وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

المصارعة في إيران: من التصوف إلى السياسة

Specials- Mohammadali Geraei
الإيراني محمدعلی گرایی (يمين) يواجه المصارع الهندي غوربريت سينغ (يسار) في منافسات ربع النهائي المصارعة اليونانية -الرومانية لوزن 77 كيلوغرام في دورة الألعاب الآسيوية 2018 التي أقيمت في جاكرتا في 22 أغسطس 2018. Photo AFP

تعتبر المصارعة واحدةً من أقدم الرياضات في العالم. “تعود أول آثارٍ حقيقية لتطور المصارعة إلى زمن السومريين، قبل 5 آلاف عامٍ مضت.” كما يُعتقد أنه “لا يوجد رياضة أقدم أو أكثر انتشاراً من المصارعة.” ومع مرور الوقت، تم تطوير أنماط مختلفة من المصارعة من قبل المصريين القدماء والرومان واليونان والفرس والحضارات الأخرى. وباعتبارها رياضةً قديمة، فإن الأنماط التقليدية للمصارعة متأصلة بعمق في تاريخ إيران وتراثها الثقافي. ومن الناحية التاريخية، تخطت المصارعة كونها مجرد رياضة. ففي حين أن العديد من الناس يمتلكون معرفةً كافية بهذه الرياضة، إلا أنهم لا يدركون جميعاً روابطها الدينية وأثرها الاجتماعي في إيران. فكلمة “كشتي” (أي المصارعة باللغة الفارسية) متجذرة في “الجشتي” في اللغة البهلوية الفارسية، التي كان يتم التحدثت بها في إيران ما قبل الإسلام، وهي تعني الحزام الذي كان الزرادشتيين يجبرون على ارتدائه مع بلغوهم سن 15 عاماً. ومن الناحية الثقافية، “کشتی گرفتن” (أي القيام بالمصارعة) ترتبط بشكلٍ وثيق بـ”كشتي بستن” (أي ارتداء الحزام).

قبل أن تصبح المصارعة رياضة عالمية ذات قواعد وأنظمة معروفة، كان المصارعون في إيران يرتدون نفس الحزام للمصارعة – على غرار الحزام الذي يرتديه الأكراد في منطقة الشرق الأوسط. كان الحزام في الزرادشتية مؤشراً وتذكاراً بالواجبات الدينية لشخصٍ ما، وكان من المفترض أن يتم فتحه وتثبيته في كل مرة يؤدي فيها شخص من أتباع الزرادشتية صلواته. كان يوجد على الحزام ثلاث عقد، وهي تذكير بالمفاهيم الثلاثة الرئيسية في الديانة الزرادشتية: الأعمال الصالحة، والكلمات الطيبة والأفكار الجيدة. كما كانت تمثل مصارعةً روحانية بين الخير والشر. أولئك الذين كانوا يرتدون الحزام في الألعاب الرياضية اعتبروا أبطالاً يحافظون على معايير أخلاقية عالية، وأظهروا الشجاعة والإنصاف وقاموا بأفعال جيدة مثل دعم الفقراء والوقوف في وجه الظلم.

يمكن رؤية تجسيد لهذه العلاقة بين المصارعة والروحانية في الزورخانة في إيران (“بيت القوة”)، وهو صالة رياضية مخصصة لممارسة ورزش باستانی، وهو نوع من المصارعة التقليدية تقترن بقراءة القصائد والأغاني الصوفية والروحانية، وتلاوات المرشد (المرشد الروحي) مع إيقاعاتٍ تقليدية. كان الفن المعماري للزورخانة في ذلك الوقت يشبه الأديرة الصوفية، وكان المكان الذي يجلس فيه المرشد يشبه منبر الوعظ. بشكلٍ عام، كانت تتضمن المصارعة التقليدية العديد من العناصر الدينية والشعائرية التي قاومت التغيير حتى يومنا هذا.

جذبت المصارعة مزيداً من الاهتمام خلال الإمبراطورية الصفوية (1501-1722) والإمبراطورية الزندية (1751-1779)، عندما تم توحيد إيران بعد قرون وأعلن الإسلام الشيعي كدينٍ للدولة. ركز الصفويون على هوية إيران الشيعية لإبعاد الإمبراطورية عن منافسهم، الإمبراطورية العثمانية، حيث استمر هذا الاتجاه طوال السلالات التي تلت ذلك. وأثناء إمبراطورية القاجار (1785-1906)، شجعت الشعبية المتزايدة للمصارعة الحكومة على تطويرها، لذلك، تم تكليف صاحب الدولة بهذه المهمة. أسس بدايةً دوري شهد مشاركة جميع المصارعين في كل مدينة كبرى وانتهى بمنافسة أخيرة بين أبطال كل مدينة في العاصمة طهران. في وقتٍ لاحق، أصبح هذا الدوري بطولةً سنوية. وخلال هذه الفترة أصبح العديد من الأبطال المعروفين شخصياتٍ عامة.

