السلفية الجهادية ليست وليدة اللحظة، إذ يمكن تتبع أصولها إلى جماعة الإخوان المسلمين، التي تأسست في مصر عام 1928 بهدف إقامة دولةٍ إسلامية، كما أن جماعة الإخوان المسلمين من أنجبت الكاتب سيد قطب، الذي قدم الأسس الفكرية للحركة. فقد نقل عبد السلام فراج أفكار قطب إلى مستوىً آخر، حيث دعا إلى الجهاد ضد الحكام المسلمين الذين لا ينفذون الشريعة الإسلامية، وفي كتابه الشهير “الفريضة الغائبة،” تمت الدعوة فيه إلى أن الأولوية هو قتال “العدو القريب،” ويقصد به قلب أنظمة الحكم في العالم العربي والاسلامي، على قتال “العدو البعيد،” الأعداء الخارجيين المقصود بهم الولايات المتحدة واسرائيل.
وعليه، كان للإخوان المسلمين دورٌ رئيسي في اغتيال الرئيس المصري السابق أنور السادات عام 1981. وبعد ذلك امتدت وترعرعت ظاهرة السلفية الجهادية في افغانسان حيث الملاذ الأمن، وهناك تزاوج الفكر الجهادي المصري مع الفكر السلفي الوهابي (السعودي)، حيث تم تأسيس تنظيم القاعدة الذي تبنى عدداً كبيراً من العمليات المسمية من قبلهم “بالجهادية.”
فقد خرج غالبية قادة المدارس الجهادية من عباءة حركة الاخوان المسلمين المصرية، عندما قرر البعض، بعد إعتقالهم في السجون المصرية في فترة السبعينيات، إلانشقاق عن حركة الإخوان المسلمين. قاموا بإنشاء حركة تتبنى العنف وسيلة، ولا تعترف بالحدود الوطنية، وتتحدث عن العودة للإسلام “النقي” عبر تطبيق تعاليم الشريعة التي يحددونها بأسلوب متشدد، كما يتبنون نبوءة تقول بخروج خليفة جديد للمسلمين، يقود أمة الإسلام على منهاج النبوة. أولى هذه الجماعات كانت جماعة “التكفير والهجرة،” التي بدأت تتمدد في معاقلها التقليدية في صعيد مصر.
شهدت السلفية الجهادية المصرية تراجعاً ملحوظاً وضموراً في الاعضاء عاماً بعد عام اثناء فترة حكم مبارك (1981-2011)، بسبب قوة الضربات الامنية تجاههم من ناحية، وبسبب هروب عدد كبير منهم للخارج. فقد آثر السلفيون الجهاديون في فترة الثمانينات السفر الى افغانستان لمحاربة الغزو السوفييتي على البقاء والملاحقة الامنية. ومن الملاحظ أن الامن المصري قد غض الطرف في تلك الفترة عن سفرهم لأفغانستان ليصبحوا وقود حرب، على أمل أن يلقى غالبيتهم حتفهم هناك، ولكن تم التشديد عليهم عند عودتهم بعد انتهاء الحرب لمن تبقى على قيد الحياة.
ولكن سرعان ما عادت الجماعات السلفية للانتعاش والتمدد مرة أخرى وترتيب اوضاعها عقب ثورة 25 يناير 2011 بعد حالة الفوضى الامنية التي استمرت لعدة سنوات في مصر عقب الثورة، لتنمو هذه الجماعات في مناطق جديدة آمنة، وتحديداً في صحراء سيناء.
