في الوقت الذي أصبح فيه الشرق الأوسط مستقطباً بشكلٍ متزايد تجاه الهوة العميقة بين إيران والمملكة العربية السعودية وحول الصراع في سوريا، حاولت الصين الحفاظ على حيادها السياسي إلى جانب الإبقاء على علاقاتها الاقتصادية مع جميع الأطراف.
وخلافاً للولايات المتحدة الأمريكية وروسيا، كانت مشاركة الصين الأخيرة في الشرق الأوسط اقتصادية في المقام الأول، وليست عسكريةً أو أمنية.
ففي يناير 2016، أصدرت الصين أول وثيقة سياسية حول العلاقات مع العالم العربي، والتي أكدت على الالتزام بالتعاون والتنمية الاقتصادية. وفي نفس العام، زار الرئيس الصيني شي جين بينغ إيران والمملكة العربية السعودية في رحلةٍ واحدة.
جاءت الزيارة إلى طهران مباشرةً بعد رفع العقوبات الدولية عن إيران وأدت إلى توقيع اتفاقٍ لتوسيع التجارة بين البلدين إلى 600 مليار دولار على مدى العقد المقبل. وفي الوقت نفسه، اتخذت الصين أيضاً خطواتٍ لتوسيع العلاقات الاقتصادية مع المملكة العربية السعودية من خلال توقيع صفقاتٍ بقيمة 70 مليار دولار مع المملكة وعرض شراء 5% من أسهم شركة النفط السعودية العملاقة أرامكو.
فقد أصبحت الصين أكبر مستوردٍ للنفط الخام في العالم، متفوقةً بذلك على الولايات المتحدة. وعلى عكس الولايات المتحدة، التي أصبحت اليوم منتجةً رئيسية للنفط بذاتها، من المتوقع أن يستمر نمو الطلب الصيني على النفط، ليصل إلى 13,8 مليون برميل يومياً بحلول عام 2030، وفقاً لشركة البترول الوطنية الصينية.
ومن حيث واردات النفط، تعتبر المملكة العربية السعودية ثاني أكبر مورد للنفط الخام في الصين بعد روسيا. وفي الوقت نفسه، تُعدّ الصين أكبر مشترٍ منفرد للنفط الخام الإيراني، وقد أشارت إلى أنها ستستمر في الاستيراد من إيران على الرغم من قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترمب بالتراجع عن الصفقة النووية الإيرانية وإعادة فرض العقوبات.
كما وستكون إيران أيضاً المفتاح الرئيسي للخطة الاقتصادية الرئيسية في الصين، أو طريق الحرير الجديد، أو كما تُعرف بالحزام والطريق، وهي مبادرة اقتصادية طموحة لربط الصين بالشرق الأوسط وآسيا الوسطى وروسيا وأوروبا من خلال مشاريع البنية التحتية الضخمة، بما في ذلك ممرات النقل وخطوط أنابيب الطاقة وأنظمة الاتصالات. وتتضمن الخطة مساراً أرضياً يُعرف باسم “حزام طريق الحرير الاقتصادي” وطريقاً بحرياً يُسمى بـ”طريق الحرير البحري للقرن الحادي والعشرين.” بل إن موقع إيران يجعلها جزءاً أساسياً في هذه الخطة، ذلك أنها تعتبر صلة الوصل ما بين آسيا الوسطى وجنوب وغرب آسيا.
وبأخذ هذه العوامل الاقتصادية بعين الاعتبار، فإن اهتمام الصين يصب بلعب دور الوسيط ومحاولة إخماد التوترات الإقليمية. ومع ذلك، يبقى أن نرى مدى نجاح نفوذها الاقتصادي في هذا الصدد، أو إلى متى يمكن أن تستمر الصين في الحفاظ على حيادها بين إيران والمملكة العربية السعودية.
ويمكن للولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية أن تمارس ضغوطاً كبيرة للتحمل فيما يتعلق بالصفقة النووية عبر الأعمال التجارية الصينية. وكمثالٍ على ذلك، واجهت الشركة الصينية “زد تي إي” حظراً لمدة سبع سنواتٍ يمنع الشركات الأمريكية من بيعها معداتٍ ضرورية انتقاماً لخرقها العقوبات المفروضة على إيران وكوريا الشمالية. وعلى الرغم من أن إدارة ترمب قد توصلت في النهاية إلى اتفاقٍ يسمح لشركة “زد تي أي” مواصلة العمل، إلا أن الشركة كانت تواجه خطر الإفلاس.
كما سبق للصين أن رضخت للضغوطات السعودية فيما يتعلق بصفقاتٍ اقتصادية مع خصوم المملكة. ففي وقتٍ سابق من هذا العام، رفضت البنوك الصينية المشاركة في تمديد قرضٍ مشترك بقيمة 575 مليون دولار إلى بنك الدوحة في قطر لمدة عام.
