انتصرت الدبلوماسيّة القطريّة على التحديّات التاريخيّة، ولا سيّما حصار عام 2017، لتبرز كقوة محورية في الشؤون الإقليمية.
علي نور الدين
خلال السنوات الماضية، نجحت الدبلوماسيّة القطريّة في التحوّل إلى قطب فاعل وبالغ التأثير على المستوى الإقليمي، في العديد من الملفّات السياسيّة الشائكة والمعقّدة.
في بعض النزاعات، لعبت قطر دور الوسيط القادر على بلورة تسويات وصفقات حاسمة، بينما احتفظت في نزاعات أخرى بدور الطرف المؤثّر حتّى الآن، بانتظار العمل على تسويات ومبادرات في المستقبل.
وبهدف الوصول إلى هذه الغاية، واءمت دولة قطر ما بين امتلاكها القوّة الاقتصاديّة والماليّة، والمكانة المتقدّمة في أسواق الطاقة، واحتفاظها بعلاقات جيّدة مع أطراف دوليّة متناقضة ومتعارضة، بالإضافة إلى تقديمها المساعدات الإغاثيّة في مناطق الحروب والنزاعات.
تخطّي الحصار وتوسّع أدوار قطر الإقليميّة بين 2020 و2023
لطالما كانت قطر تاريخيًا مهتمّة بتكريس حضورها السياسي الإقليمي، وهو ما أقحمها في الماضي في تجاذبات معروفة مع المملكة العربيّة السعوديّة، التي كانت تحاول بدورها فرض زعامتها السياسيّة على سائر الدول الخليجيّة.
وفي عام 2017، وصل هذا التجاذب إلى حد فرض الحصار البرّي والجوّي والبحري على قطر، وقطع العلاقات الدبلوماسيّة معها، من قبل تحالف قادته السعوديّة، وقد ضمّ إلى جانبها كلّ من مصر والإمارات العربيّة المتحدة والبحرين، وحكومة طبرق في ليبيا، والحكومة الموالية لعبد المنصور هادي في اليمن.
هكذا، عانت قطر على مدى أربع سنوات من أقسى أزمة دبلوماسيّة شهدتها منذ استقلالها عن بريطانيا عام 1971. وكان من الواضح أنّ ائتلاف الدول التي قادتها السعوديّة وجدت أن قطر باتت تلعب أدوارًا إقليميّة تتجاوز وزنها السياسي كدولة صغيرة، ما جعل الحصار محاولة لتطويق قطر سياسيًا وإقليميًا.
ثم جاءت المطالب التي أعلنت عنها السعوديّة والدول المتحالفة معها، لتؤكّد اتصال الحصار الدبلوماسي والاقتصادي بمحاولة الحد من نفوذ قطر الإقليمي. ومن هذه المطالب مثلًا، “أن تكون قطر منسجمة مع محيطها الخليجي”، في إشارة إلى ضرورة التماهي مع السياسة الخارجيّة للسعوديّة والإمارات والبحرين، بدل أن يكون لقطر سياستها الخارجيّة الخاصّة والمستقلّة.
وبدءًا من العام 2020، بدأت قطر تدريجيًا بتجاوز هذه الأزمة، مع إعلان الكويت عن التوصّل إلى اتفاق مصالحة خليجيّة، وهو ما أنهى سنوات القطيعة الأربع.
وعلى مرّ الأعوام التالية، الممتدة بين 2020 و2023، عادت الأدوار الدبلوماسيّة والإقليميّة القطريّة لتتوسّع من جديد، وهو ما انعكس في الصفقات والتسويات السياسيّة التي توسّطت قطر لإنجازها، في العديد من نزاعات المنطقة. كما انعكس ذلك في الأدوار الاقتصاديّة التي انخرطت فيها الدوحة مؤخّرًا، وخصوصًا في مجال الطاقة.
وساطات وأدوار قطريّة ناجحة
ففي أواخر شباط/فبراير 2020، حققت قطر إنجازًا سياسيًا كبيرًا، بعدما استثمرت علاقاتها مع كلّ من حركة طالبان الأفغانيّة والولايات المتحدة الأميركيّة، للتوسّط والتوصّل إلى اتفاق نهائي بين الطرفين، لتأمين انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان. وبذلك، شهدت العاصمة القطريّة توقيع الاتفاق التاريخي، الذي أنهى عقدين من الصّراع في أفغانستان، وهو ما مهّد لعودة حكم طالبان هناك من جديد.
وفي العام 2021، تمكّنت قطر من التوسّط لعقد تسوية لإعادة العلاقات الدبلوماسيّة بين الصومال وكينيا، بعدما انقطعت العلاقات بين البلدين، إثر اتهام الصومال لكينيا بالتدخّل في شؤونها الداخليّة. وجاءت تلك المصالحة بالتوازي مع وساطة قادتها قطر لتسوية النزاعات الداخليّة بين الأطراف الصوماليّة، لتمكين البلاد من إجراء انتخاباتها البرلمانيّة في عام 2022.
