منذ قرونٍ مضت، كانت الإمبراطورية العثمانية والإمبراطورية الصفوية غريمين تقليديين؛ عدوين قاتلوا بعضهم البعض للهيمنة على الشرق الأوسط. وفي عام 2018، تغير الكثير، ويبدو أن إيران وتركيا تتمتعان بعلاقاتٍ هي الأكثر دفئاً منذ الثورة الإسلامية الإيرانية قبل قرابة أربعة عقودٍ من الزمان.
واليوم، يتشارك البلدان بعلاقاتٍ تجارية، سواء تلك المشروعة أو غير المشروعة، والتعاون العسكري والأهداف السياسية، وهو وضعٌ كان يبدو قبل بضع سنواتٍ من المستحيلات بين تركيا، العضو في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وجمهورية إيران الإسلامية المتشددة.
ومع ذلك، لم يتم الإعلان عن التقارب بين البلدين سوى في الأعوام القليلة الماضية فحسب. فمنذ عام 2012، تآمر المسؤولون التنفيذيون في بنك خلق المملوك للدولة في تركيا للسماح لإيران بالتهرب من العقوبات الأمريكية عن طريق إنفاق عائدات النفط والغاز على الذهب والغذاء. فقد كانت المحاكمة التي جرت مؤخراً للمدير العام للبنك، محمد هاكان أتيلا، والتي شهدت شهادة رضا ضراب، وهو متآمرٌ إيراني- تركي ضده، مما كشف النقاب عن دعم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان للمخطط، أمراً محرجاً للغاية لأنقرة. كما استشاط أردوغان غضباً لسماح المدعي العام في نيويورك بنشر غسيل تركيا القذر على الملأ، وكثيراً ما هاجم الولايات المتحدة الأمريكية في خطاباته في الفترة التي سبقت المحاكمة. وتُفسر هذه العداوة بين تركيا والولايات المتحدة الأمريكية إلى حدٍ ما تحسن العلاقات التركية- الإيرانية، إذ أن سعي أنقرة لاتخاذ مسارٍ جيوسياسي أكثر استقلالاً عن الولايات المتحدة وأوروبا قد حرّر تركيا من الانخراط بشكلٍ أوثق مع دول شبه منبوذة مثل إيران، حتى في نطاق مثل هذه الصفقات غير المشروعة.
تقارب علني
بثت المصالح المتبادلة المزيد من الدفء في العلاقات بين البلدين. ففي أغسطس 2017، قام الجنرال محمد باقري، رئيس أركان الجيش الإيراني، بزيارةً رسمية إلى أنقرة، حيث التقى بأردوغان ووزير الدفاع التركي. وعلى ما يبدو كانت الزيارة، التي تعدّ الأولى لمسؤولٍ إيراني بهذا المستوى الرفيع منذ عام 1979، مثمرة، إذ خرجت بوعودٍ علنية بتعزيز التدريب والتعاون في مجال الاستخبارات المضادة. كما حدد أردوغان موعداً لزيارة إيران. وبدايةً، تم ترتيب زيارة باقري لمناقشة الحرب في سوريا، فالصراع الدائم منذ سبع سنوات كان إلى حدٍ كبير المحفز الرئيسي وراء التقارب التركي- الإيراني.
وعلى الرغم من أن تركيا وإيران يدعمان أطرافاً متنازعة في سوريا، مع دعم إيران القوي لنظام بشار الأسد ودعم تركيا، بشكلٍ رئيسي، للمتمردين السُنّة، إلا أن مصالحهم بدأت بالانسجام في السنوات الأخيرة. وبما أن الدعم الروسي للنظام جعل من الإطاحة بالأسد أمراً مستبعداً على نحوٍ متزايد، وافقت أنقرة على التعاون مع طهران وموسكو لوضع حدٍ للصراع وضمان خدمة مصالح تركيا بشكلٍ أفضل في هذه المرحلة. وعليه، سهلت محادثات أستانا هذا الحوار. فقد اعتبر الغرب، إلى حدٍ كبير، محادثات أستانا- وهي محادثاتٌ منافسة لمحادثات جنيف برعاية الأمم المتحدة- خدعةً روسية لتوجيه عملية اتخاذ القرارات الإقليمية إلى موسكو مجدداً، بالرغم من أن تركيا انخرطت في هذه المحادثات دون مثل هذا التحيز. واتفقت إيران وروسيا وتركيا على إنشاء مناطق لتخفيف حدة التصعيد، على الرغم من انتقادها في وقتٍ لاحق، وعلى نحوٍ سليم، بتمكينها هجمات النظام، إلا أنها بقيت لفترةٍ أطول من تلك التي وضعتها محادثات جنيف. وبشكلٍ حاسم، مهدت محادثات أستانا الطريق أمام توغل تركيا في جرابلس وعفرين في شمال سوريا، مستهدفةً المقاتلين الأكراد الذين تعتقد أنقرة أنهم مرتبطون بحزب العمال الكردستاني في تركيا.