أما على الجبهة السورية، فقد ظلت الصين على هامش النزاع، إلا أنها تأمل في الاستفادة من المشاركة في إعادة الإعمار بعد الحرب هناك، كما فعلت في العراق بعد الغزو الأمريكي. كما أشارت الصين إلى خططٍ للاستثمار في جهود إعادة الإعمار في مرحلة ما بعد تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” في العراق مستقبلاً.
وعلى عكس الدول الغربية، التي أصرت حتى الآن على أن مساعدات إعادة الإعمار لسورية مشروطةٌ بانتقالٍ سياسي من شأنه الإطاحة بالرئيس بشار الأسد من السلطة، لم يكن لدى الصين مشاكل تتعلق بالنظام. وعلى عكس الموالين العسكريين للنظام، أي روسيا وإيران، تتمتع الصين بالقدرة الاقتصادية على القيام بالاستثمارات المطلوبة.
وفي زيارته لأحد المستشفيات في دمشق في فبراير- حيث قامت الصين بتمويل تجديدٍ لقسم الطوارىء هناك- قال السفير الصيني لدى سوريا تشي تشيانجين لوكالة أنباء شينخوا الصينية “أعتقد أن الوقت قد حان لتركيز كل الجهود على تطوير وإعادة إعمار سوريا، وأعتقد أن الصين ستلعب دوراً أكبر في هذه العملية من خلال تقديم المزيد من المساعدات للشعب السوري والحكومة السورية.”
ففي يوليو 2017، كشف شين يونغ – نائب رئيس الجمعية الصينية العربية للتبادل، في أول معرضٍ تجاري لمشاريع إعادة إعمار سوريا، عن خططٍ للاستثمار الصيني في سوريا بقيمة 2 مليار دولار لبناء المجمعات الصناعية.
وقال شين يونغ، الذي زار سوريا أربع مراتٍ في عام 2017، لصحيفة ساوث تشاينا مورنينج بوست إن الشركات الصينية تحجز دورها للعمل مع سوريا. فقد قال “نتلقى طلباتٍ عبر الهاتف كل يوم. فهم يرون إمكانات تجارية ضخمة هناك، لأن البلد بأكمله يحتاج إلى إعادة إعمار.”
وكان الرئيس شي قد وجه نداءً إلى الجامعة العربية في العام الماضي من أجل التوصل إلى حلٍ سياسي وتنميةٍ اقتصادية: “بدلاً من البحث عن وكيل في الشرق الأوسط، نعمل على تعزيز محادثات السلام، وبدلاً من السعي إلى تكوين أي مجال نفوذ، ندعو جميع الأطراف إلى الانضمام إلى دائرة أصدقاء مبادرة الحزام والطريق، وبدلاً من محاولة ملء أي فراغ، تطمح الصين إلى بناء شبكةٍ من الشراكات ذات المنفعة المتبادلة”.
بل إن مصالح الصين في وضع حدٍ للصراع في سوريا ليست اقتصاديةً فحسب. فالبرغم من عدم تورطها العسكري، إلا أن الصين تمتلك مصلحةً أمنية خاصة بها لتحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط، حيث سافر الأويغور- المسلمون من منطقة شينجيانغ الصينية الغربية- إلى سوريا والعراق للانضمام إلى الجماعات المسلحة، بما في ذلك تنظيم الدولة الإسلامية. وهددت الجماعة بشن هجماتٍ على الصين بسبب معاملتها للمسلمين.
كما أظهرت الصين دلائل على رغبتها في أن تصبح طرفاً أكثر فعالية في المفاوضات الإسرائيلية -الفلسطينية، حيث فقدت الولايات المتحدة مصداقيتها لدى الفلسطينيين كوسيطٍ بعد قرار ترمب المثير للجدل الاعتراف بالقدس عاصمةً لإسرائيل ونقل السفارة الأمريكية هناك. ففي ديسمبر 2017، استضافت بكين محادثات سلامٍ خاصة بها بين الجانبين، والتي أدت في النهاية إلى دعوةٍ غير ملزمة بحل الدولتين. لكن المسؤولين الإسرائيليين أوضحوا أنهم غير مستعدين لتقبل أن تحل الصين محل الولايات المتحدة في دور الوسيط.
من الواضح أن الصين تفضل الاستمرار في توسيع نفوذها في الشرق الأوسط عبر قنوات القوة الناعمة للاقتصاد والتجارة. ومع ذلك، فمع تزايد انقسام المنطقة وسرعة اشتعال التوترات فيها، قد تواجه الصين صعوبةً في تجنب الانجرار إلى دوامة العديد من الصراعات المتداخلة.