الصراع الإسباني العثماني في البحر المتوسط
كان البحر المتوسط ساحة معارك في القرن السادس عشر الميلادي بين عائلة هابسبورغ المسيطرة على الإمبراطورية الرومانية المقدسة وإسبانيا والإمبراطورية الصاعدة في الأمريكتين، وبين العثمانيين الذين سيطروا على القسطنطينية عام 1453 م وتوسعوا جنوباً تجاه سوريا ومصر في بداية القرن السادس عشر. وتنافست القوتان على السلطة بالسيطرة على المواقع الساحلية.
ففي عام 1510، احتلت القوات الإسبانية طرابلس للاستحواذ على نفوذ استراتيجي كبير. لكنهم سوّوها بالأرض في العام التالي. وفي عام 1530، سلّم ملك إسبانيا الملك كارلوس الخامس المدينة ومعها مالطا إلى فرسان القديس يوحنا، ما مكّنهم من السيطرة على الطريق المائي بين شرق المتوسط وغربه. وفي خضم الحرب بين العثمانيين والإسبان وحلفائهم في جنوة ومالطا، هاجمت البحرية العثمانية سواحل البحر المتوسط الشمالية. ورغم فشلها في الاستيلاء على مالطا في الحصار الكبير عام 1565، فقد نجحت في طرد الإسبان من تونس، ثم استعاد القائد التركي تورغوت ريس (أو درغوث) طرابلس في عام 1551 وأعاد بناء تحصيناتها. كما بنى قلعة في أقصى شمال غرب المدينة وجامعاً خلّد اسمه.
طرابلس
كان تحصين طرابلس بالغ الأهمية للاستراتيجية العثمانية والحفاظ على المدينة، وذلك لأنه شق طريق ازدهارها. فقد كانت المدينة تولى وجهها شطر البحر لتأمين أغلب رزقها رغم أهمية طرق التجارة الصحراوية. وعلى ضفتي هذا البحر، أشعل الحرب قراصنة مسيحيون ومسلمون، يمكن اعتبارهم ضباط بحرية يسعون إلى الرزق.
كانت السلطة في شمال إفريقيا في الفترة العثمانية موزعة بين عدة مراكز، إذ اعتمد العثمانيون على الأنظمة المحلية المستقلة. فقد صارت طرابلس وتونس والجزائر عام 1587 ولايات مستقلة يحكم كل منها باشا. ورغم احتفاظ السلطان العثماني بالسلطة الدينية والسياسية الشاملة، كان القادة العسكريون المحليون هم من يمارسون السلطة على رأس قوات كانت فعلياً جيوش احتلال.
أما في طرابلس، أصغر الولايات الثلاث وأفقرها، فقد ترأس قائد الميليشيا (الداي) الحكومة تحت السلطة الاسمية للباشا العثماني. لكن الخلافات بين رجال الجيش كانت تفتك بديوانه. فمن جهة، كان الترك أو الكراغلة (أبناء تزاوج الأتراك والنساء المحليات) يتحكمون بالقوات البرية. ومن جهة أخرى، كان القادة البحريون (واسمهم الريّاس) من الترك والمسيحيين المعتنقين الإسلام، والذين اعتبرهم الأوروبيون مرتدين، يرون طرابلس ولاية فقيرة لا خير يُرجى منها.
في عام 1669، كتب الداي العثماني، الذي أقنع السلطان العثماني بتعيينه في منصب الباشا، إلى تشارلز الثاني ملك إنجلترا واسكتلندا متحدثاً عن مدينته “العقيمة التي تنتج القليل”. ونجد الأجانب كتوماس باكر القنصل الإنجليزي بين عامي 1679 و1685 يصفها “بالبقعة القاحلة المبهمة المزعجة في أرض البربر”. وقُدّر عدد سكان المدينة عام 1685 بأقل من 40 ألف نسمة. ومع ذلك، كانت الأراضي الخصبة حولها تنتج ما يكفي حاجة سكانها ويفيض للتصدير، كما بنى فيها الأثرياء منازلهم بين الحدائق. وكان الملح وفيراً في طرابلس، وهو سلعة تصديرية قيّمة. بالإضافة إلى إمدادات العبيد القادمة عبر الصحراء الكبرى. وعاش الترك والكراغلة فيها بعيداً عن الاقتصاد التجاري على انتزاع الأموال بالقوة، وفرض جبايات مقابل الحماية. وكذلك فعل ريّاس البحر، فداهموا السفن التجارية، وأخذوا المال مقابل الحماية من هجماتهم.
