وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

القبيلة في عُمان: عين على الماضي وأخرى على المستقبل

عُمان السكان القبيلة أغان تقليدية
رجال قبائل يغنون أغانٍ عُمانية تقليدية. Photo Ron Dev/Flickr

المقدمة

منذ تولي السلطان قابوس بن سعيد مقاليد السُلطة بعد الإطاحة بوالده عام 1970، ومنذ قيام ما يُمكن وصفه بدولة القانون والمؤسسات، تمكنت هذه الدولة من الحد من حضور القبيلة في الحياة السياسية لكنها لم تنه هذا الحضور، بل أبقته على الرف لاستخدامه عند الضرورة، ذلك أن صُنّاع السياسة العمانيين، الذين خرجوا، هم أنفسهم، من عباءة القبيلة وثقافتها ومفاهيمها، لم يرغبوا في إنهاء القبيلة كمؤسسة اجتماعية وكشبكة علاقات وقيم ومفاهيم ثقافية… مهما ادعوا الانتماء إلى الحداثة والمعاصرة.

فهل تتعايش القبيلة مع الدولة المدنية الحديثة في عُمان أم تتعارض؟ الإجابة النظرية العامة عن سؤال كهذا هي النفي. إذ أن الدولة المدنية الحديثة تنفي القبيلة وتُنهيها وتُذّوب جميع الانتماءات والنزعات والمرجعيات في مرجعية واحدة، هي مرجعية الدولة أو مرجعية المواطنة.

لكن الأمر ليس بهذه البساطة، خصوصاً عندما لا تنهض الدولة الحديثة على رافعة المواطنة وشروطها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وفي مقدمتها حكم الدستور والمشاركة السياسية وفصل السلطات. في هذه الحالة، حالة غياب دولة المواطنة، كما في عُمان وفي العديد من الدول العربية أيضاً، تبقى القبيلة خط اللجوء الأكيد لانتماءات ونزعات وهويات ما قبل الدولة، لكنها أيضاً تُشكل تهديداً للمكتسبات المتواضعة للدولة الوطنية الحديثة، لكيانها ولوحدتها. ولعل حالة العراق وسوريا واليمن خير مثال.

غير أن سؤال العلاقة بين الدولة والقبيلة في المنطقة العريبة يثير سؤالاً عن “مدنية وحداثوية الدولة العربية وأصالة هذه المدنية وتلك الحداثة”؟ وعن قدرة هذه الدولة، في صيغتها الوطنية الراهنة، على لعب دور الحاضن لجميع مواطنيها؟

سلطنة عمان إذاً ليست اسثناءً، بل لعلها واحدة من التجارب البارزة على الالتحام بين القبيلة والدولة، فعلى الرغم أن للدولة مؤسسات وأذرع مهيمنة على مختلف شرائح المجتمع، إلا أن للقبيلة دور وحضور، وإن بديا باهتين ومحدودين في العشرين عاماً الماضية، ذلك أن القبيلة في هذا البلد العربي أسهمت وتسهم في تشكيل الطيف العام للدولة ورسم ملامح وخارطة تحالفاتها، غير أن هذا الإسهام ليس بالضرورة، ولا في كل الأحوال، إيجابياً، بل كان ولا يزال له الكثير من السلبيات.

القبيلة وولادة الدولة

تاريخياً، ولدت عُمان التي نعرفها اليوم من رحم قبيلة الأزد التي نزحت من اليمن بقيادة زعيمها مالك بن فهم، بسبب سيل العرم وانهيار سد مأرب عام 532. وبحسب الروايات العديدة، كان يسكن عمان في تلك الفترة أقوام متعددة، منهم العرب والفينيقيين والكلدانيين والسبئيين والفرس. لكن الفرس كانوا يهيمنون ويحكمون أجزاء من البلاد، خصوصاً المدن المطلة على الخليج.

