لا تتبنى الدول العربية، وتحديداً الخليجية، موقفاً موحداً ومتجانساً من الاتفاق الذي توصلت إليه إيران والدول العظمى (5+1) في يوليو 2015 بشأن مستقبل برنامج طهران النووي. فعلى الرغم من أن جميع الدول الخليجية قد أصدرت بيانات ترحيب بالاتفاق، إلا أن هناك تباين كبير في مواقف حكوماتها من هذا الاتفاق. ومن خلال تصريحات المسؤولين الخليجيين، يتضح أن كلاً من السعودية والبحرين هما الأكثر قلقاً من تبعات الاتفاق، وبدرجة أقل قطر، في حين أن دولة الإمارات وسلطنة عُمان، هما الأكثر احتفاءً بهذا الاتفاق، وبدرجة أقل الكويت.
ونظراً لأن السعودية هي الدولة الأكبر والأهم في المنظومة الخليجية، فإن موقفها من الاتفاق يكتسب أهمية ودلالة خاصة. فعلى الرغم من التصريح الرسمي الذي أصدرته الخارجية السعودية ترحيباً بالاتفاق، إلا أن تصريحات مسؤولين سعوديين ونخب مرتبطة بدوائر الحكم في الرياض تدلل على أن نظام الحكم في السعودية يرى في الاتفاق مصدر تهديد إستراتيجي، ويعكف على اتخاذ إجراءات تضمن التصدي له والاستعداد لمواجهته عبر إحداث تغيير كلي ليس فقط في سياسات الرياض الخارجية، بل أيضاً في منظومة تحالفاتها الإقليمية. ويستشف من ردود الفعل السعودية، أن الرياض تخشى أن يفضي الاتفاق إلى بناء شراكة إستراتيجية بين الولايات المتحدة والغرب عموماً وإيران، تدفع السعودية على وجه الخصوص ثمنها. وتبدي الرياض قلقاً إزاء حدوث مقايضة بين واشنطن وطهران، تقوم على أساس تولي إيران لعب الدور الرئيس في مواجهة التنظيمات الإسلامية السُنية، خاصة تنظيم “الدولة الإسلامية“، وهي المواجهة التي تقع على رأس أولويات إدارة الرئيس أوباما، مقابل اعتراف واشنطن بمكانة إيران الرائدة في المنطقة، إلى جانب إطلاق يدها لتحقيق مصالحها.
وتخشى السعودية أن تصبح بين فكي كماشة إيرانية من ثلاث جهات. فوفقاً للرواية السعودية، التي تعتبر مثار جدلٍ من قِبل العديد من المحللين الدوليين، هناك من الجنوب، حيث اليمن، الذي وقع تحت سيطرة جماعة الحوثي الشيعية، المعروفة بولائها لإيران، ومن جنوب الشرق، في البحرين، الذي تقوم إيران بدعم المعارضة الشيعية فيه، وهي المعارضة التي تطالب بإصلاحات دستورية، يفضي تطبيقها إلى إنهاء وجود نظام حكم عائلة “خليفة” السُنية، المرتبطة بتحالف قوي مع السعودية، ومن الشرق، في العراق، والذي يرى السعوديون، أنه وقع بالفعل في قبضة الجماعات الشيعية التي توالي إيران.
وتبدي السعودية قلقاً من تمكن طهران من تعزيز مكاسبها الإقليمية في أعقاب التوقيع على الاتفاق. ويتوجس السعوديون من أن يسهم الاتفاق في بلورة تفاهم غربي إيراني يضمن التسليم ببقاء نظام حكم الرئيس بشار الأسد في سوريا، مما يعزز من مكاسب حلفاء إيران في لبنان أيضاً، سيما حزب الله، الذي لا يتردد زعيمه حسن نصر الله في مهاجمة السعودية. من هنا، لم يكن من المستهجن أن يحذر وزير الخارجية السعودي عادل الجبير من أن بلاده لن تتردد في “مواجهة إيران بكل قوة في حال وظفت الاتفاق في إثارة مشكلات على مستوى المنطقة.” ويقول الكاتب السعودي عبد الرحمن الراشد، المدير السابق لقناة “العربية” إن الاتفاق يمنح إيران القدرة على مواصلة دعم “الجماعات المتطرفة”، علاوة على أن الاتفاق عزز من نفوذ جناح الصقور في النظام الإيراني،متوقعاً أن يدفع هذا التيار إيران لشن مزيد من الحروب الإقليمية.” ويرى الكاتب السعودي حسن شبكشي أن الاتفاق سيفضي إلى تأجيج نار الصراع المذهبي بين السُنة والشيعة. وفي مقال نشرته صحيفة “الشرق الأوسط” بتاريخ 16 يوليو 2015، يحذر شبكشي من أن الإفراج عن الودائع الإيرانية في الغرب يعني السماح لإيران بشراء السلاح مما يعني تعزيز ترسانتها وتوظيفها في “إثارة القلاقل، حتى تكون دولة راعية للإرهاب بدعم دولي”، على حد تعبيره.
