على مدار سنوات عديدة، اكتسبت قناة الجزيرة القطرية دوراً بارزاً بين وسائل الإعلام العربية، إذ أتاحت منبراً للأصوات المعارضة، ما عرّضها للاستهداف من أنظمة المنطقة، كما برزت تساؤلات تشكك في استقلالها عن القيادة القطرية.
الارتقاء إلى المكانة البارزة
شهد عالم الإعلام العربي تغيراً جذرياً بعد إطلاق القناة الفضائية “الجزيرة” عام 1996، التي تتخذ من الدوحة مقراً لها (بعد عام من تولي الأمير حمد بن خليفة آل ثاني السلطة). وهي أول قناة إقليمية تقدم الأخبار الجادة والتقارير الميدانية مقترنة بالنقاشات السياسية والاجتماعية المثيرة للجدل. ولكن الأهم من ذلك أنها تضرب على وتر القومية العربية الأكثر شعبية بشكل لم تشهده المنطقة منذ البث الإذاعي لراديو “صوت العرب” لجمال عبد الناصر في الستينيات من القرن الماضي.
ولم تقتصر المحطة على السماح لمشاهديها بالتعبير عن أفكارهم عبر الاتصال الهاتفي المباشر فحسب، بل قدمت أيضاً منبراً للمعارضين السياسيين والدعاة الشعبيين من أمثال العلامة الإسلامي يوسف القرضاوي. وقد كسرت بعض المحظورات السياسية والاجتماعية، بينما في الوقت ذاته تماشت بحزم مع المشاعر الشعبية العربية حول القضايا البارزة كالسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط والمشاكل في فلسطين/إسرائيل.
كان لارتقاء قناة الجزيرة إلى هذه المكانة البارزة آثار عديدة، حيث انتشرت العديد من القنوات الأخرى في المنطقة منذ ذلك الحين، كتلفزيون المستقبل اللبناني السني وقناة العربية التي تديرها السعودية ومقرها دبي. حتى ولو قلّدت هذه المحطات عصرية قناة الجزيرة، لكنها لم تقدر – أو لم ترد – على الوصول إلى نفس مستوى الجدل، والتأثير الذي يحدثه ذلك، الذي تتمتع به قناة الجزيرة، والذي تثيره هذه المحطة المبتكرة.
في الوقت ذاته، أثارت قناة الجزيرة انتقادات شديدة من الغرب بسبب موقفها الإسلامي المتشدد المزعوم ولهجتها المعادية للغرب. فقد أبدى السياسيون في الولايات المتحدة الأمريكية بشكل خاص استياءهم من تغطية قناة الجزيرة للحروب التي قادتها الولايات المتحدة في أفغانستان والعراق. وبالتالي، لم يعد أحد يصدّق التصريحات الرسمية الأمريكية التي وصفت تفجيرات مكاتب الجزيرة في كل من كابول عام 2001 وبغداد عام 2002 بأنها كانت حوادث مؤسفة. وضمن المنطقة نفسها، شعرت أنظمة الحكم الاستبدادية بخطر بث الجزيرة للأصوات المعارضة، وقامت أكثر من مرة بإغلاق مكاتبها الخارجية أو تهديد مراسليها.
وعلى الرغم من أن قطر نفسها ليست ديمقراطية ونادراً ما تقدم قناة الجزيرة تقارير سلبية عن البلاد، إلا أنها تواجدت بقوة في تقاريرها عن المنطقة وخارجها، حيث عمدت إلى تغطية الموضوعات التي غالباً ما تتجاهلها وسائل الإعلام الأخرى.
لعبت قناة الجزيرة دوراً هاماً في الربيع العربي، وذلك بتغطية الثورات العربية، معطية زعماء الثورة منبراً، مع بث محتوى يقدمه مستخدمو الإنترنت وعكس واقع الشارع العربي في الظاهر.
وعلاوةً على ذلك، إلا أن صداها يتردد بين جيلٍ ولد في ظل حكم الديكتاتورية إلا أنه تربى في عصر الإنترنت. فعلى سبيل المثال، عندما خرج الشباب إلى الشوارع في تونس وليبيا ومصر وسوريا واليمن والبحرين لتحويل أحلام الديمقراطية والحرية إلى حقيقة واقعة، تقاطعت غريزة الدوحة بتحدي الوضع القائم من خلال سلاح القوة الناعمة المؤثر- الجزيرة – مع تطلعات هؤلاء الشباب.