ويحكي التاريخ أن الزعيم الأزدي مالك بن فهم تشاور مع العرب العمانيين الذين كانوا يقطنون ما كان يعرف بالجوف، اي المناطق الداخلية التي تُحصّنها الجبال، والتي تُعرف اليوم بمناطق “نزوى” و “بهلا”، تشاور معهم على محاربة الفرس وتحرير المناطق التي يحتلونها وإقامة دولة عربية خالصة، وقد وقعت الحرب بين الجانبين فيما عُرف بمعركة ” سلوت” أنتصرت فيها قبيلة الأزد بقيادة مالك بن فهم وهُزم الفرس بقيادة ملكهم على عُمان ويُدعى ” المرزبان.” وبعد أن استتب الأمر لمالك بن فهم وجماعته نزحت قبائل عربية أخرى إلى عُمان واستوطنت بها، لكن العمانيين يعتبرون قبيلة الأزد هي أم القبائل التي تفرع عنها، قبائل وعشائر وافخاذ عديدة، وهذه بدروها أقامت مناطق نفوذ لها، أشبه بدول داخل الدولة وكان لها قادتها وحكامها وشبكة تحالفاتها السياسية والاقتصادية.

وعندما ظهر الاسلام، كانت قبيلة “طي،” من قاد عُمان إلى الإسلام ومن مهد لانتشاره سلماً ودون حرب في الإقليم العماني برمته. لقد لعبت القبيلة دوراً سياسياً بالغ الأهمية في نشأة الدولة العمانية قديماً، ولعبت دوراً سياسياً لايقل أهمية عن دورها التأسيسي في اتخاذ قرار دخول الإسلام دون قتال، على خلاف كثير من الشعوب والأمم التي قاومت رسالة الإسلام ولم ترضخ لها إلا بقوة السيف.

القبيلة ودورها السياسي في العصر الحديث

الناظر إلى التاريخ السياسي لعمان خلال الألف وخمسائة سنة الماضية سيجد أن القبيلة هي الحاض للدولة وليس العكس، كما سيلاحظ، دون عناء، أن الدولة العمانية، في أطوارها وتجلياتها المختلفة، ارتبطت بقبيلة الحكم. وعبرهذا التاريخ، حُكمت عمان بواسطة عدد من القبائل أهمها: اليحمد، وبني خروص، والنبهانة، واليعاربة، والخليلي، والبوسعيد. وهذه الأخيرة تحكم عُمان منذ عام 1744 وحتى الآن.

إذا يُمكن القول أن الدولة في عمان التي ولدت في أحضان القبيلة، لا تزال في أحضانها، لكن العلاقة بين الطرفين شهدت الكثير من التبدلات، خصوصاً خلال المئتي عاماً الماضية ونيّف، وتحديداً مع دخول لاعبين آخرين على خط العلاقة بين القبيلة والدولة، أهمها القوى الدولية.

القراءة الفاحصة لمسار الدولة في عُمان وتطورها ضمن فضاء القبيلة وأحلافها المختلفة تكشف أن ميزان إيجابيات العلاقة بين الدولة والقبيلة يكاد يكون مساوياً لميزان سلبياته، وذلك لعدة أسباب. فإذا كان وجود القبيلة حاضنة للدولة ساعد الدولة – من خلال قبيلة الحكم الحاضنة – على التحالف مع القبائل الأخرى وعلى تحقيق قدر من الوحدة الوطنية، فإن هذا الوجود جعل من الدولة العمانية، على مدار تاريخها، دولة نخب قبلية لا دولة مواطنين، فحين يقتسم زعماء القبائل مؤسسات الدولة بينهم يتحول المواطنون إلى رعايا وتابعين.

حين يتحقق قدر عالٍ من التفاهم بين زعماء القبائل والعشائر يتحقق الاستقرار وينتعش الاقتصاد ويستتب الأمن، وحين يدب الخلاف والشقاق بينهم تصبح الدولة والمجتمع عرضة للصراع والحروب والشقاق. وفي التاريخ العماني شواهد ومحطات كثيرة على هذا الكلام. إنما يمكن التوقف عند ثلاث محطات كبرى في تاريخ العلاقة بين القبيلة والدولة في عُمان، وذلك لتبيان ملامح العلاقة الطردية بين الطرفين؛ الصعود والهبوط، القوة والضعف، الإيجابي والسلبي.

أولى المحطات قبيلة النباهنة ( 1183-1617)

في بداية حكمها تمكنت هذه القبيلة من بناء نظام سياسي وتحصينات دفاعية ومن حماية البلاد من سلسلة من الغزوات الفارسية التي قادها ملوك هرمز للاستيلاء على عُمان، أهمها غزوة أمير هرمز محمود بن أحمد الكوشي عام 1261. لكن صراع السلطة بين زعماء القبيلة الذين هم، في الوقت ذاته، زعماء الدولة، أضعف من قوة الدولة وقدرتها على صد هجمات الفرس المتتالية، ففي العام 1461 قاد ملك هرمز فخر الدين توران شاه حملة عسكرية تمكن فيها من احتلال عمان ونفي حاكمها سليمان بن مظفر بن سليمان النبهاني إلى منطقة الإحساء.