ومن خلال رصد مظاهر السلوك السعودي بعد التوقيع على الاتفاق يمكن القول، إن إستراتيجية الرياض لمواجهة تداعيات الاتفاق تقوم على ركيزتين أساسيتين:
أولاً: محاولة إلحاق هزيمة بإيران في مناطق نفوذها داخل المنطقة، وهو ما وجد تعبيره في تعزيز الضربات السعودية للحوثيين في اليمن، مما نجم عنه طردهم من مدينة عدن، ثاني أهم مدينة في البلاد بعد العاصمة صنعاء وسبب أزمة إنسانية في البلاد. وقد عززت الرياض من دعمها لحكومة البحرين، سيما وأن تدهوراً على الأوضاع الأمنية قد طرأ في هذه الدولة بعد التوقيع على الاتفاق. وقد اتهمت وزارة الداخلية البحرينية إيران بتهريب السلاح والمتفجرات لعناصر المعارضة الشيعية في البلاد، على الرغم من أنّ كلاً من إيران وجماعات المعارضة الشيعية البحرينية تنفي ذلك. في الوقت ذاته، فإن السعودية تبدي حرصاً على إحداث تغيير في موازين القوى داخل سوريا لصالح قوى المعارضة المسلحة. وتستعد الرياض لاحتضان مؤتمر كبير لقوى المعارضة السورية، مخصص لمناقشة سبل توحيد حركاتها المختلفة من أجل تعزيز قدرتها على انهاء حكم الأسد، بالإضافة إلى بلورة إستراتيجية لمواجهة تنظيم “الدولة الإسلامية”، الذي يقاتل قوى المعارضة، ولم يتردد في تنفيذ هجمات داخل الأراضي السعودية.
ثانياً: تسعى السعودية لبناء تحالف سني واسع لمواجهة إيران، وتقليص قدرتها على تحقيق اختراقات في البيئة الإستراتيجية للسعودية. وفي هذا الإطار أقدمت السعودية على مصالحة تاريخية مع جماعة الإخوان المسلمين، التي تم تصنيفها في عهد الملك السابق عبد الله على أنها منظمة إرهابية. ففي اليمن، وعلى الأرض تعتمد السعودية بشكل كامل على “المقاومة الشعبية”، التي يقودها حزب “الإصلاح”، الذي يعتبر الجناح السياسي لجماعة الإخوان المسلمين. وفي حدث ذو دلالة خاصة، استقبل الملك سلمان خالد مشعل، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس. ومن الواضح أن هذه الخطوة تهدف إلى إبعاد الحركة عن أحضان إيران وتعزيز المحور السني. وفي الوقت ذاته، فقد استقبلت الرياض راشد الغنوشي، زعيم حركة “النهضة”، التي تمثل “الإخوان المسلمين” في تونس، مع أنه كان ممنوعاً من أداء فريضة الحج بسبب انتمائه الحزبي. وقد ذكرت تسريبات أن السعودية معنية بإحداث مصالحة بين نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي وجماعة الإخوان المسلمين في مصر، يتم بموجبها الغاء أحكام الإعدام التي صدرت بحق قادة الجماعة.
لكن المفارقة تكمن في أن التغير الذي طرأ على موقف السعودية من الإخوان المسلمين هو الذي دفع بعض الدول العربية للتقرب من إيران تحديداً. فعلى سبيل المثال حرصت دولة الإمارات، التي تتخذ موقفاً متشدداً من “الإخوان المسلمين”، على النأي بنفسها عن الإستراتيجية السعودية. وقد وصل إلى درجة قيام رئيس دولة الإمارات خليفة آل انهيار بتوجيه رسالة “تهنئة” للرئيس الإيراني حسن روحاني على هذا الاتفاق. وقد كشف موقع صحيفة “العربي الجديد” بتاريخ 29 يوليو 2015 النقاب عن أن الإمارات ستستغل الاتفاق في استيراد الغاز الطبيعي من إيران. وعلى نحوٍ مشابه، وبسبب الاختلاف مع السعودية من الموقف من جماعة الإخوان المسلمين، فأن هناك مؤشرات تدلل على أن القاهرة معنية بتحسين العلاقات مع طهران، وهذا ما تعبر عنه وسائل الإعلام الموالية للرئيس السيسي، مع العلم أن كل المؤشرات تؤكد أن توتراً كبيراً حدث بين الرياض والقاهرة، بعد صعود الملك سلمان للحكم.
من هنا، فأن الكاتب اللبناني خالد غزال يبدو متشائماً إزاء قدرة الدول العربية على مواجهة إيران، وذلك بسبب الانهيارات البنيوية التي يشهدها العالم العربي. وفي مقال نشرته صحيفة “الحياة” بتاريخ 25 يوليو 2015، يرى غزال أن العالم العربي “يعيش حالة من التشويش والضياع”، مشيراً إلى أن النظام الرسمي العربي فقد القدرة على التضامن في مواجهة التحديات الكبرى، مشيراً إلى أن الصراعات الأهلية قلصت من قدرة العرب على التفرغ لمواجهة التحديات الخارجية.