وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

قبائل الدينكا: حياة الأساطير في السودان

تُعرف قبائل الدينكا بأنّها أكبر القبائل العرقية والمجموعات الإثنية الموجودة في المناطق الجنوبية من السودان وفي دولة جنوب السودان.

قبائل الدينكا
صورة تم التقاطها يوم 4 مارس 2018 لرجل سوداني من أبناء قبيلة الدينكا. وفي الصورة يقف الرجل بجانب أبقاره في الصباح الباكر في مخيم الماشية في بلدة مينغكامان بجنوب السودان. Stefanie GLINSKI / AFP

يوسف م. شرقاوي

تُعرف قبائل الدينكا بأنّها أكبر القبائل العرقية والمجموعات الإثنية الموجودة في المناطق الجنوبية من السودان وفي دولة جنوب السودان. وتشكّل هذه القبيلة في مجموعها ما يقارب نصف سكان المنطقة الجنوبية من السودان.

وترجع أصول هذه القبيلة إلى الشعوب النيلية، التي جاءت منذ زمن بعيد من سفوح الهضبة الإثيوبية واستقرت في الجنوب السوداني.

وتتركز مناطق إقامة قبائل الدينكا بالقرب من المستنقعات الموسمية التي عادةً ما تفيض مياهها في جنوب السودان، وهو ما يجعل الحياة فيها تحدياً كبيراً. وإلى جانب تحديات الطبيعة، فإنّ للعوامل البشرية دوراً فاعل في رحيل الكثير من أبناء الدينكا عن مناطق تواجدهم في جنوب السودان. ويأتي على رأس تلك العوامل الحرب الأهلية السودانية التي دفعت بالكثير من أبناء الدينكا للنزوح إلى العاصمة السودانية الخرطوم وحتى وإلى خارج السودان.

ووفقاً للمؤرخ أحمد عبد الله آدم، مؤلف كتاب “قبائل السودان: نموذج التمازج والتعايش”، فإنّ القبائل النيلية تنقسم إلى فرعين هما: النيليون والنيليون الحاميون. وتعتبر قبائل الدينكا من الفئة الأولى. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الدينكا كانت أكبر القبائل الموجودة في السودان قبل الانفصال. وبحسب إحصاء عامي 2003 و2006، فقد وصل عدد أبناء الدينكا إلى حوالي ثلاثة ملايين نسمة. ويرجح البعض أن تكون الدينكا ثاني أكبر قبيلة في أفريقيا، بعد قبيلة الماساي في كينيا.

ويقسم آدم الدينكا إلى قسمين كبيرين: دينكا ليط ودينكا اكوي. وينسب القسم الأول نسبة إلى أحد أجداد الدينكا واسمه ليط. أما القسم الثاني، فيُنسب إلى جد الدينكا اوك اوي. ويرمز اسم هذا الجد إلى الصقر القوي الأبيض سريع الانقضاض، ودقيق التصويب. ويتفرّع عن هذا القسم ثلاثة سلالات وهي دينكا ريك، ودينكا قوقريال ودينكا ملوال. وتعتبر المجموعة الأخيرة الأكبر وتقيم في مقاطعة أويل بدولة جنوب السودان.

التسمية

تنقسم كلمة دينكا عند أهل السودان القديم إلى جزءين هما “دين” وتعني الأصل و”كا” وتعني البيت. وبذلك يصير المعنى الكامل للدينكا هو “أصل البيت”.

وبحسب كتاب “قبيلة الدينكا في جنوب السودان”، فإنّ الدينكا شعبٌ رعوي – زراعي. ويعتمد أبناء الدينكا في حياتهم على رعي الماشية في معسكرات محاذية للأنهار في موسم الجفاف. كما أنهم يزرعون الذرة الرفيعة وأنواعاً أخرى من الحبوب في مستوطنات ثابتة أثناء الموسم المطير.

اللغة

يصنّف عالم اللغويات جوزيف غرينبرغ لغة الدينكا ضمن المجموعة الثانية من اللغات الإفريقية، أي المجموعة النيلية الصحراوية. وتُسمّى لغة الدينكا بـ”الدينكاوية” وهي تعتمد في كتابتها على الحروف اللاتينية، مع زيادة بعض الإضافات المحلية.

وتُقال “جي باك” chi back عند اللقاء، بمثابة كيف حالكم. ويُرَد عليها بكلمة “أفادو” avado التي تعني بخير أو بأحسن حال.

دينغ ديت

يقول الصحفي السوداني جمال البدوي إن معتقدات الدينكا مبنية على أساطير وطقوس متفردة. ويمكن القول إنّ لهم دينهم الخاص الذي يقدم سردية مميزة لأسطورة الخلق وطقوس الموت.