فالمعركة ضد الأكراد أكثر مكانٍ تجد فيه تركيا وإيران أرضيةً مشتركة. فكلا الدولتين كافحت حركات التمرد الكردية لعقود، كما أن الحكم الذاتي للمنطقة الكردية في العراق لم يؤدِ سوى لإثارة المشاعر القومية- العرقية بين السكان الأكراد في كلتا الدولتين. ففي أكتوبر 2017، أغلقت إيران وتركيا حدودهما ومجالهما الجوي أمام حركة المرور من وإلى كردستان العراق وذلك بعد استفتاءٍ غير معترفٍ به للاستقلال أجري هناك في الشهر السابق. وأيضاً في عام 2017، أعلنت تركيا عن بناء جدارٍ على طول الحدود مع إيران لمكافحة التهريب عبر الحدود، وهي خطوةٌ رحبت بها إيران، التي كافحت لمعالجة المشكلة. وبالتعاون مع العراق، نفذ البلدان عمليةً مشتركة لمكافحة حزب العمال الكردستاني في ديسمبر. فإيران ليست من محبي التطلعات الكردية للحكم الذاتي في سوريا، ومن المحتمل أن الاعتبارات الخاصة بكيفية استفادة كل من تركيا وإيران من التوغلات التركية في شمال سوريا لعبت دوراً مهيمناً خلال زيارة الجنرال باقري إلى تركيا العام الماضي. ومن المثير للاهتمام، أنه في ضوء التعاون بين الدول الثلاث في محادثات أستانا، أعلنت الشركة التركية يونت انترناشونال (Unit International) في العام الماضي أنها وقعت اتفاقاً بقيمة سبعة مليار دولار مع شركة زاروبزنفت (Zarubezhneft) الروسية المملوكة للدولة وشركة الغدير الاستثمارية الإيرانية للتنقيب عن النفط والغاز الطبيعي في إيران، مما فتح جبهةً جديدة للتوسع في صناعة الطاقة في تركيا.
عدو عدوي
كما يجب النظر إلى العلاقات التركية الإيرانية الأكثر دفئاً في ضوء توازن القوى الإقليمي. فقد واجه صعود النفوذ الشيعي (المدعوم من إيران) في الشرق الأوسط مقاومةً شديدة من المملكة العربية السعودية السُنيّة. فمع سعي أنقرة إلى لعب دورٍ أكثر تأثيراً على المستوى الإقليمي، أثارت تركيا أيضاً غضب أعضاء الجامعة العربية، مما أثار التوترات مع الرياض. وصلت هذه التوترات أوجها مع الحصار الذي فرضته المملكة العربية السعودية على قطر في العام الماضي. وبما أن معظم دول مجلس التعاون الخليجي تكالبت على قطر الغنية بالنفط لاسترضائها إيران وسعيها إلى تحقيق أهدافها في المنطقة فيما يتعلق بسياستها الخارجية، بما في ذلك السماح بوجود قاعدة عسكرية تركية على أراضيها، دخلت تركيا وإيران على خط النزاع. حافظت تركيا وإيران على تزويد قطر بالغذاء، وسمحت إيران للخطوط الجوية القطرية باستخدام مجالها الجوي. وفي نوفمبر، وقعت تركيا وإيران وقطر اتفاقاً لتيسير نقل السلع وتعزيز التجارة الثلاثية، مما يوفر شريان حياة لقطر، التي ما زالت عالقة في نزاعٍ مع جيرانها. وفي دعمها لقطر، اتحدت المصالح التركية والإيرانية مرةً أخرى، هذه المرة في معارضة المملكة العربية السعودية.
ومع ذلك، لا يقتصر العداء بين الرياض وأنقرة على موقف تركيا من قطر فحسب. ففي أوائل مارس 2018، اتهم ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، تركيا بكونها جزء من “مثلث الشر” مع إيران والجماعات الإسلامية المتشددة. وهذا الهجوم هو الأكبر والأكثر علنية التي تشنه الرياض على أنقرة، ويأتي في الوقت الذي يقوم به الأمير بحملة علاقات عامة عالمية لتبييض صفحة المملكة العربية السعودية لدى الرأي العام الدولي.
كما كانت التعليقات دليلاً على التنافس المتزايد بين الدولتين، فقد شجب محمد بن سلمان محاولة تركيا إعادة إحياء الخلافة الإسلامية، التي انهارت قبل قرنٍ تقريباً مع ولادة الجمهورية التركية. وباعتبارها الوصية على أقدس موقعين في الإسلام، تتمتع الملكية في المملكة العربية السعودية بمكانةٍ موقرة في الثقافة الإسلامية، وهي مكانةٌ كانت يوماً ما مُلكاً للسلاطين العثمانيين. ويتوق أردوغان، الذي يفضل حزبه الإسلامي، حزب العدالة والتنمية، استخدام الحنين العثماني، بأن يحظى بسمعةٍ في نظر المسلمين كتلك التي تتمتع بها الرياض، فضلاً عن التأييد الشعبي الكبير الذي حظيت به تركيا لموقفها من فلسطين واستعدادها لاستضافة اللاجئين السوريين منذ عام 2011. وبحسب تعليقات محمد بن سلمان، لا يبدو أن هذا مر مرور الكرام في الأوساط السعودية.
ولكن، وبالرغم من العلاقات الوثيقة بشكلٍ ملحوظ، إلا أن تركيا وإيران بعيدتان كل البعد عن الصداقة. وبالنظر إلى موقفهما المتناقض حول مستقبل سوريا، وطموحات الدولتين الأوسع نطاقاً فيما يتعلق بالتأثير الإقليمي، فمن المرجح أن ينشأ خلافٌ بينهما في المستقبل. ولكن باعتبارهما شركاء حاليين، فهما ملائمين بدرجةٍ مثلى.