وفي نفس الوقت، يبدو أن الربيع العربي وضع قناة الجزيرة على المحك، حيث كانت تتزايد الشكوك حول استقلالية شبكة الأنباء هذه عن السلطات القطرية.
التأثير الخارجي
يتحدث الناقدون عن وجود علاقة تحريرية بين قناة الجزيرة والقيادة القطرية منذ بداياتها. ويشيرون إلى حقيقة أن قناة الجزيرة، التي كانت لفترة طويلة من أكبر الناقدين للسيطرة السعودية في المنطقة، تخلت عن انتقادها للقيادة السعودية بعد التقارب بين البلدين. واليوم، بينما كانت القناة تغطي بشكل مكثف الثورات في ليبيا وسوريا – حيث قدمت قطر الدعم السياسي (والعسكري – في حالة ليبيا)، إلا ان الثورات في عمان والبحرين والسعودية – وجميعها دول حليفة في مجلس التعاون الخليجي – لقيت اهتماماً أقل إلى حد كبير.
إضافة إلى ذلك، كون قطر الدولة الخليجية الوحيدة التي لها علاقات على مستوى منخفض مع إسرائيل، فإن الجزيرة كانت أولى القنوات العربية التي تسمح للإسرائيليين بالتحدث دون الخضوع للرقابة، وهو أمر غير معتاد في العالم العربي ويشير أيضاً إلى تأثير حكومي.
ينتقد عدد متزايد من المشاهدين في العالم العربي وفي أماكن أخرى قناة الجزيرة على أنها موجهة بشكل كبير عن طريق برنامج سياسي قطري. كما تسبب هذا بتوترات داخل المؤسسة ذاتها. ففي آذار/مارس 2012، استقال علي هاشم، مراسل قناة الجزيرة في بيروت. وكشفت رسائل البريد الإلكتروني المسربة خيبة أمله حول تغطية قناة الجزيرة للأحداث في سوريا. وكانت شبكة الأنباء قد رفضت بث صور كان قد التقطها لمسلحين يشتبكون مع الجيش السوري في وادي خالد. وعلاوة على ذلك، تجاهلت القناة الاستفتاء في سوريا على الإصلاح الدستوري الذي شهد 57% من الإقبال و 90% من الأصوات لصالح التغيير.
وفي نفس الوقت، بالكاد كانت هناك تغطية للانتفاضة في البحرين. كما استقال رئيس مكتب الجزيرة في بيروت غسان بن جدو، احتجاجاً على عدم حياد القناة في أعقاب الثورات. كما استقال المدون السابق لقناة الجزيرة باللغة الإنكليزية Ted Rall بعد رفض مدونته أعمدته على نحو منتظم، مشيراً إلى أن تغييراً قد طرأ على سياسة القناة في الآونة الأخيرة.
هناك أمثلة أخرى عن التأثير الخارجي على الموقف التحريري لقناة الجزيرة. ففي عام 2011، نشر موقع ويكيليكس برقية من السفارة الأمريكية في قطر تشير إلى أن المدير العام لقناة الجزيرة، وضاح خنفر، اجتمع مع السفير الأمريكي في قطر. وبعد إبداء السفير تذمره حول المحتوى السلبي على موقع قناة الجزيرة حول الحرب في العراق، وعد خنفر بتخفيف اللهجة، وأزال المحتوى. وفي أيلول/سبتمبر 2011، قدّم خنفر استقالته فجأة.
وحل محله عضو من العائلة المالكة بخلفية مهنية في إدارة الغاز – وليس الصحافة. في حين لم يذكر خنفر أي سبب لقراره ذاك، قالت مصادر مطلعة إنه طلب منه المغادرة من قبل العائلة المالكة. اعتبر المحللون هذه الخطوة بأنها محاولة لتتماشى تغطية الشبكة الفضائية ذات التأثير بشكلٍ أكبر مع سياسة الحكومة.
فمن المعروف أنّ الحكومة القطرية تموّل تشغيل قناة الجزيرة، إلا أنها تصر أنها لم تتدخل أبداً بالسياسة التحريرية للشبكة.
