وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

القهوة في الإمارات: الثابت المتطور

القهوة في الإمارات
عرض ليلي يضيء السماء على شكل دلة (وعاء قهوة تقليدي) يصب القهوة في فنجان في عين دبي ، 29 ديسمبر 2021. جوزيبي كاكاس/ وكالة الصحافة الفرنسية

المقدمة

لا فرق إن قُدمت القهوة في الدلة التقليدية أو في كوب حديث من الزجاج، فقد تطورت ثقافة تناول القهوة في الإمارات مثلما تطورت البلاد. وكما أفسحت البيوت المتواضعة المجال لناطحات السحاب، وحلّت السيارات الفارهة محل الإبل،  أصبحت للقهوة أنماطًا جديدة. فلم تعد مشروبًا يقدّمه البدو في الصحراء على سبيل الضيافة، بل بات الاستمتاع بها متاحًا لكل شرائح المجتمع بغض النظر عن المستوى المادي أو الثقافي، وشعبيتها ما تزال في ازدياد.

وقد حازت الإمارات بسبب ثقافتها الفريدة في تناول الشاي والقهوة على حدٍّ سواء على لقب ملبورن الشرق الأوسط. ويساوي حجم استهلاك القهوة في المنطقة نحو 7 مليار دولار في العام، حتى صار كل يوم شاهدًا على ظهور علامة تجارية جديدة. ويُقدّر استهلاك الفرد من القهوة بنحو 3.5 كيلو في العام الواحد. وتنفق الإمارات 630 مليون دولار سنويًا على القهوة وفق ما رصدت الإحصاءات الأخيرة.

إضافةً إلى ذلك، ثمة نحو 4 آلاف مقهى منتشر في أرجاء البلاد، حيث يُقدم نحو 6 ملايين كوب قهوة يوميًا. هذا على صعيد الأرقام المجردة، أما على صعيد آخر أكثر شاعرية، فقد استطاعت الإمارات أن تبتكر ثقافتها الفريدة لتناول القهوة. ثقافةٌ تمزج بين الأصالة العربية والحداثة.

وينتشر في دبي تناول القهوة والشاي حتى أن أي فرد هناك يرتاد أنواعًا مختلفة من المقاهي في المدينة. ولا شيء ينافس حب الإماراتيين للقهوة، حتى ولعهم المعروف بالطعام.

وقال جو دونام، رجل الأعمال والزائر للإمارات لفنك: “القهوة لغة عالمية، وهي تُشعر الناس بالراحة، كما أنها رخيصة ويقبلها الجميع”.

وفي السبعينيات، حين قدم جو لأول مرة إلى دبي، كانت المدينة في بداية ازدهارها، ولم تكن المقاهي موجودة في ذلك الوقت كما هي اليوم. وعلى مدار خمسين عامًا، يجد جو المدينة في كل مرة يزورها فيها، بأنّها قد اختلفت عما كانت عليه في السابق.

وأضاف: “لقد صارت أنماط العصرية والتمدن شائعة بين الناس، ويمكنك فعل أشياء كثيرة ليلًا ونهارًا، والمقاهي هي إحدى أبرز سمات هذه المدينة المتغيرة”.

من المحل إلى الغنى

يعرض لنا محمد الفهيم، النائب الأول لرئيس غرفة أبو ظبي للتجارة والصناعة، في كتابه “من المحل إلى الغنى: قصة أبو ظبي” بعض ملامح الحياة في الإمارات قبيل فترة الستينيات.

وقد أحسن الكتاب وصف الحياة في الأحياء الإماراتية الفقيرة والغنية التي تلتزم عادات الضيافة الإماراتية والعربية على حد سواء. وكان والد الكاتب محمد الفهيم صديقًا مقربًا للشيخ زايد، مؤسس دولة الإمارات، منذ أن كان طفلًا يلهو في القصر، وكانت القهوة حينها تقدم في الدلة. وكما يذكر الكاتب فقد عاش حالة من الفقر الشديد في السنوات التي سبقت اكتشاف ثروة هائلة من النفط أدت إلى تغيير وجه البلاد. ولذلك، فمحمد الفهيم شاهد على تحول الإمارات من حالة المجتمع البدوي إلى دولة من أكبر الدول في العالم من حيث دخل الفرد خلال ثلاثين عامًا.

وللقهوة تقاليدها الخاصة التي يتبعها المُضيف والضيف ومن يقدمها. فعلى من يقدم القهوة أن يمسك الدلة باليد اليسرى وأن يشير إبهامه إلى الأعلى، بينما يمسك الفنجان في اليد اليمنى. أما الضيوف فيتناولون الفناجين باليد اليمنى ثم يعيدونها إلى مقدم القهوة. ويُقدم الفنجان الأول إلى أكبر الحضور سنًا ويُملأ ربعه فقط، ويمكن أن يُقدم له فنجان آخر. ودائما ما تكون القهوة ساخنة لأنها تبقى على رماد النار أو في الدلة نفسها.

وقالت لمياء العزيز، وهي طالبة مقيمة في الإمارات وعاشقة للقهوة، لفنك: “تبقى المكانة الاجتماعية للقهوة في الخليج متميزة ولا منافس لها منذ قرون، اللّهم إلا الشاي، وقد كانت سلعة فاخرة عند شيوخ القبائل عمومًا وعند الضيوف خصوصًا”.

لكن المشهد اليوم قد تغير؛ فقد أصحبت المقاهي مركزًا اجتماعيًا حيث يلتقى فيها الأصدقاء للاستمتاع بالموسيقى. لكن الدلة التقليدية ظلت موجودة في جميع أنحاء الإمارات، وهي إلى الآن خيار متاح عند تقديم القهوة.

