استغل الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي المخاوف من الهجرة لإقناع الغرب بدعمه سياسياً ومالياً والتغاضي عن ملفه الوحشي في مجال حقوق الانسان. فمنذ انقلابه العسكري منتصف عام 2013، شهدت مصر موجات نزوح كبيرة هرباً من التنكيل الشديد الذي طال عشرات الآلاف من المصريين.
ففي حواره مع التلفزيون البرتغالي، في نوفمبر 2016، قال السيسي “إن تعداد سكان مصر 92 مليون نسمة، وهو تعداد يفوق سكان سوريا والعراق وليبيا مجتمعين، تخيّل لو خرجت الأمور عن نطاق السيطرة كم سيكون حجم الهجرة غير الشرعية وعدد الضحايا الذين سيعانون نتيجة ذلك محلياً وعالمياً؟”.
وقد أعاد تكرار نفس التحذيرات في كل مناسبة وحتى خلال لقاءه مع قادة الدول الغربية. بل كان هذا الملف إحدى أساليب التهديد لإيطاليا بعد توتر الأجواء بين البلدين عقب مقتل الباحث الإيطالي جوليو ريجيني في القاهرة داخل مقر إحدى الأجهزة الأمنية، كما يُقال.
إلا أن السيسي لم يذكر بأن سياساته هي أكبر مصدرٍ لنزوح المصريين إلى الخارج، ففي يوليو من العام الماضي 2018، قررت حكومة كوريا الجنوبية فرض تأشيرة دخول مُسبقة على المصريين القادمين إليها، وذلك بعدما كشفت عن أن نصف طالبي اللجوء لبلادهم تقريباً هم من المصريين. وفي بيان لوزارة العدل الكورية قالت بأنه بين يناير ومايو من عام 2018، تفوق عدد المصريين الطالبين للجوء على أمثالهم من الباكستانيين والصينيين، وهو ما يُمثل 40% من إجمالي طلبات اللجوء. وأضافت الوزارة أن أغلب أولئك المتقدمين في العشرينيات والثلاثينيات من عمرهم.
أحد طالبي اللجوء هؤلاء هو أحمد سمير، الذي وصل إلى كوريا الجنوبية في فبراير 2016، والذي قال “تم القبض عليّ من منزلي بالقاهرة وبعد فترة اختفاء قسري داخل أحد الأجهزة الأمنية وجهت لي النيابة العامة تهمة التظاهر والانضمام لجماعة الاخوان المحظورة قانوناً في مصر، حيث قالت الشرطة أنها قبضت عليّ من داخل إحدى مظاهرات الجماعة المطالبة بعودة الرئيس الراحل محمد مرسي.”
“تم إطلاق سراحي مؤقتاً على ذمة القضية، وقبل أقل من شهر كنت أقف أمام ضابط الجوازات بمطار برج العرب بمدينة الإسكندرية –شمال القاهرة –حيث أوضحت له بأني مسافر لإتمام زواجي من بنت كورية اخترعتها واخترعت لها حساباً على موقع فيسبوك مستعيراً صور إحدى الفنانات الكوريات، وقمت بعمل محادثات بيني وبينها لأقدمها للضابط، بالإضافة إلى بعض الهدايا التي قمت بشرائها ووضعتها في حقيبتي كان من بينها قميص نوم نسائي قمت بإخراجه من الحقيبة وإظهاره للضابط الذي تركني أغادر دون الاهتمام بهويتي.”
يُضيف سمير “بعد وصولي إلى كوريا تم الحكم عليّ في القضية بالسجن خمس سنوات.” وتابع القول “ورغم المرارة تلك إلا أنني كنت أشعر بالراحة في كوريا وأحسست بأن عُمراً جديداً كُتب لي، ولكن بعد فترة انتابني شعور بأن جزءاً كبيراً مني لا يزال في مصر وأني أريد العودة من جديد خاصة بعد المضايقات التي زادت من طرف الحكومة الكورية ضد طالبي اللجوء وترحيل كثير منهم وهرب آخرين إلى دول أخرى خوفاً من الترحيل إلى مصر.”
شابٌ آخر يدعى خليل ( وهو اسمٌ مستعار) فرّ إلى انجلترا، حيث حصل على حق اللجوء السياسي في لندن مؤخراً. ويقول خليل أنه هرب من مصر لأنه كان أحد قيادات إحدى الحركات السياسية، إذ “تم اعتقالي مرتين الأولى في ديسمبر 2015 استباقاً لمشاركتي في إحدى المظاهرات، والثانية في أبريل عام 2016 خلال المظاهرات المعترضة على التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير [للمملكة العربية السعودية]،” وأضاف “ما تسبب في فصلي من عملي وبعد محاولاتي إقامة مشروع خاص قام الأمن بإغلاقه وقطع عيشي.”
يُكمل خليل: “خرجت من مصر في مارس عام 2017 إلى إحدى الدول العربية بحثاً عن الأمان ولقمة العيش إلا أن السفارة المصرية قامت بطلب ترحيلي إلى مصر وهو ما استتبعه إلغاء إقامتي الرسمية، ففرت إلى أوروبا بحثاً عن الأمان، حيث تملك مني الخوف من عودتي إلى مصر حيث كان متوقع أن يتم سجني لزمن طويل، ومؤخراً تم قبول طلب لجوئي السياسي إلى انجلترا.”
ووفقاً للمفوضية العليا لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، تم منح 3061 مصرياً حق اللجوء في المملكة المتحدة بين عامي 2013 و2018، مقارنةً بـ535 بين عامي 1988 و2012.