جميع هذه الانتقادات موجهة تحديداً إلى قناة الجزيرة باللغة العربية. ولم تتعرض القناة النظيرة الناطقة باللغة الإنجليزية الجزيرة بالإنجليزية التي أنشئت عام 2006، للجدل، وفازت بعدد من الجوائز العالمية للصحافة، بما فيها جوائز لتغطيتها الانتفاضة البحرينية. كما تم تصنيفها قناة العام في “مسابقات الجمعية الملكية للقنوات التلفزيونية لعام 2012” في بريطانيا، وحصلت على نفس اللقب لثلاث سنوات متتالية في “مسابقات Freesat” البريطانية.
تحت المجهر
منذ تأسيسها، تعرّضت الجزيرة لانتقادات لاذعة من الغرب لزعمهم أنها تتبنى موقفاً إسلامياً متشدداً وخطاباً معادياً للغرب. وقد أعرب السياسيون الأمريكيون تحديداً عن انزعاجهم من تغطية الجزيرة للحربين التي قادتهما الولايات المتحدة في أفغانستان والعراق. ولذلك لم يصدّق أحد في المنطقة التصريحات الأمريكية الرسمية بأن تفجيرات مكاتب الجزيرة في كلّ من كابول (2001) وبغداد (2003) كانت “حوادث مؤسفة”.
أما في دول المنطقة نفسها، فقد شعرت الأنظمة الاستبدادية بالتهديد لما تبثه قناة الجزيرة من أصوات المعارضة، فأغلقت مكاتبها الخارجية مرة تلو الأخرى وأرهبت مراسليها.
وتعرّضت الجزيرة مجدداً لاستهداف أنظمة المنطقة خلال الحصار الذي فرضته بعض دول مجلس التعاون الخليجي على قطر بين عامي 2017 و2021. فقد طالبت دول الحصار بإغلاق قناة الجزيرة، متهمةً قطر باستغلالها في التحريض (إلى جانب وسائل إعلام أخرى). وكان أحد الأسباب التي أغضبت دول الحصار وأجبرتها على التدخل هو الدعم الذي قدّمته الدوحة لجماعة الإخوان المسلمين الذين كانوا من أكبر المستفيدين في أعقاب ثورات الربيع العربي.
كما تعرّضت الجزيرة لاستهداف إسرائيل بسبب تغطيتها الناقدة للاحتلال الإسرائيلي في فلسطين في نسختيها العربية والإنجليزية. ففي أغسطس 2017، أعلنت إسرائيل سحب أوراق اعتماد صحفيي الجزيرة وإغلاق مكتبها في القدس، متهمةً إياها باستخدام القناة للتحريض ضد “أمن إسرائيل”.
وأظهرت الأبحاث أن الجزيرة خسرت شعبيتها ومصداقيتها في العالم العربي في السنوات الأخيرة. وتعرّضت القناة لانتقادات لفشلها في تقديم تغطية موضوعية للاحتجاجات في العالم العربي، فقد انحازت لدعم الثورات وتجاهلت وجهة نظر الأنظمة على سبيل المثال. ونتيجةً لذلك، انخفضت نسبة المشاهدة، لا سيّما في البلدان التي شهدت احتجاجات شعبية.
وفي أيّ حال من الأحوال الدافع الرئيسي وراء إنشاء قناة الجزيرة كان الرغبة في جعل قطر محط أنظار العالم، ومنحها في النهاية المزيد من حرية الحركة في تعاملها مع الغرب – بما فيها إسرائيل – وإيران. ولتحقيق ذلك، كان على قطر أولاً وقبل كل شيء تحرير نفسها من سيطرة “الأخ الأكبر”، المملكة العربية السعودية وغيرها من دول مجلس التعاون الخليجي.
وقناة الجزيرة أداة ناجحة للغاية في هذا الصدد. فعن طريق السماح للشخصيات المعارضة السعودية والبحرينية، وغيرها، بإبداء وجهات نظرهم فيها، أصبحت المحطة (ودولة قطر على نحو غير مباشر) قوة سياسية لا يستهان بها. علاوة على ذلك، عززت قناة الجزيرة العصرية صورة قطر كدولة حديثة وواثقة ومتطلعة إلى المستقبل. ومن دون شك، فقد وسعت قناة الجزيرة حدود حرية التعبير في الشرق الأوسط.