وبهذا الشكل، كانت قطر تعزّز من حضورها السياسي في منطقة القرن الأفريقي، التي تتسم بأهميّة جيوسياسيّة خاصّة على مستوى خطوط التجارة العالميّة، نظرًا لمحاذتها لمضيق باب المندب الإستراتيجي.
ثم حققت قطر عام 2023 إنجازها السياسي الأهم، بنجاح وساطتها بين الولايات المتحدة الأميركيّة وإيران، للتوصّل إلى اتفاق أفضى إلى تبادل سجناء بين البلدين، بالإضافة إلى الإفراج عن 6 مليارات دولار أميركي من الأموال الإيرانيّة المحتجزة بفعل العقوبات.
وفي ما خصّ هذا الاتفاق، لم يقتصر الدور القطري على الوساطة وتسهيل التفاوض بين الطرفين، بل شمل تنفيذ الخطوات العمليّة، مثل تلقّي الأموال الإيرانيّة المحتجزة واستقبال السجناء الأميركيين المفرج عنهم. وهذا ما عكس تناميًا في ثقة الطرفين بالدور الذي تؤدّيه الدوحة، في سياق عمليّة الوساطة.
وفي أكتوبر/تشرين الأوّل 2023، تبيّن أن قطر تسعى إلى تطوير الوساطة الذي تقوم بها بين الولايات المتحدة وإيران، بعد نجاحها في التوصّل إلى الاتفاق الأوّل. إذ كشفت قطر في ذلك الوقت أنّها تسعى لإيجاد أرضيّة مشتركة بين الطرفين، لإعادة إحياء المفاوضات حول الملف النووي الإيراني، بتفويض وشراكة مع الاتحاد الأوروبي.
فبحسب تصريحات رئيس الوزراء ووزير الخارجيّة القطري محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، سمحت صفقة تبادل السجناء الناجحة في “خلق بيئة أفضل” تسمح بالتوصّل إلى اتفاق بشأن القضيّة النوويّة. وهذا ما يشير إلى أنّ اتفاق السجناء لم يكن –بالنسبة إلى الدوحة- سوى مقدّمة لمسار طموح وطويل.
لاحقًا، ومع اندلاع الحرب الإسرائيليّة على غزّة منذ أكتوبر/تشرين الأوّل 2023، تحوّلت قطر -بالشراكة مع مصر– إلى الوسيط الأساس بين حركة حماس من جهة، وإسرائيل والولايات المتحدة الأميركيّة من جهة أخرى.
وبالفعل، أسفرت الجهود القطريّة في شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2023 عن هدنة استمرّت لسبعة أيّام، أطلقت خلالها حركة حماس سراح 80 إمرأة وطفلًا ومراهقًا إسرائيليًا، بالإضافة إلى 25 أجنبيًا، معظمهم من عمّال المزارع التايلانديين. وفي المقابل، أطلقت إسرائيل سراح 71 أسيرة و169 طفلًا من الفلسطينيين المعتقلين لديها.
خلال حرب غزّة، تمكّنت قطر من كسب مشروعيّة عربيّة وإسلاميّة لافتة، من خلال احتضانها السياسي الواضح للمقاومة الفلسطينيّة، وخصوصًا من خلال وسائل الإعلام التي تبث من قطر، مثل قناة الجزيرة. كما بدا واضحًا أثر الدبلوماسيّة القطريّة في المحافل الدوليّة، عبر تعويم مطلب وقف إطلاق النار، وهو ما تماهى مع مواقف الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، وقرار الجمعيّة العامّة للأمم المتحدة.
لكن في الوقت عينيه، وضعت قطر نفسها كنقطة تواصل لا بديل عنها بالنسبة إلى الغرب، للتواصل والتفاهم مع حركة حماس. وهذا ما انسجم مع الدور الذي لعبته قطر سابقًا، بوصفها قناة تواصل ووساطة، تسمح للولايات المتحدة بالتفاوض مع حركة طالبان أو إيران. ومجددًا، صب كلّ ذلك لمصلحة تعزيز دور قطر كقطب إقليمي أساسي يصعب تجاوزه.
محددات القوّة التفاوضيّة القطريّة
تتنوّع محددات القوّة التفاوضيّة القطريّة، التي سمحت بتوسيع الأدوار الدبلوماسيّة والإقليميّة التي تقوم بها حاليًا هذه الدولة. فبالنسبة للغرب، تمثّل قطر اليوم لاعبًا أساسيًا على مستوى أسواق الطاقة الدوليّة، وخصوصًا بعدما تزايد اعتماد الدول الأوروبيّة على الغاز القطري المُسال منذ العام 2022، كبديل عن الغاز الروسي. وهذا ما يعطي قطر حاليًا قوّة تفاوضيّة في علاقتها مع الدول الغربيّة، وخصوصًا الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة.
