في خضم زيارة رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، الرسمية لمصر، والتي كان من المقرر أن تستمر لخمسة أيام، تلقى مكالمةً هاتفية من المملكة العربية السعودية تطلب منه الحضور إلى العاصمة الرياض في السادس من نوفمبر 2017. وعلى إثر ذلك، توجه على جناح السرعة إلى الرياض حيث التقى بالملك سلمان وولي العهد، محمد بن سلمان. ووفقاً لما ذكره أحد كبار المسؤولين الفلسطينيين الذي حضر الاجتماع، تركزت المحادثات حول وضع المصالحة بين حركة فتح، التي يرأسها عباس، وحماس التي تُسيطر على قطاع غزة، وزيارة وفدٍ رفيع المستوى من حماس إلى إيران.
فالسعودية التي يحكمها السُنة تعتبر أن إيران الشيعية وأي حزب أو بلد تدعمه، العدو الأول للمملكة، وتشتمل القائمة على حزب الله اللبناني، وحماس، وقطر، التي فرضت عليها السعودية حصاراً في يونيو الماضي لدعمها المزعوم للإرهاب.
وعليه، قيل لعباس، بعباراتٍ لا لُبس فيها، أنه ينبغي أن تؤدي المصالحة إلى كسر شوكة حماس وجناحها العسكري، كتائب عز الدين القسام. فقد اعتبرت السعودية جرأة حماس بالتوجه إلى طهران ورفضها تسليم سلاحها بعد تسليمها معابر قطاع غزة للسلطة الفلسطينية في نوفمبر الماضي، استفزازاً واضحاً لها ولحصارها على قطر.
فلا تزال الدروس المستفادة من لبنان “طازجة” في العقول السعودية، إذ يعتقد السعوديون أن حزب الله بات يتمتع بمثل هذه القوة الكبيرة ذلك أنهم سمحوا له بالاحتفاظ بأسلحته ونتيجةً لذلك، استولى الحزب على الحكومة اللبنانية.
كان عباس على علمٍ بذلك حتى قبل استدعائه إلى الرياض، إذ قال في تصريحٍ صحفي إنه لن يسمح بوجود حكومتين ومجموعتين من القوى الأمنية في قطاع غزة، وأن الحكومة الفلسطينية لن تتسامح مع استنساخ تجربة حزب الله في غزة. فقد حدث الانقسام الفلسطيني الذي استمر عشر سنوات بعد انتخاب كتلة التغيير والإصلاح المؤيدة لحماس برئاسة إسماعيل هنية في يناير 2006. كانت الحصيلة الطبيعية لهذه النتيجة أن طلب عباس من هنية أن يصبح رئيساً للوزراء، الذي بدوره سرعان ما تمكن من تشكيل حكومةٍ واكتسب ثقة أغلبية أعضاء المجلس التشريعي الفلسطيني، غير أن المجتمع الدولي رفض الاعتراف بانتصار حماس ما لم تلبي الحكومة الفلسطينية ثلاثة شروط: الالتزام بالاتفاقات السابقة (أي اتفاقات أوسلو) والاعتراف بإسرائيل ونبذ الإرهاب.
لم تتمكن حماس من العمل بفعالية دون اعترافٍ دولي، وأصبح موقفها أكثر صعوبة عندما رفضت المصارف في جميع أنحاء العالم الاعتراف بتوقيع وزير المالية الفلسطيني في حكومة هنية.
وفي الوقت نفسه، كانت الأوضاع في غزة تتجه نحو تدهورٍ سريع، إذ لم تتمكن حماس من الوصول إلى جهازٍ أمني، الذي كان لا يزال تحت سيطرة السلطة الفلسطينية في رام الله في الضفة الغربية. ونتيجةً لذلك، أنشأت حماس قوةً تنفيذية، مما يعني أن كيانين أمنيين مسلحين متنافسين كانا يعملان في نفس المنطقة. وكان من الواضح أن هذا الأمر قد شكل كارثةً في عملية صنع القرار، وبالفعل وبحلول يونيو 2007، عندما أسفر القتال والعنف عن هزيمة قوات الأمن الموالية لمنظمة التحرير الفلسطينية، تمكنت السلطة التنفيذية من تعزيز سيطرتها على قطاع غزة.
كان من أول ضحايا هذا الوضع الراهن الجديد الحرس الرئاسي الفلسطيني، الذي فرّ إلى مصر عبر معبر رفح الحدودي أو إلى رام الله بمساعدة الاسرائيليين. وبعدم وجود الحرس الرئاسي، فضل المراقبون الأوروبيون المغادرة أيضاً، مما ترك معبر رفح الحدودي دون أي حكومةٍ معترف بها على الجانب الفلسطيني. ورداً على ذلك، أغلق المصريون الحدود. أدى هذا الإغلاق إلى جانب الحصار الإسرائيلي إلى أزمةٍ إنسانية استمرت لعقدٍ من الزمان وطالت ما يقرب من مليوني فلسطيني يعيشون في غزة. وعليه، تمكنت اسرائيل من السيطرة على تدفق الاشخاص والبضائع الى داخل وخارج القطاع مما دفع بعض المسؤولين الى الادعاء بأن إسرائيل تريد تضييق الخناق على الغزيين دون تركهم يموتون جوعاً.