وتشير المصادر التاريخية إلى أن واحدة من ابرز سلبيات هيمنة القبيلة على النظام السياسي بكامله هو انغلاق فضاء السلطة على أبناء القبيلة دون سواهم، فعدا عن إشراك بعض فقهاء الدين بالرأي والمشورة، يبقى الشعب مستبعداً من أي مشاركة، كما أن صراع الأخوة والأبناء داخل قبيلة الحكم على الاستئثار بالسلطة أسهم في إضعاف عمان إبان حكم النبهانة.

وتشير كثير من كتب التارخ العماني إلى أن عمان دخلت في حروب أهلية بسبب الصراع بين أبناء السلطان مظفر بن سليمان النبهاني على الحكم، كما أن الفساد الذي صاحب مركز القرار السياسي لدى قبيلة النبهانة وانشغال الحكام بجمع المال ونهب الثروات، ساهما في عزلة قبيلة الحكم عن بقية القبائل، وبالتالي أضعف من قدرتها على حماية الوطن من الأطماع الأجنبية، فعاد التدخل الأجنبي في القرنين الخامس عشر والسادس عشر أقوى مما كان، لا سيما الغزو الفارسي وغزو العثمانيين، ثم الغزو البرتغالي.

إن أبرز سلبيات قبيلة النبهانة في حكم عمان هو عدم اهتمامها بإقامة نظام سياسي ومؤسسات حكم كالذي سنراه لدى القبيلتين اللتين جاءتا بعدهما. لقد اكتفت القبيلة بجاه الحكم دون مجد السياسة والتاريخ، غير أن الفترة الطويلة لحكم هذه القبيلة لم تكن مستقرة، بل تخللتها انقطاعات، إذ هيمن الغزاة الأجانب في فترات منها على البلاد كما انفردت قبائل أخرى بحكم مناطق مختلفة من عُمان.

المحطة الثانية هي حكم قبيلة اليعاربة (1624-1749)

دشنت قبيلة اليعاربة عهدها بتوحيد القبائل العمانية تحت راية حاكم جديد شاب هو ناصر بن مرشد اليعربي ومن أجل طرد الغزاة البرتغاليين من عمان، ولقد لعب رجال الدين الإباضية الذين كانوا على خصومة مع قبيلة النباهنة، لعبوا دوراً بارزاً في توحيد القبائل وإعلان ناصر بن مرشد اليعربي حاكماً. وعلى خلاف من سبقه من زعماء قبيلة بني نبهان، بادر الزعيم اليعربي الجديد إلى إرساء نظام حكم يقوم على الشراكة مع القبائل الأخرى، كما إلى إقامة مؤسسة قضاء قادرة على إحلال العدل، وبناء جيش وطني قادر على محاربة المستعمر البرتغالي، وبنهاية العام 1652 تمكنت قبيلة اليعاربة من تحرير عُمان من الاحتلال البرتغالي لتبدأ بعدها في بناء أسطول بحري سيكون الفاتحة لقيام الإمبراطورية العمانية التي ستشمل مناطق في فارس وتتمدد إلى شرق أفريقيا وتؤسس لحكم عماني في زنجبار سيستمر حتى العام 1965.

المحطة الثالثة حكم قبيلة البوسعيد

بدأ حكم هذه القبيلة بمبايعة المؤسس أحمد بن سعيد حاكماً لعمان عام 1744م وحكمها مستمر إلى الآن في ظل عهد السطان قابوس بن سعيد. ورثت قبيلة البوسعيد الكثير من منجزات قبيلة اليعاربة، أهمها وجود دولة لها حضورها البارز على المسرح الدولي، ذات نفوذ سياسي وقوة عسكرية بحرية ضاربة، ونظام حكم واضح الملامح، لكنها أيضاً ورثت قدراً من التضعضع والنزاع الداخليين، إذ أطلت الحروب القبلية برأسها مع نهاية حكم قبيلة اليعاربة، كما مع عودة الفرس إلى احتلال أجزاء من عمان، خصوصاً المناطق الساحلية، فكان على زعيم قبيلة البوسعيد العمل على توحيد القبائل من أجل بسيط سيطرته وتمكين حكم قبيلته في كافة ربوع البلاد، وتحرير عُمان من الحكم الفارسي.

