المقدمة
شهد القرن السادس عشر اقتتال القوتين العظميين في العالم – الإمبراطوريتين الإسبانية والعثمانية – للسيطرة على شمال إفريقيا، بما في ذلك أفريقية. احتل العثمانيون القسطنطينية والبلقان في القرن الخامس عشر، وسوريا ومصر في أوائل القرن السادس عشر. وتحولوا بعد ذلك إلى منطقة البحر الأبيض المتوسط سعياً وراء إمكانية توسيع إمبراطوريتهم. ومع بداية القرن السادس عشر، كان الأسبان قد احتلوا عدّة مواقع استراتيجية في منطقة البحر المتوسط، بما فيها طرابلس وبجاية والمرسى الكبير ووهران، وأبرمت معاهدات مع مدن أخرى كالجزائر وتونس. وبحكم موقعها القريب من تونس، استولت إسبانيا على ميناء حلق الوادي في نهاية المطاف.
شجع احتلال إسبانيا لمواقع استراتيجية عديدة في منطقة البحر المتوسط وأفريقية الكبرى العثمانيين على التوسع باتجاه شمال إفريقيا للحد من سيطرة الأسبان على المنطقة. شكّل العثمانيون تهديداً أكبر من الأسبان على حكام السلالة الحفصية، مع أنّ العديد من المسلمين العرب وعلماء الدين فضلوا الحكم الإسلامي على الحكم المسيحي.
بدأ الحكم العثماني في شمال إفريقيا من قبل الأخوين عروج وخضر (بربروس) اللذين جاءا إلى تونس كقائدين للقراصنة العثمانيين وسفن القرصنة والقراصنة العاملين من شمال إفريقيا. ومع حلول عام 1510، ازدهر الشقيقان بشكل كبير لدرجة أنهما قرّرا إقامة قاعدة مستقلة لهما والانتقال الى حلق الوادي وجربة. بعد فترة وجيزة من وصولهما، قاما بعقد صفقات مع الحفصيين بغية تقاسم أرباح القرصنة.
في أوائل القرن السادس عشر، انتقل الأخوان إلى الجزائر الحالية لاحتلال الجزائر العاصمة. في ذلك الوقت، كان الأسبان يحكمون الجزائر، ومع أنهما لم يتمكنا من السيطرة على المدينة عسكرياً، إلا أنهما استوليا على الميناء من جزيرة الصخرة المحتلة. وبعد دخول الجزائر، قُتل الأخ الأكبر عروج في محاولة للسيطرة على تلمسان. ثم تمكن بربروس (خضر) من الاستيلاء على مدينة الجزائر. وفي السنوات اللاحقة، اشتهر بربروس بعد انتصارات عدة في معارك بحرية، فمنحه السلطان العثماني إثر ذلك لقب باشا للقوات البحرية.
استولى بربروس على تونس عام 1534، وكان شديد الانشغال بالتطورات خارج شمال إفريقيا. لكنّ الحكم العثماني على أفريقية تعزز مرة أخرى عام 1558 بعد هجوم درغوث، قرصان حكم طرابلس، على تونس ودخوله القيروان، أقدس مدينة في تونس. وسرعان ما تبع ذلك هجمات من الغرب. عام 1569، استولى ألوج علي، خليفة بربروس في الجزائر، على تونس عاصمة الدولة الحفصية.
في حين تحدت إسبانيا احتلال تونس عام 1569 – استولى الأسبان على المدينة عام 1973 – وبدأ ألوج علي في السنوات التالية بتثبيت نفسه في أفريقية. ولإثبات سيادته، قام بسجن آخر حكام السلالة الحفصية. عام 1581، دخل العثمانيون في هدنة مع إسبانيا، مما سهّل العلاقات بين القوتين فتقاسما الحكم بينهما في شمال إفريقيا: حكم العثمانيون أفريقية حتى القرن التّاسع عشر.
خلال السنوات التالية، كان العثمانيون الأمة الإسلامية الرائدة في العالم. وأُطلق على السلطان العثماني لقب الخليفة. وكان للحكم العثماني تأثير كبير على التاريخ الثقافي والقانوني التونسي. فعلى سبيل المثال، كان القانون العثماني لا يستند فقط على الفقه الإسلامي، وإنما أيضاً على فقه من العصر الروماني والبيزنطي وعادات وتقاليد العثمانيين والمغول. فضّل العثمانيون المذهب الحنفي على المذهب المالكي التونسي، لكن سُمح لبعض الفقهاء المالكيين بإصدار الأحكام.
