جماعاتٌ صغيرة من الشباب من الجنسين يقتربون ويبتعدون عن بعضهم البعض بخوفٍ وحذر وحديثٍ مفتعل بقصد تشتيت الانتباه. يتوزعون في الشوارع الفرعية المؤدية للشوارع الرئيسية في العاصمة الخرطوم يوصلون رسالة حركتهم، التي تبدو لمن لا يعرفهم بلا هدف. في الواحدة ظهراً بالضبط تنطلق زغرودة قوية وطويلة من فتاة لا يعرفها أحد في ركنٍ ما، تتلوها زغاريد أخرى إيذاناً بانطلاق المظاهرة.
طوال 106 أيام من التظاهر المتواصل حافظت تظاهرات الخرطوم ضد حكم الرئيس البشير منذ ديسمبر 2018 على هذا الطقس الافتتاحي النسوي المميز دون انقطاع. ولم تكتفِ الفتيات السودانيات بإطلاق الزغاريد التي تستحث في الثقافة السودانية التقليدية قيم الرجولة والشهامة، بل كن قائداتٍ ورائداتٍ وتقدمن صفوف المتظاهرين والمحتجين بنسبة لم تشهدها كل ثورات الربيع العربي.
توقف كل المراسلين الغربيين الذي تدفقوا على الخرطوم اثناء الانتفاضة عند تلك الظاهرة الفريدة. حيث اوردت أوليفيا ماكادري من موقع ميديا بارت الفرنسي على سبيل المثال إن الصحافة الدولية أصابها الذهول من حجم مشاركة المرأة السودانية في الاحتجاجات التي أطاحت بالرئيس عمر البشير، ولكنها استدركت أن “هذا الأمر ليس غريباً ولا جديداً على المرأة في هذا البلد.”
وفي مقالٍ لماكادري، كتبت إن النساء يملأن الساحات التي يعتصم فيها آلاف السودانيين منذ السادس من أبريل الماضي أمام قيادة الجيش. ووفقاً للتقرير، يقمن بأعمال كثيرة هناك، ليس أقلها شأناً العمل في العيادة المقامة في الميدان على علاج المرضى والمصابين.
وبعد ثلاثين عاماً من الحكم الشمولي الأمني القابض، كانت الثورة السودانية ثورة النساء بلا منازع. فقد كسرت الثورة السودانية الصورة النمطية للمرأة في السودان التي تصور المرأة بأنها بلا صوت ولا تأثير ومسلوبة الإرادة وتجاوزت بالبيان والعمل مقولة شعبية ذكورية لئيمة في السودان “المرأة أذا بقت فأس ما بتكسر الرأس” في إشارة إلى أنها مهما بلغت من القوة فأنها بلا تأثير.
ظهرت المرأة السودانية في الثورة رمزاً في الحراك الشعبي المتواصل منذ أربعة أشهر قبل سقوط النظام الحاكم في 11 أبريل. كانت الملهمة للشباب بعد أن شاركت بجسارة غير مسبوقة في مواجهة الرصاص الحي وقنابل الغاز المسيل للدموع ودفعت ثمن ذلك عنفاً لفظياً وجسدياً واعتقالاتٍ وتحرش في سجون وحراسات القوات الأمنية لإثنائهن عن الخروج في مواكب الاحتجاجات.
ثورة الغاضبات
بالرغم من أن قمع وتسلط ديكتاتورية البشير قد مس كل السودانيين وكل تفاصيل حياتهم اليومية، إلا أن القمع الصريح والمستتر والرمزي ضد النساء كان السمة البارزة لسياسته بالأسلمته والتعريب. فقد أكد الرئيس البشير بنفسه مراً وتكراراً رفض السودان للتوقيع على اتفاقية سيداو لمكافحة كافة اشكال التمييز ضد المرأة باعتبارها مخالفة للإسلام. في هذه الأثناء، استحيا الاثرياء الاسلاميين الجدد من حلفاء النظام عادة تعدد الزوجات. وكان تعدد الزوجات قد اوشك على الانقراض في اوساط المتعلمين قبل صعود البشير واصبح مستهجناً حتى في اوساط حركة الاخوان المسلمين الاصلية وقياداته التاريخية.
طوال ثلاثة عقود، فرض النظام قيوداً على النساء والحد من حركتهن وحريتهن وفق قانون النظام العام السيء الصيت الذي يجلد ويسجن النساء بسبب لبس البنطالون أو التراخي في تغطية الشعر أو صنع وبيع المشروبات الروحية.