ولقد نجح أحمد بن سعيد في لم شمل القبائل المتنازعة وتوحيدها وتحرير البلاد وتدشين مرحلة جديدة لدور سياسي جديد للقبيلة في عُمان. وكان لقبيلة البوسعيد دور مهم في ترسيخ مكانة مدينة “مسقط” عاصمة موحدة للبلاد، بعد أن كان لعمان، على الدوام أكثر من عاصمة. لكن المأثرة السياسية الكبرى لهذه القبيلة كانت في الحفاظ على تماسك الإمبراطورية العمانية بشقيها العربي والأفريقي ونجاح حكام هذه القبيلة، وتحديداً منذ تسلم سعيد بن سلطان الحكم عام 1807، في أن تكون زنجبار العاصمة الأفريقية للسلطنة أسوة بمسقط كعاصمة عربية، وإرساء نظام اقتصادي أزدهرت بواسطتة البلاد.

غير أن المكانة السياسية لقبيلة البوسعيد الحاكمة تراجعت كثيراً بعد وفاة سعيد بن سلطان وتنازع أبنيه ثويني وماجد على حكم أبيهما، وهو النزاع الذي مهد لتفكك الإمبراطورية العمانية عندما قرر ماجد بن سعيد بن سلطان الانفراد وحده بحكم زنجبار فيما انفرد أخوه ثويني بحكم مسقط، ثم توالت الإخفاقات والتراجعات خصوصاً مع وقوع عُمان تحت الهيمنة المباشرة لبريطانيا العظمي، حتى قيام قابوس بن سعيد بعزل أبيه سعيد بن تيمور وتسلم حكم عمان عام 1970، ليبدأ طور جديد من أطوار حكم قبيلة البوسعيد لكنه طور تميز بالذكاء في التعامل مع مؤسسة القبيلة بصورة عامة.

وأهم ملامح هذا الذكاء هو تحجيم قبيلة الحكم، والحد من نفوذ أفرادها في شؤون الدولة والمجتمع، وأيضاً في تمكنها من بناء طيف واسع من التحالفات مع القبائل العمانية الأخرى، وإضافة إلى مأثرة الوحدة الوطنية التي نجحت قبيلة البوسعيد في تحقيقها والحفاظ عليها، رغم ما شاب هذه الوحدة الوطنية من مراحل ضعف، خصوصاً في النصف الأول من القرن العشرين وما عرف بحرب القبائل عام 1913.

ثم حدثت انعطافة بارزة في علاقة الدولة بالقبيلة عام 1996 عندما صدر، ولأول مرة في تاريخ عُمان، درستور مكتوب، أُسميّ “النظام الأساسي للدولة،” ولينتقل الثقل في ميزان العلاقة لصالح الدولة، وليبدأ تراجع الدور السياسي للقبيلة في هذا البلد. وفي العام 2011 وعقب الاحتجاجات الشعبية ضمن ما يصفه كتاب وناشطون عمانيون بالربيع العماني، قامت الدولة العمانية بخطوة أكبر لتعميق دورها وتهميش دور القبيلة في الحياة السياسية، وذلك بإجراء تعديلات تشريعية مُنح بموجبها مجلس عُمان ( مكون من مجلس الشورى المُنتخب ومجلس الدولة المُعين) بعض الصلاحيات الرقابية، في خطوة للحد من هيمنة قبيلة الحكم والقبائل الأخرى الحليفة لها على الحياتين السياسية والاقتصادية.

غير أن دور القبيلة السياسي الذي هُمش وحُدَّ من حضوره وأثره خلال العشرين عاماً الماضية لصالح مؤسسات الدولة المدنية لا يُستبعد أن يستعيد مكانته مع أي تغيير سياسي محتمل في مؤسسة الحكم في عُمان، وهذا يتوقف، بطبيعة الحال، على السلطان القادم ومقاربته في تدشين مرحلته و تأكيد مكانته، لكنه أيضاً يتوقف على ما يمكن أن يتخذه السلطان الحالي قابوس بن سعيد، في حياته، من إصلاحات تشريعية هيكلية تمهد لقيام سلطنة دستورية لا يكون للقبيلة فيها سوى مكانة ثقافية رمزية وحضور فلكلوري.