أمّا بالنسبة للولايات المتحدة، فتمثّل قطر شريكًا إستراتيجيًا لا يمكن تجاوزه في المنطقة، على الرغم من علاقة القطريين الوثيقة ببعض خصوم الولايات المتحدة. فقطر تحتضن قاعدة العُديد، التي تمثّل أكبر قاعدة عسكريّة أميركيّة خارج الأراضي الأميركيّة، والتي تُعد إحدى نقاط النفوذ العسكري الأميركي المتقدّمة في منطقة الخليج.
وبالنسبة للأميركيين، تمثّل قطر الحليف الوحيد الذي يملك علاقات متينة بدول مثل إيران، أو بجماعات إسلاميّة مثل حركة حماس أو حركة طالبان. وهذا ما يسمح للقطريين بلعب دور الوسيط والمفاوض الموثوق، لإنضاج صفقات تسمح بمعالجة بعض النزاعات في المنطقة.
أمّا علاقة قطر البراغماتيّة بإيران، فترتكز على مصالح اقتصاديّة مشتركة يسعى الطرفان للحفاظ عليها، وفي طليعتها شراكتهما في حقل الشمال للغاز الطّبيعي، وهو حقل مشترك يقع بين الدولتين. مع الإشارة إلى أنّ هذا الحقل يمثّل أكبر حقل للغاز في العالم، في حين أنّ إيران تعتمد على قطر لتوسعة الحقل والاستثمار فيه، مقابل حصول الحكومة الإيرانيّة على حصّتها من الأرباح.
وبعد دخول قطر كشريك في بلوكات الغاز اللّبنانيّة، بات لدى إيران وقطر مصلحة أكبر في التنسيق بما يخص الملف اللّبناني، بالنظر إلى نفوذ حزب الله –الحليف المقرّب لإيران- في لبنان. وهذا ما اتضح سريعًا خلال عمليّة ترسيم حدود حقول الغاز البحريّة بين لبنان وإسرائيل عام 2022، حيث لعبت قطر دورًا –بعيدًا عن الأضواء- في تسهيل التفاهم على ترسيم الحدود.
ومن ناحية أخرى، تدرك إيران –الّتي تملك حضورًا قويًّا في سوريا– مدى تأثير قطر في مناطق الشمال السوري الخاضع للمعارضة، وهو تأثير تتشاركه الدوحة مع حليفتها أنقرة. وعلى الرغم من إصرار قطر حتّى هذه اللّحظة على عدم تطبيع علاقتها بالنظام السوري، تدرك إيران أنّ قطر وتركيا ستحتفظان بدورٍ حاسم ٍوحسّاس في أيّ مسار سياسي، قد يهدف إلى إنهاء الانقسام والحرب في سوريا في المستقبل. وهذا ما يعطي قطر قوّة تفاوضيّة إضافيّة في علاقتها مع إيران، في ما يخص الملفّات العالقة في المنطقة.
علاقة قطر بالحركات الإسلاميّة، مثل حركة حماس وطالبان، كانت نتيجة مسار طويل عملت عليه الدوحة منذ زمن، لبناء الحد الأدنى من الثقة مع هذه التنظيمات. فقطر احتضنت في عاصمتها مكتبًا تمثيليًا لحركة طالبان منذ العام 2013، أي قبل 8 سنوات من انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان. أمّا مكتب حركة حماس في الدوحة، فتم افتتاحه عام 2012، أي قبل 11 سنة من اندلاع الحرب على غزّة عام 2023.
وبهذا الشكل، كان من الطّبيعي أن تختار هذه التنظيمات الإسلاميّة قطر، لتكون المفاوض والوسيط، بالنظر إلى علاقتهم السابقة والقديمة بالدوحة، وبالنظر إلى خبرة الدبلوماسيين القطريين في التعامل مع هذه التنظيمات. ومن المعلوم أن قطر امتلكت أساسًا خبرة في التعامل مع التنظيمات الإسلاميّة، وخصوصًا تلك التي تدور في فلك الإخوان المسلمين مثل حركة حماس، من خلال علاقتها ببعض أطياف المعارضة السوريّة.
وأخيرًا، يبقى من المؤكد أن تدخلات قطر الإنسانيّة والإغاثيّة في مناطق مثل قطاع غزّة وشمال سوريا وأفغانستان، سمحت أيضًا ببناء علاقة ثقة مع التنظيمات الإسلاميّة الناشطة هناك.
في الخلاصة، ساهمت جميع هذه العوامل بإعطاء قطر قوّة تفاوضيّة استثنائيّة في مختلف ملفّات المنطقة، وهو ما ساهم بتوسيع وتعزيز الدور الدبلوماسي والإقليمي القطري. وبهذا الشكل، تكون قطر قد حققت طموحها التاريخي، في تكوين الدور السياسي المستقل والفاعل في المنطقة، دون الالتحاق بأي قوّة إقليميّة وازنة أخرى.
وفي جميع الحالات، من المرتقب أن تؤسس التطورات الراهنة إلى أدوارٍ أكثر تأثيرًا بالنسبة لقطر، سواء على مستوى المفاوضات المتعلّقة بمستقبل القضيّة الفلسطينيّة، أو على مستوى التسويات المرتبطة بالملف النووي الإيراني.