وبحسب الباحثين، فإن الدينكا يعتقدون بوجود إلهٍ واحد يُدعى “نيال” أو “نياليك”. وتتمثل روح هذا الإله في أفراد القبيلة. كما يعتقد أبناء الدينكا أنّ جدهم الأكبر دينغ ديت يتمتع بسماتٍ وخصائص أقرب للأنبياء. ووفقاً لبدوي، فإن الدينكا يشبهون طريقة قدوم جدهم وولادته بميلاد السيد المسيح.

وتتناول الأسطورة ظهور جد الدينكا المقدس دينغ ديت. ويعني اسم دينغ ديت في اللغة الدينكاوية “الأب الكبير”.

وتقول الأسطورة: “منذ زمنٍ بعيد وفي يوم ماطر كثيف الغمام، نزلت فتاة ممشوقة القوام، فارعة الطول وسيمة الملامح، اسمها ألوت. ويعني هذا الاسم بنت الغمام أو المطر. وكانت ألوت حبلى بارزة البطن، وضعت فور نزولها، وأثناء هطول المطر مولوداً جميلاً مكتمل الأسنان، أبهر الجميع، فتجمع الدينكا من كلّ مكان، ليستمعوا إلى نصائح ألوت والطفل الذي جاء معها من السماء. ووعدتهم بأنه سوف يحدثهم عن نفسه بنفسه، لكن بعد أن يذبحوا ثيراناً بيضاء ويعدوا الولائم والاحتفالات”.

وبحسب الأسطورة، فإنّ ألوت تخبر الدينكا باسم الطفل وهو دينغ ديت. وتقول ألوت إن دينغ ديت سيتكفل بحفظ الدينكا ويكون الصلة الرابطة بينها وبينهم. وبعد ذلك، تختفي ألوت. وفي لحظة تشتد فيها غزارة الأمطار والبرق والرعد، تعود ألوت إلى السماء وتترك للدينكا طفلها الذي بات ينظر إليه كجدٍ لهم، سيّما وأنه كان يرشد الناس إلى مكارم الأخلاق والقيم الاجتماعية والروحية.

كما أنه كان يحثهم على عدم السرقة وعلى الكرم والاحترام الشديد للنساء، لا سيّما كبيرات السن. إلى جانب ذلك، فقد دعا دينغ ديت الدينكا إلى البعد عن الزنا وزوجات الآخرين. كما حثّهم على عدم الغدر والاهتمام بالغرباء وإيوائهم واتخاذ الأبقار مهراً للزواج.

وهنا، لا بد من الإشارة إلى وجود أسطورةٍ أخرى تنسب أصل الدينكا إلى جدٍّ آخر غير دينغ ديت. وبحسب تلك الأسطورة، فإن أصول الدينكا البعيدة تعود إلى الجد قرنق.

طقوس الموت: الكجور

قبائل الدينكا
صورة تم التقاطها يوم 3 مارس 2018 لفتاة سودانية دينكاوية وهي ترعى المواشي في بلدة مينغكامان بجنوب السودان. المصدر: Stefanie GLINSKI / AFP.

تهتم قبيلة الدينكا بتخليد الميت منها عبر تخليد اسمه. ويعتقد أبناء الدينكا بتقمّص الأرواح. وبحسب المعتقدات الدينكاوية، يؤمن أبناء الدينكا بوجود “الكجور”، وهي “روحٌ تسكن في شخص مختار ليكون الوسيط بين عالمنا والعالم الآخر”. وتحلّ الكجور بحيوان أو شجرة أو المطر أو النار أو غير ذلك. وبذلك، يصبح الحيوان أو المظهر الطبيعي، أحد أفراد العائلة لكنّه ملعون.

وفي هذا السياق، يقول الباحث في التراث الجنوبي دينق قوج: “أنا مثلاً من قبيلة الدينكا. وأسرتي تعتقد بحلول الكجور في الأسد. وتنظر إليه كفرد من العائلة؛ ولدنا معاً ونحمل نفس الدماء. لذا، لا نصطاد الأسد أو نقتله حتى إذا هجم على مواشي الأسرة”. ويضيف: “بمثل هذا الهجوم، فإنّه يأخذ نصيبه من مال الأسرة. أما إذا قتل الأسد أحد أفرادها، فالتفسير أنّه لم تقدّم القرابين الكافية عند زواج أحد الأبناء لمنع الضرر”.

وإلى جانب ذلك، فإنّ للدينكا طقوساً معقدةً وكثيرة تخصّ الموت، لاعتقادهم بوجود حياة أبدية بعده، “ما يجعلهم حريصين على طقوس محددة عند الوفاة تختلف بين العامة والسلاطين حتى ينالوا طمأنينة أنّ تلك الأرواح تسكن في سلام. وهو ما يمكّن عائلة تلك الأرواح وأبناءها وأحفادها من العيش بسلام. أما التقصير فقد يجرّ المصائب على العائلة”.