وبدورها تغيرت المعدات المحلية لتحضير القهوة ؛حيثُ تحولت الأواني المعدنية المصنوعة يدويًا إلى أكواب من الزجاج وماكينات إسبرسو وقهوة مفلترة، وفي كل كوب قهوة يُعد اليوم في الإمارات نجد لمسة فنية خاصة لو أعده أحد محال القهوة المختصة وهي منتشرة في دبي.

الموجة الثالثة

وقد بدأت ما باتت تعرف بموجة الإمارات الثالثة للقهوة عام 2007 عندما بدأت النيوزيلندية، كيم طومسون، مؤسسة شركة “رو كوفي”، بتحميص القهوة. ولأن القهوة ثاني أكثر سلعة يتداولها العالم، فإن الشركة تتبع الأخلاقيات الواجبة في سعيها للحصول على حبوب القهوة وتلتزم العدالة عند التجارة فيها. كما تسوّق لحبوب القهوة ذات المصدر الواحد والأدوات المتخصصة.

وقد افتُتحت العديد من محلات القهوة المستقلة مؤخرًا، وهو ما جذب انتباه المجتمعات المحلية والوافدين. ومع ذلك استمر توسع محلات القهوة العالمية في الإمارات ومنها “كوستا كوفي”، وهي علامة تجارية عالمية تأسست في لندن عام 1971، وافتتحت أول فروعها خارج بريطانيا في نادي الطيران في دبي عام 1999. ونقرأ في وصف الشركة “لتاريخها الذي تحمله حبوب القهوة” أن السنين قد مرت “وتوسعت العلامة التجارية لتشمل أكثر من 150 موقعًا في أرجاء الإمارات”. ولا شك في أن توسع الشركة في الإمارات يأتي بسبب أهمية هذا السوق من حيث انتشار ثقافة تناول القهوة وطلب المستهلكين لهذا المنتج.

وتشهد الإمارات منذ منتصف الألفية زيادة هائلة في حجم الاستثمارات المحلية والأجنبية في سلاسل محلات القهوة المختصة. والإمارات أحد أكثر الأسواق تطورًا في هذه الصناعة. ووفقًا لبوابة القهوة العالمية الإلكترونية، تُعتبر دبي مركزًا في إبتكار القهوة على مستوى المنطقة.

وكشفت دائرة التنمية الاقتصادية في دبي عام 2019، في تحليل نوعيّ لتجربة المستهلكين في جميع أنحاء الإمارات، أن المقاهي قد حصلت على أعلى تصنيف، إلا أن التقرير لم يدرك أن قاعدة المستهلكين هذه باتت تشمل شريحة واسعة من المجتمع.

وكما تطورت ثقافة تناول القهوة مع مرور الوقت، فقد تطورت ثقافة الإمارات كذلك؛ فنساء الإمارات الآن يجتمعن دائمًا في المقاهي ليلًا أو نهارًا، ولم يكن ليحدث ذلك أبدًا قبل بضعة عقود. كما تنتشر كثير من أماكن التجمع في الإمارات ومنها المقاهي، وشارع الوصل في دبي أحد الأمثلة على ذلك، وكذلك كورنيش أبو ظبي الذي نجد فيه أحد أشهر المقاهي في المدينة وهو “أرابيكا”. كما نجد مبنى البطين الفاخر الذي يضم الكثير من المقاهي وبإطلالة على المرسى والقوارب.

وقد اعتادت المرأة الإماراتية حب القهوة، لكنها اليوم لا تقدمها ترحيبًا بالضيوف فحسب، وإنما تحتسيها النساء في أثناء لقاءاتهن في المقاهي من أجل العمل أو الترفيه أو لمجرد تناول القهوة وربما للدراسة أيضًا. كما تعقد النساء اجتماعات العمل في المقاهي أو يذهبن إلى المقاهي الصحراوية في “البر” في الثانية صباحًا ولا يكون فعلهن ذلك مستهجنًا.

وقالت عائشة، وهي سيدة أعمال في منتصف العمر وأم لثلاثة أبناء، لفنك: “لم يكن من المعتاد قبل عدة عقود أن تخصص النساء في الإمارات وقتًا  للجلوس في المقهى، لكن اليوم لم يعد بالإمكان تخيل امرأة إماراتية لا تحتسي القهوة وتسمتع به مع أصدقائها أو زملائها”.

وتبدأ النساء في الإمارات يومهن باكرًا في السادسة صباحًا لتمر بسياراتهن على مقهى “ستاربكس” أو “فيلز كوفي” وهن في الطريق من المنزل إلى المدرسة أو العمل. وعادةً ما يكون طلبهن قهوة “دوبل” أو “لاتيه إسباني” أو “أمريكانو” مع إضافة السكر، ومعه “بايغل” للفطور.

وبحسب لمياء العزيز، الخبيرة في وسائل التواصل الاجتماعي فقد “لعب تزايد مواقع التواصل الإجتماعي  مثل إنستغرام دورًا كبيرًا في تطور ثقافة تناول القهوة في الإمارات. حيثُ أصبح بإمكان النساء اليوم مشاركة شغفهن بالقهوة واستكشافه”. وبفضل موقع إنستغرام أصبحت شتى أنواع المقاهي جزءًا من الحياة في المدينة، وأصبحت النساء تستغل المقاهي للمشاركة في الحياة الاجتماعية وينشرن صورًا تعبر عن مثل هذه الأنشطة، وكما قالت عائشة: “بات شائعًا اليوم أن ترى النساء في الإمارات يتبادلن أطراف الحديث في المقاهي عن الحياة الأسرية، والموضة، والسياحة”.

Advertisement
Fanack Water Palestine