تطور الجماعات السلفية الجهادية في سيناء
في ظل حالة الفوضى التي اعقبت ثورة يناير 2011 وخلع الرئيس مبارك من الحكم، وفي ظل فوز حركة الاخوان المسلمين في الرئاسة والبرلمان عام 2012، بدأت الجماعات السلفية الدعوية والجهادية في ترتيب أوضاعها من جديد، واستقطاب اعضاء جدد. ولكن، في أعقاب عزل الرئيس المصري محمد مرسي واسقاط حكومته بعد احداث ثورة يونيو 2013، شعر الإخوان المسلمون والحركات الاسلامية الاخرى بالمظلومية. تولدت الرغبة في الانتقام، مما أفرز خريطة جديدة من تنظيمات جهادية تتبنى العنف كمنهجٍ أساسي في مواجهة النظام الحاكم للدولة. هناك العديد من التنظيمات الجهادية في سيناء، منهم أنصار بيت المقدس “ولاية سيناء،” وأجناد مصر، ومجلس شورى المجاهدين، والمجاهدين بأكناف بيت المقدس، والجهاد الإسلامي المصري.
لعل أبرز الجماعات السلفية الجهادية في سيناء والتي تعتبر التهديد الرئيسي، جماعة أنصار بيت المقدس والذي يُقدر عدد أفرادها بحوالي الألف مقاتل. ذاع صيتها في السنوات الأخيرة، وكانت معنية في البداية بمهاجمة أهداف إسرائيلية، ونشطت بشكلٍ ملحوظ على الشريط الحدودي بين مصر وغزة، حيث كانت تستهدف بشكل دوري تفجير خط تصدير الغاز المصري لإسرائيل.
وعقب فض اعتصام رابعة في اغسطس 2013 بالقوة، الذي قتل فيه ألفٌ من أنصار جماعة الإخوان المسلمين على أيدي قوات الجيش والأمن، اعتبرت جماعة أنصار بيت المقدس بأن الجيش والشرطة مرتدون يجب قتالهم. وفي الشهر نفسه، الذي صادف شهر رمضان المبارك، شن مسلحوا أنصار بيت المقدس هجوماً أسفر عن مقتل أكثر من 25 من جنود الامن المركزي وجرح إثنين. كما تعتبر الجماعة مسؤولة عن محاولة اغتيال وزير الداخلية السابق اللواء محمد إبراهيم في سبتمبر 2013، عندما استهدف موكبه في القاهرة، بالاضافة الى تفجير مديرية أمن الدقهلية في ديسمبر2013، الذي أسفر عن مقتل 16 من ضباط الأمن. بالإضافة الى توجيه أصابع الاتهام لهم في قضية اغتيال النائب العام، هشام بركات، نهاية شهر يونيو لعام 2015. ومؤخراً في شهر مارس لعام 2017، تبنى التنظيم المسؤولية عن مقتل 30 جندياً مصرياً إثر تصديه لهجوم من قبل الجيش المصري في العريش، عاصمة شمال سيناء.
فقد أعلنت جماعة بيت المقدس ولائها للدولة الإسلامية “داعش” وبايعت أبو بكر البغدادي بتاريخ 13 نوفمبر 2014 وغيرت اسمها بشكلٍ رسمي إلى “ولاية سيناء.” كما أن التنظيم الذي كان معني في البداية بمحاربة إسرائيل، انغمس في قتال الجيش المصري. وفي الفترة الأخيرة، أصبح ايضاً على عداوةٍ مع حركة حماس الفلسطينية، التي تتبع الفكر الإسلامي المعتدل، ووصل الامر أن يعتبر قائد تنظيم ولاية سيناء، أبو هاجر الهاشمي، قيادة حركة حماس في قطاع غزة بالكفرة. كما قام التنظيم بتعطيل مرور البضائع عبر الأنفاق المصرية إلى غزة، مسبباً أزمة اقتصادية لسكان قطاع غزة. تفاقمت الأزمة بين التنظيم السلفي وحركة حماس في أعقاب شن حملة اعتقالاتٍ واسعة من قبل أمن حركة حماس في القطاع، ضد عناصر جهادية سفلية تعبر عن تأييدها لقيم تنظيم ولاية سيناء طالت أكثر من 350 شخصاً. وتمثل الأمر الآخر بتحسن العلاقة المصرية مع حركة حماس، وخاصة تعزيز التعاون الأمني لوقف تهريب الأسلحة على طول الحدود بين غزة وسيناء ومنع الجهاديين السلفيين من استخدام غزة كقاعدة لإعداد الهجمات ضد القوات العسكرية المصرية في شبه جزيرة سيناء.