أسطورة الرب والحياة

آخر الأساطير الكبيرة التي ترتكز عقيدة الدينكا عليها تتناول أسطورة الرب والحياة. ووفق ما ورد في كتاب “قبيلة الدينكا في جنوب السودان”، فإنّ الصلة بين الأرض والسماء كانت في البدء قريبة ومتصلة، فالله لم يكن بعيداً عن الإنسان كبعده اليوم.

ولم تكن الشيخوخة آفة تخيف البشرية، ذلك أنّ الذي يبلغها كان يسافر من الأرض إلى السماء ولا يعود إلا إذا أعاد الله إليه شبابه، ويعود مع ظهور الهلال. كما أنّ الرحلة كانت تتم عبر حبل ممدود بين السماء والأرض.

وبحسب الأسطورة الدينكاوية، لم تكن هناك شيخوخة، ولم يكن هناك موت حتى أتت أنثى طائر تدعى اتوش لتضع حداً لديمومة الحياة عند الدينكا.

ففي ذلك الوقت، قامت امرأة بقتل إحدى صغار اتوش، وهي تبعدهم سلمياً عن حبات الذرة التي تطحنها. وأثار ذلك غضب اتوش ودفعها للانتقام من الإنسان بقطع الحبل، ليفقد بذلك متعة الحياة. ومنذ ذلك الحين، أصبح الموت يحاصر البشرية بحسب المعتقدات الدينكاوية.

قناة جونقلي

طُرح مشروع قناة جونقلي منذ الاحتلال الإنكليزي للسودان ومصر في القرن التاسع عشر. ويهدف هذا المشروع إلى تغيير مجرى النيل الأبيض، وبما يكفل تجاوزه لمنطقة المستنقعات ويساعد في حل مشكلة فقدان مياهه. ويقوم هذا المشروع على النيل الأبيض، الرافد الثاني لنهر النيل.

ومنذ عقود، بدأ العمل على إنشاء القناة حتى تم تنفيذ نحو 70% منها. بيد أن الحرب الأهلية التي عاشها السودان بين عامي 1983 و2005، أدت إلى وقف الأعمال المخصصة لاستكمال بناء القناة. ويرى البعض أن تشييد القناة كان من الأسباب التي أفضت نشوب الحرب الأهلية وفيما بعد إلى استقلال الجنوب عام 2011.

وما تزال ردود الفعل على المشروع متباينة. فمن جهة، برزت بعض الأصوات المناصرة لإنشاء هذه القناة لأنها ستؤدي إلى استغلال مياه المستنقعات الزائدة والمياه المتبخرة، بما يعود بالفائدة على مصر والسودان.

في المقابل، فإن أبناء الجنوب، ومنهم الدينكا، اعتبروا المشروع خطراً على ما يمتلكونه من مراعٍ، سيّما وأنّ مياه القناة، عند اكتمال تشييدها، ستغمر وادي العالياب الذي يرعون فيه مواشيهم. وعلى هذا الأساس، فقد كان مشروع القناة هدفاً دائماً للانفصاليين على امتداد الحرب الأهلية الدائرة بين الشمال والجنوب.

وبالتماشي مع هذا الطرح، يمكننا أن نشير لحصول جون قرنق، وهو الزعيم التاريخي الأسبق للحركة الانفصالية في جنوب السودان، على درجة الدكتوراه بأطروحة دارت حول الآثار السلبية لمشروع القناة على السكان التقليديين في ولاية جونقلي. وللعلم، فإنّ قرنق من أبناء الدينكا.

لمحة عن الصراع السياسي

عبّرت بعض مكونات الجنوب السوداني عن تذمرها من سيطرة قبيلة الدينكا على جميع أمور المنطقة قبل الانفصال عن السودان وحتى بعد نشوء دولة جنوب السودان.

وتعتبر قبيلة النوير، ويتزعمها رياك مشار، أبرز القبائل التي تنازعت في مراحل مختلفة من تاريخ السودان مع الدينكا. ومع حصول دولة جنوب السودان على استقلالها في عام 2011، طفا على السطح النزاع المرير بين الجانبين.

وما يزال مشار، الذي سبق له تولي منصب نائب رئيس جنوب السودان، في حالة نزاعٍ سياسيٍ محموم مع رئيس جنوب السودان الحالي سلفاكير. وهذا الأخير، من باب العلم بالشيء، ممثل الدينكا في المشهد السياسي الحالي في دولة جنوب السودان.