبيعة القدرات التي تملكها البحرين في المنطقة، أن تكون القوّات الأميركيّة قد استعانت بقواعدها الجويّة ومخازنها الموجودة أساسًا في البحرين، لتنفيذ هذه الضربات في اليمن. ومجددًا، كانت البحرين الدولة العربيّة الوحيدة التي شاركت في دعم هذه العمليّة.

حسابات النّظام البحريني ومصالحه

لم تمر كل هذه المواقف دون إثارة حفيظة الشارع البحريني، الذي خرج في مظاهرات رافضة مشاركة بلاده في العمليّات العسكريّة إلى جانب الولايات المتحدة. وكان من اللافت أنّ المعارضة القويّة لهذه الخطوات لم تقتصر على القوى الشيعيّة التقليديّة، التي لطالما اعترضت على سياسات النظام في السابق، وقد شملت الكثير من القوى والشّخصيّات السنيّة المؤثّرة، البعيدة في العادة عن أجواء المعارضة الشيعيّة.

ويبدو أن انتماء حركة حماس لتنظيم الإخوان المسلمين، الذين يملكون حضورًا مؤثّرًا في البحرين، ساهم في حشد قوى الإسلام السياسي السنيّة، ضد سياسة النظام الخارجيّة الراهنة.

لكن في المقابل، يبدو أن النظام البحريني يملك حساباته الخاصّة، المختلفة عن حسابات الشارع. فالنظام يذكر جيدًا تجربة العام 2011، حين هددت الاحتجاجات –المتأثّرة بمشهد الربيع العربي- استقرار الحكم، قبل أن تتمَّ الاستعانة بقوى “درع الجزيرة” الخليجيّة لتثبيت حكم آل خليفة. ولهذا السبب، يرى النظام البحريني أن المعارضة الشيعيّة الداخليّة، ذات الحضور الديموغرافي المؤثّر، ستبقى تهديدًا إستراتيجيًا دائمًا له، بمعزل عن سياسته الخارجيّة، وخصوصًا إذا ما قرّرت إيران في أي لحظة تحريك هذا الملف لقلب نظام الحكم.

أمام هذا التهديد الإستراتيجي، الذي يربطه النظام البحريني بالنفوذ الإيراني، يتمسّك آل خليفة أولًا بالعلاقة مع المملكة العربيّة السعوديّة. فالسعوديّة هي من تدعم بقوّاتها العسكريّة –تحت ظل قوّات “درع الجزيرة”- استقرار حكم العرش البحريني، في وجه أي حركة احتجاج داخليّة طائفيّة محتملة. وأثبتت تجربة العام 2011 أن هذا التدخّل السعودي يمكن أن يشكّل عنصرًا حاسمًا، إذا ما تصاعدت الاحتجاجات إلى مستويات حرجة.

وفي المقابل، تتمسّك العائلة الحاكمة ثانيًا بالغطاء السياسي والعسكري الغربي المؤثّر، والمتمثّل بالقوّات الأميركيّة والأستراليّة والبريطانيّة الموجودة في البحرين. وهذه القوّات، هي ما يمثّل ضمانة النظام البحريني في وجه أي تهديدات أمنيّة أو عسكريّة خارجيّة مباشرة، من جانب إيران. وبصورة أوضح، يعتبر النظام البحريني أن وجود القوّات الأجنبيّة على أراضيه، بالإضافة إلى تماهيه مع السياسة الخارجيّة للولايات المتحدة، هو الحصانة التي يحتاجها كدولة صغيرة، تجاورها قوّة إقليميّة ذات نفوذ متمدد كإيران.

بالنتيجة، مازال نظام البحرين محكومًا بعاملين متوازيين: الثقل الديموغرافي الشّيعي الداخلي، المُعارض تاريخيًا للحكم العائلة المالكة السنيّة. وتأثير الجار الإيراني الخارجي، الذي اكتسب مؤخّرًا المزيد من الثقل والقوّة على مستوى المنطقة، والباحث دومًا عن أدوات لدعم المعارضة البحرينيّة.

وتوازي العاملين معًا، داخليًا وخارجيًا، هو ما يجعل نظام البحرين أكثر الأنظمة الخليجيّة قلقًا من العلاقة مع إيران، وأكثرها شعورًا بالهشاشة إزاء أي تزايد في النفوذ الإيراني. ولذلك، تبدو البحرين أكثر الدول الخليجيّة حرصًا على الغطاء الغربي، وأكثرها رغبة بالابتعاد عن أي تقارب مع الجار الإيراني.