أثرت اللغة التركية العثمانية على نحو متزايد على نخبة رجال الأعمال والكتّاب في تونس، وأبرزت انقسامات لغوية فيها من خلال تفضيل اللغة العربية على البربرية، التطور الذي يمكن ملاحظته بشكل واضح في تونس الحالية.
في البداية، لاقى العثمانيون ترحيباً في المناطق الحضرية على اعتبار تعزيز الاستقرار في المدن. غير أن الأمور كانت مختلفة تماماً في المناطق الريفية، حيث اعتبرت النخبة التركية مهيمنة ومتحفظة. لم ينجح الأتراك أبداً في التحكم باقتصاد الريف وتنظيمه بفعالية. فقد كان الاستقرار في عهد العثمانيين مهدّداً من الخارج كما من الدوائر التركية. عام 1587، أصبح الباشا العثماني حاكم إقليم أفريقية، وكان المنصب الذي يليه مباشرةً فيما يعرف بـ “باي تونس”.
ظهرت الاضطرابات في الجيش التركي عام 1591، وأصبح الداي – لقب القائد العسكري الجديد – حاكماً على تونس. في البداية، كانت صلاحياته محصورة بالعاصمة وبعض المدن الأخرى. أما في عهد عثمان داي وصهره يوسف داي، نعمت تونس بالازدهار والاستقرار النسبيين. وتم تمويل مشاريع البناء، بما في ذلك المساجد والحصون وغيرها من المشاريع العامة، من خزانة الدولة. كما ظهرت عدة مجموعات مصالح تمكنت في النهاية من تحدي سلطة يوسف داي.
في نهاية المطاف، ساندت هذه المجموعات الأراضي الخاضعة لسلطة الباي، والتي كان يتحكم بها المراديون. اشتهر مراد باي، مؤسس سلالة البايات، بعد نجاحه في قمع القبائل الثائرة، مما دفع بالسلطان العثماني إلى منحه لقب باشا، فاكتسب شرعية ومنزلة رفيعة ساهمت في سبعينيات القرن السابع عشر بشكل تدريجي في تحجيم سلطة الداي لصالح الباي. لكن البايات المراديين واجهوا انقسامات داخلية دفعت بالقوات الجزائرية إلى دخول تونس وبقائها فيها عدة سنوات. رافق هذا التحول في السلطة من الدايات إلى البايات سياسةً اقتصادية متغيرة، جزئياً نتيجة انخفاض دخل القراصنة بسبب الضغط الأوروبي. وتوسعت التجارة الزراعية مع دمج المناطق الحضرية أكثر فأكثر، غير أن النخبة التونسية الحاكمة ورجال الأعمال حققوا مكاسب من التجارة أكثر من الفئات الاجتماعية الأخرى، مما زاد من الانقسامات الاجتماعية.
البايات الحسينيون
تولى الحسين الأول بن علي، ضابط من الفرسان العثمانيين، الحكم عام 1705 بعد أن شارك جيشه في صد الغزو الجزائري على تونس. تمكّن الحسين بن علي من مقاومة الداي، الذي كان يسعى إلى بسط سيطرته على المنطقة، وذلك بفضل علاقاته الوثيقة مع القبائل التونسية والسلطات التونسية. كما سعى الحسين بن علي إلى تحقيق الشهرة عن طريق تعيين علماء وفقهاء من المذهب المالكي بدل أتباع المذهب الحنفي المفضلين لدى العثمانيين من جهة، والتضافر والتعاون لضمان ولاء القبائل البربرية من جهة أخرى.
كما أطلق مشاريع أشغال عامة، كبناء المدارس والمساجد بهدف تعزيز شرعيته. غير أنّ الاستقرار النسبي لنظامه تزعزع عام 1735 بسبب نشوء خلاف بين ابن أخيه علي وابنه محمد بشأن الخلافة بعد الحسين بن علي. نتج عن ذلك حرب أهلية دامت خمس سنوات انتهت بانتصار علي. وبعد ستة عشر عاماً، عاد محمد ليصبح الخليفة الشرعي للبايات الحسينيين.