ومنذ أن تشّكل تنظيم أجناد مصر عام 2013، أعلن مسؤوليته عن عدة هجماتٍ على قوات الأمن في القاهرة ومدن أخرى. فقد أعلن قائد التنظيم، مجد الدين المصري، الحرب على النظام المصري الحالي بقيادة عبد الفتاح السيسي. فأعضاء التنظيم بشكلٍ اساسي هم من فئة الشباب، ومنهم ممن شاركوا في ثورة يناير 2011 ضد مبارك. يكفُر التنظيم بالديمقراطية ويرى أنها آلية لتثبيت دعائم “أنظمة الطاغوت.” كما يعتبر التنظيم بأن دول الطوق هي من تحمي إسرائيل، لذا يجب استهداف وإزالة أنظمة الطاغوت العربية. تم تصنيف التنظيم مؤخراً في شهر مايو لعام 2014 لدى القضاء المصري بالجماعة الإرهابية، كما ادرجته الخارجية الامريكية ضمن قوائم التنظيمات الإرهابية في العالم في شهر ديسمبر لعام 2014.
أمل جماعة التوحيد والجهاد، فهي تنظيم جهادي متطرف شديد العنف، يقترب إلى الفكر التكفيري أكثر من اقترابه من الفكر السلفي الذي تعتنقه معظم التيارات الجهادية الموجودة في سيناء، وتعود أصوله إلى تسعينيات القرن الماضي. تتخذ هذه الجماعة حالياً من منطقة جبل الحلال التابع لشرم الشيخ مقراً لها، وتستخدم العنف لتحقيق اهدافها. يعتبر القضاء المصري جماعة التوحيد والجهاد مسؤولةً عن تفجيرات عام 2004-2006 في كلٍ من شرم الشيخ، ومدينة دهب، ونويبع، حيث كانت تستهدف الأجانب لضرب قطاع السياحة في مصر بهدف إضعاف الاقتصاد المصري. وفي السنوات الأخيرة، اتهم النظام المصري جماعة التوحيد والجهاد المصرية بالتنسيق مع بعض السلفيين الفلسطينيين في قطاع غزة، بتدريب أعضاء الجماعة على السلاح والمتفجرات. يقدر عدد أعضاء الجماعة حوالي 900 عضو حسب بعض المصادر الإعلامية.
هناك أسباب عديدة لتمركز الجماعات الجهادية في شبه جزيرة سيناء، وفي مقدمتها ضعف التواجد الأمني بسبب اتفاقية السلام مع إسرائيل الموقعة عام 1979 التي وضعت قيوداً صارمة على الوجود العسكري والشرطي. كما يؤخذ في الاعتبار العوامل الجغرافية الصحراوية الوعرة للمنطقة، والتهميش السياسي والاقتصادي لقبائل سيناء، مما جعلها حليفة على أتم الاستعداد للتعاون.
ومن هذا المنطلق، وفي ظل حالة الانفلات الأمني الذي أعقب الإطاحة بمبارك، وهروب السلفيين الجهاديين من السجون المصرية، ووفرة السلاح المهرب من ليبيا إبان سقوط النظام هناك عام 2011، كانت الفرصة متاحة لحالة نشطة للجماعات الراديكالية بأن تتمدد وترتفع وتيرة العلميات الإرهابية. وحتى مع وقوف حماس، على ما يبدو اليوم مع الدولة المصرية، وإن لم يبدأ العمل على مجالات التنمية الاقتصادية، وتطوير البنية التحتية، والتعليم في سيناء، فمن غير المرجح أن يتغير الوضع في أي وقتٍ قريب.