وكثيراً ما عمدت شرطة نظام البشير على تلفيق تهم ارتداء الزي الفاضح والخلوة غير الشرعية والزنا للناشطات النسويات والمعارضات لاعباً على وتر شرف البنات في المجتمع السوداني المحافظ.
ولّدت كل تك المشاهد المؤذية غضباً جامحاً لدى النساء، خاصة فتيات الطبقة الوسطى المتعلمات في المدن اللواتي تسلمن مقود الثورة منذ لحظاتها الاولى ودفع بفتيات كثيرات غاضبات لم يعرفن عنهن اهتمام بالسياسة لساحات التظاهر النظام.
وتقول الناشطة السودانية مرافي ساتي إن “المرأة السودانية من أكثر الشرائح تضرراً من نظام البشير، لذلك تقدمت صفوف الثورة، أملاً في التغيير. ليس فقط تغيير النظام الحاكم، بل تغيير نظرة مجتمع ذكوري ظل ينظر للمرأة لفترة طويلة وكأنها كائن من الدرجة الثانية.”
وأعربت مرافي عن ثقتها في أن التغيير القادم سيكون في صالح المرأة، وأضافت “لا نشعر بالخذلان مستقبلاً، لأن ثقتنا ليست في الثورة، وانما في أنفسنا أولاً، وفي نسبة الوعي الذي تتمتع به المرأة السودانية.”
فتاة القنابل المسيلة للدموع
اشتهرت عدد من الفتيات في الأوساط المحلية والعالمية وأصبحن رموزاً للثورة، منهن الناشطة المعروفة بـ “صائدة البمبان” (البمبان هو الاسم السوداني للقنابل المسلة للدموع) التي ظهرت في مقطع فيديو متداول بكثافة في وسائل التواصل الإجتماعي وهي تواجه القوات الأمنية برد قنابل”الغاز المسيل للدموع” التي تلتقطها غير عابئة بالمخاطر وترجعها لقوات شرطة مكافحة الشغب في مشهد ايقوني جسور.
في اليوم الثاني ألهمت ألاء النساء بفكرة تسيير موكب “الكنداكات” إلى ساحة الإعتصام ووصلت عشرات الآلف من النساء يرتدين “الثوب السوداني الأبيض” واكتست الشوارع باللون الأبيض في مشهد مهيب أشبه بحقل من زهور بيضاء في موسم الربيع. وتبع ذلك أيضاً موكب أخر لـ “النساء المعتقلات” بانطلاق مسيرة مركزية موحدة تجمع المشاركون فيها أمام سجن النساء في أم درمان يوم العاشر من فبراير للمطالبة بإطلاق سراح السجينات.
تعرية العنف
لعبت المرأة السودانية أيضاً دوراً بارزاً في فضح عناصر جهاز الأمن السابق والنظاميين الذين إلتقطتهم الكاميرات وهم يتعاملون بوحشية مع المحتجين السلميين.
فقد بدأ منبر شات كمجموعة نسوية مغلقة يصل عدد أعضائها أكثر من 346 ألف امرأة تهتم بقضايا الجمال والموضة والمشاكل الزوجية والقصص الغرامية وجمع وتبادل المعلومات عن الشباب خاصة لأولئك الذين يتلاعبون بالفتيات. لكن سرعان ما تحولت هذه المجموعة اثناء الثورة لجهاز معلومات أمن الثورة بترصدها لرجال الامن الذين يتم تصويرهن اثناء ممارسة العنف الفائض ضد المتظاهرين وتخصصن في كشف عناصر الأمن الذين ارتكبوا جرائم قتل وعنف مفرط ضد المتظاهرين السلميين وتحصلت العضوات على معلومات دقيقة حول هؤلاء الأشخاص، وصلت في بعض الأحيان إلى أماكن سكنهم وأرقام هواتفهم، مما سبب حالة من الذعر اوساط تلك العناصر الأمنية وشكلت رادعاً جزئياً عن العنف المفرط.
جهد فائق وحصاد قليل
ولكن رغم نجاح الثورة، إلا أن السودانيات ما زلنّ يشعرن بالظلم والتهميش وأنه تم تجاوزهن في التمثيل في التفاوض بين قوى الحرية والتغيير الممثلة لحراك الشارع والمجلس العسكري الذي إنقلب على الرئيس المخلوع البشير. وتطالب قيادات نسائية سودانية بحصول المرأة على نصف المقاعد في كل أجهزة السلطة الانتقالية.