ردت قيادة حماس بطريقتين، إذ اتجهت أولاً إلى إقامة علاقاتٍ قوية مع سوريا وقطر وإيران، وكذلك مع حكومة الإخوان المسلمين، قصيرة الأجل، في مصر بقيادة محمد مرسي. وفي الوقت نفسه، بدأت في بناء الأنفاق إلى مصر، مما يسمح لها بتخطي عائق إغلاق الحدود.
وفي ذلك الوقت أيضاً، واصلت حماس تظاهرها بتأييد جهود المصالحة مع منظمة التحرير الفلسطينية وفتح، دون أي نوايا حقيقية بتحقيق ذلك على أرض الواقع. كما منح حُكم مرسي قصير الأجل متنفساً لحماس وأجل التوصل إلى مصالحةٍ نهائية. وعلاوةً على ذلك، منح الربيع العربي أيضاً حماس فرصة إقامة علاقاتٍ مع المعارضة الإسلامية للرئيس السوري بشار الأسد، وهي خطوةٌ عادت بنتائج عكسية عندما نجى الأسد من الاحتجاجات المبكرة التي اندلعت في بلاده. هدم هذا دعم الفرع السوري لحماس، كما تم ترحيل خالد مشعل وغيره من قادة حماس المنفيين من الأردن، ومع دعم ميليشيا حزب الله للنظام السوري، باتت لبنان أيضاً احتمالاً غير وارد، وعليه لم يجد قادة حماس مكاناً آخر للتوجه إليه سوى قطر. وحتى إيران، التي كانت أيضاً تدعم الأسد، لم تكن على استعدادٍ لمساعدة حماس كما كانت عليه في السابق، كما أغلق استيلاء عبد الفتاح السيسي، المعارض الشرس للإسلاميين، باب مصر أيضاً.
بيد أن الهجوم الأعنف الذي تعرضت له حماس جاء عندما شكلت السعودية والإمارات والبحرين ومصر تحالفاً معادياً لقطر. فقد عنى ذلك نهاية آخر ملاذٍ مالي وحقيقي لحماس، بالرغم من إدعاء قطر عدم انصياعها لمطالب التحالف بشأن حماس.
وسرعان ما بدأ بيت الورق الذي بنته حماس على مر السنين بالانهيار. أجريت الانتخابات لاختيار قائدٍ لحماس، إذ كان يحيى السنوار المتشدد، من بين المنتخبين لتمثيل قطاع غزة، بينما أصبح اسماعيل هنية رئيساً للمكتب السياسي للحركة. والأهم من ذلك، سرعان ما أدركت القيادة الجديدة لحماس أن الطريق الوحيد لبقاء الحركة على قيد الحياة هي بإعادة الانخراط مع منافسيها في رام الله.
سيّر هذا الإدراك اتفاق المصالحة والقبول التام بالشروط التي وضعها عباس، حيث اشتملت هذه الشروط على حل الإدارة التنفيذية، وتمكين الحكومة التي تتخذ من رام الله مقراً لها، والموافقة على الانتخابات البرلمانية والرئاسية العامة.
لم تنعكس جدية حماس في استسلامها التام لرام الله فحسب، بل أيضاً بتصريح السنوار، الذي حذر بأنه “سيكسر عنق من لا يريد المصالحة من أبناء حماس قبل أبناء فتح.”
إلا أنه ظهرت عقبتان، أولهما عدم رغبة كتائب عز الدين القسام تسليم سلاحها، وثانيهما، زيارة مسؤولين من حماس إلى طهران، الذين تعهدوا أيضاً بالالتزام بعدم تسليم السلاح.
ويبدو أن هذا هو الفتيل الذي أشعل شرارة الرد العنيف للسعودية، ويبدو أيضاً أنه السبب وراء استدعاء عباس إلى الرياض.
إن لعبة التوازن المفروضة اليوم على حركتي حماس وفتح تحتاج إلى بعض الضغوط الخارجية، التي يبدو أن المصريين على أتم الاستعداد للقيام بها، وبخاصة ضد حماس. وفي الوقت نفسه، تستطيع المملكة العربية السعودية فرض ضغطٍ مماثل على منظمة التحرير الفلسطينية، وذلك في الغالب من خلال دعمها المالي للحكومة الفلسطينية.