أما الناشطة هند نافع فقد فرّت إلى الولايات المتحدة الأمريكية بعد الحكم عليها بالسجن لـ25 عاماً لمشاركتها في إحدى المظاهرات. بدأت قصتها بالمشاركة في اعتصام خلال شهر ديسمبر عام 2011 أمام مبنى مجلس الشورى والذي تم فضه من قِبل قوات الجيش. تم الاعتداء على هند وسحلها على الأرض والاعتداء عليها بالعصي والبيادات العسكرية، ثم تم جرها من شعرها إلى داخل مبنى مجلس الشورى حيث تم تعذيبها بالصواعق الكهربية وتهديدها بتشويه وجهها بالسكين، وإجبارها على الاعتراف. ظهرت بعد ذلك صور لهند وهي مصابة بكم هائل من الكدمات والاصابات.
تم بعد ذلك توجيه تهم لها ضمن قرابة 230 شاب آخرين بتهم “الاعتداء على قوات الأمن بالطوب والمولوتوف، وحرق المجمع العلمي، وإتلاف الممتلكات العامة، وإثارة الشغب والفوضى في الشارع، وحيازة الأسلحة.” وفي فبراير 2015، تم الحكم عليها بالسجن المؤبد لمدة 25 عاماً. حصل هذا عندما قررت الفرار من البلاد مستغلةً حقيقة أن مطار القاهرة لا يمتلك قائمةً بأسماء جميع من صدر بحقهم حكمٌ أولي من المحكمة لمنعها من السفر. سافرت بدايةً إلى لبنان قبل أن تستقر في الولايات المتحدة الأمريكية، على أمل العودة لبلادها يوماً ما.
وفي مقابلةٍ لفَنَك مع إبراهيم حجي، الباحث والناشط المصري المقيم في إيطاليا الذي يعمل أيضاً بإحدى المنظمات غير الحكومية المعنية بالهجرة ومساعدة اللاجئين، قال لنا: “هناك أعداد كبيرة جداً من المصريين فروا من مصر منذ صعود السيسي للحكم، حيث كان الكثير من هؤلاء مفكرين ومبدعين وعقول كانت على أتم الاستعداد لبناء مصر، لكنهم فضّلوا الخروج خوفاً على حياتهم وأمنهم.”
ويُضيف حجي بأن العديد من المصريين المقيمين في إيطاليا قرروا العودة إلى مصر بعد ثورة يناير، إلا أن هذا العدد الكبير عاد من جديد إلى إيطاليا بسبب الأجواء القمعية والظروف الاقتصادية السيئة في مصر قائلين “نار إيطاليا ولا جنة مصر في عهد السيسي.”
يُضيف حجي قائلاً “إني أعمل في هذا المجال منذ زمن، وكانت الجنسيات الغالبة المعروفة بطلباتها للجوء السياسي في إيطاليا هي نيجريا، وكوت ديفوار وغامبيا. لاحقاً، زادت أعداد السوريين والليبيين، إلا أنه ومنذ منتصف عام 2013 أصبح المصريين إحدى أكبر الجنسيات طلباً للجوء في إيطاليا، وأصبحنا نُخصص أماكن كبيرة داخل معسكرات اللاجئين لهم، منهم إسلاميين وغير إسلاميين من المهتمين بالسياسة ومن المسيحيين أيضاً. كذلك هناك عائلات كاملة جاءت من مصر طلباً للجوء هرباً من الجحيم الاقتصادي في مصر. وبشكلٍ مفاجىء، وافقت إيطاليا على منحهم اللجوء الإنساني، وأصبحت مطارات إيطاليا منفذاً لقدوم طالبي اللجوء أثناء المرور العابر بالبلاد، ومنهم من رُفض طلبه في كوريا وغيرها ومنهم من هرب من مصر مباشرة. وهناك أيضاً الكثيرين الذين جاءوا بحجة الدراسة رغم إن إيطاليا معروفة بضعف جودة التعليم فيها، إلا أن ذلك كان إحدى الوسائل التي اتخذها الشباب للقدوم إلى إيطاليا وطلب اللجوء.”
ووفقاً للمفوضية العليا لشؤون اللاجئين، تم منح 9079 مصرياً حق اللجوء في إيطاليا بين عامي 2013 و2018، مقابل 585 فقط بين عامي 1980 و2012.
فقد وصفت دراسة أعدتها الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان حول شتات المصريين بعد ثورة يناير، ما حدث بأنه التغريبة الثالثة للمصريين في التاريخ الحديث، فهناك التغريبة الأولى التي حدثت بعد انقلاب عام 1952، والثانية في عهد الرئيس الراحل أنور السادات في السبعينيات، في حين بدأت التغريبة الثالثة في أعقاب الإطاحة بالرئيس المخلوع حسني مبارك عام 2011 وامتدت خلال حكم الاخوان المسلمين، إلا أنها تفاقمت بشدة في عهد السيسي.
بينما وصف المؤرخ واستاذ التاريخ المصري د. خالد فهمي هذه الهجرة الجماعية باعتبارها شكلاً من أشكال المنفى، إذ قال، “بمرور الوقت وبترسيخ مفاهيم الوطنية والمواطنة، أصبح من غير القانوني إصدار أحكام بالنفي في حق المصريين، بل أن الدساتير المصرية المتعاقبة حرّمت النفي تحريماً قاطعاً، ومما يدمي له القلب أن نرى النفي الآن يُمارس على المصريين. لم يحدث هذا التحول الخطير نتيجة إجراء تعديلات دستورية أو إصدار قوانين أجازت ما كان محظوراً سابقاً، بل نتيجة انتهاج الدولة مؤخراً لممارسات غرضها الواضح إغلاق المجال العام ومصادرة العمل السياسي ورفع كلفة ممارسته.”