خلال عصر رضا شاه (1925-1941)، جذبت المصارعة المزيد من الاهتمام الرسمي باعتبارها أحد التقاليد الشعبية في إيران، وتم بناء زورخانات وصالات رياضية جديدة. تم افتتاح أول نادي للمصارعة في عام 1921 في طهران. في هذه الفترة أصبحت المصارعة رياضة عالمية وتم تعريف لوائحها الدولية. وعلى هذا النحو، انتقلت المصارعة الإيرانية إلى المستوى التالي من تبني الأساليب والملابس الجديدة في المصارعة لتعزيز تقاليد المصارعة المتجذرة بشكلٍ كبير في مجتمعها. حدث هذا التحول في نهاية الثلاثينيات. في عام 1938، بدأ مسعود بهلوان-نيشان تدريب المصارعين في المصارعة الحرة والمصارعة اليونانية -الرومانية في أصفهان. جرت أول منافسة وطنية في المصارعة الحرة في عام 1939 في نادي أمجدية الرياضي بطهران. ومع ذلك، تسببت الحرب العالمية الثانية في إيقاف الحياة الطبيعية، بما في ذلك المصارعة، عندما احتلت الجيوش الروسية والبريطانية إيران في خطة عسكرية مشتركة.

بعد الحرب، عادت شعبية المصارعة تنتشر مرةً أخرى. كان أول منتخب دولي يتنافس في إيران عام 1947 هو تركيا. وفي عام 1948، شارك فريق المصارعة الإيراني في أولمبياد لندن لأول مرة، في حين كانت مشاركة إيران الأولى في بطولة العالم في أول حدثٍ يُقام للمصارعة الحرة في عام 1951 في هلسنكي، فنلندا. وعلى الرغم من أن إيران فشلت في تحقيق انطباعٍ جديرٍ بالذكر في تلك المناسبة، إلا أنها واصلت عملها لترك بصمتها في العقود القادمة.

في مشاركتها الثانية في بطولة العالم في عام 1954 في اليابان، أحرز المنتخب الوطني الإيراني المركز الثالث، وحاز على ميداليتين ذهبيتين وميدالية فضية واحدة. فاز توفيق جهانبخش وعباس زاندي بالميداليات الذهبية. استمر الفريق الإيراني في صنع التاريخ، حيث احتل المركز الأول في خمس بطولات عالمية للمصارعة الحرة (1959 في يوكوهاما باليابان، 1965 في مانشستر بإنجلترا، وعامي 1998 و2002 في طهران بإيران، 2013 في بودابست -المجر). كما فازت إيران ببطولة العالم في المصارعة اليونانية -الرومانية في طشقند- أوزبكستان. خلال هذه الفترة، قدمت إيران بعض من أفضل المصارعين إلى العالم، حيث تم اختيار ثلاثة منهم ضمن قائمة أفضل 20 مصارعاً في كل العصور والتي أعلن عنها في عام 2000 من قبل الاتحاد العالمي للمصارعة: وهم عبد الله موحد، وغلام رضا تختي، ورسول خادم. إلا أن حميد سوريان، الذي فاز بست ذهبيات في بطولة العالم وذهبية أخرى في أولمبياد لندن 2012، يعتبر المصارع الإيراني الأكثر شهرة. في الواقع، أنتجت إيران العديد من أبطال المصارعة الجدد خلال العقدين الأول والثاني من القرن الحادي والعشرين، حتى أن هذه الفترة أطلق عليها اسم “النهضة” لهذه الرياضة.

وبغض النظر عن كونها ظاهرةً ثقافية، لطالما ارتبطت المصارعة الإيرانية بالسياسة والتطورات السياسية داخل وخارج البلاد. فخلال فترة حكم الشاه، استخدم بعض المصارعين صورتهم العامة كأبطال لنقل شكاوي الناس إلى الحكومة. فعلى سبيل المثال، كان تختي، الذي ضمن له مكانةً باعتباره المصارع الأكثر شعبية في تاريخ إيران، محل تقديرٍ كبير من قبل الجمهور لمعارضته للشاه والتحدث علانيةً ضده. فقد كانت وفاته عن عمرٍ يناهز 37 عاماً، والتي أفيد بأنها انتحار، بمثابة صدمةٍ للعديد من الإيرانيين الذين ألقوا باللوم على الشاه في “قتله.” فلم ينسى الإيرانيون أبداً صورة تختي عندما رفض الانحناء للسماح للشاه بوضع ميدالية حول عنقه. وبعد ثورة عام 1979، كانت المصارعة الإيرانية تعبق بحماس الجمهورية الإسلامية الأيديولوجي، إذ لم يسمح لأي مصارع بالمصارعة ضد إسرائيلي. في الواقع، ظلت المصارعة في إيران رمزاً للوقوف في وجه الشر، سواء كان ديكتاتورية الشاه أو قمع الشعب الإيراني أو الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية.

وفي فترة ما بعد 1979، لم تنشر أي تقارير عن مصارعٍ بارز يحيل المظالم السياسية للشعوب إلى السلطات. ويبدو أن السبب الرئيسي في ذلك هو مشاركة الحكومة الناجحة للرياضيين. فعادةً ما يلتقي المرشد الأعلى والرئيس والمسؤولون البارزون الآخرون ويستمعون إلى الرياضيين ويتحدثون معهم حول القضايا المهمة التي تواجه البلاد، مما يمنحهم الشعور بالمسؤولية. وقد عُقد هذا اللقاء الأخير بين القائد الأعلى والحائزون على الميداليات في دورة الألعاب الآسيوية لعام 2018 التي أقيمت في جاكرتا، إندونيسيا. ونتيجةً لذلك، يروّج العديد من الرياضيين لرؤية المؤسسة وسياساتها. ومع ذلك، فإن الاستياء من منع الرياضيين، بمن فيهم المصارعين، من مواجهة المنافسين الإسرائيليين أخذٌ في التزايد، فإلى جانب منح الرياضيين الإسرائيليين انتصاراتٍ سهلة، أدى ذلك إلى حظر العديد من الرياضيين الإيرانيين من المشاركات الدولية.

Advertisement
Fanack Water Palestine