قراصنة المتوسط
القراصنة هم من سمحت لهم سلطات دول البحر المتوسط بمداهمة سفن الدول الأخرى لجني المال. هم قراصنة عاديون لكن الفرق أنهم يعرّفون “العدو” بمصطلحات دينية. فالقراصنة المالطيون هاجموا سفن المسلمين، وكذلك فعل قراصنة شمال إفريقيا المسلمين مع السفن المسيحية. وغنموا السفن وحمولتها وطواقمها فباعوها، أو طلبوا فدية لها. وقد ذكر القنصل توماس بيكر أن قراصنة طرابلس أسروا 71 سفينة بقيمة مليون دولار إسباني تقريباً، وقرابة 1100 رجل بقيمة 247 ألف دولار، وذلك بين عامي 1679 و1685.
تلك الغنائم تقاسمتها الدولة مع الريّاس وطواقمهم وأصحاب السفن. وكانوا يستهدفون سفن الدول الأوروبية الصغيرة كإيطاليا ومالطا واليونان. فالدول الأوربية الكبرى كفرنسا وهولندا وبريطانيا كانت لها أساطيل قوية ضربت الجزائر وتونس وطرابلس عدة مرات في القرن السابع عشر. وفي بعض الأحيان، كان التهديد كافياً لإجبار الحكام على عقد معاهدات سلام. لكن السلام كان يعني تقليل غنائم الريّاس، ولذلك كانوا يتمردون أحياناً. وقد وصف القنصل بيكر النظام السياسي بأنه كان مضطرباً، إذ كان الحكام يعارضون المعاهدات الدبلوماسية مع القوى الأوروبية التي تقلل غنائمهم من الغارات البحرية.
التجارة الصحراوية
كانت التجارة عبر الصحراء الكبرى مربحة. إذ جرى تصدير سلع الترف (كالنسيج، والعاج، وريش النعام، وجلد الماعز، والذهب، والأسلحة، والعبيد) واستيراد الأقمشة والأسلحة من أوروبا بناء على طلب حكام ممالك غرب إفريقيا وأثريائها. لكن حجم تلك التجارة مجهول لأن حكم العثمانيين وسجلاتهم لم يمتد إلى عمق البلاد. وقد أدار أولاد محمد دولتهم التجارية في إقليم فزان. وكانت أكبر سوق تجاري بين ساحل المتوسط ومصر في الشمال، وإفريقيا جنوب الصحراء (بلاد السودان) في الجنوب. وقد قاوم أولاد محمد السلطة العثمانية، وواجهوا الحملات التي أرسلتها سلطات طرابلس لفرض النظام عليهم.
الأسرة القرمانلية
في عام 1711، أنهى قائد كرغليّ يُدعى أحمد القرمانلي الاضطراب السياسي الذي عمّ البلاد. فسيطر على القوات، ونحّى الباشا الصوري المعين من السلطان العثماني، وفرض حكمه بالعنف. وبعدها بأحد عشر عاماً، عيّنه السلطان في منصب باشا طرابلس. ووطّد سلطته بتوسيع نشاط القرصنة الذي صوبه تجاه سفن الدول المتوسطية الصغيرة، حتى دفعت بعضها جزية سنوية لحمايتها من هجماته. أما القوى الكبرى كبريطانيا وفرنسا، فقد عقد معها معاهدات أمنية وتجارية.
وفي طرابلس، شقّ أحمد القرمانلي ترعة، وبنى أسواق وخانات للتجار ومسجداً جديداً مهيباً ألحق به مدرسة. كما جدد القلعة ووسعها، وأرسى دعائم دولة مستقرة وسلالة راسخة. ولما تُوفي عام 1745، انتقلت السلطة إلى خليفته محمد باشا (1745-1754)، ثم علي باشا (1754-1793)، ثم أحمد باشا الثاني (1795)، ثم يوسف باشا (1795-1832)، ثم علي باشا الثاني (1832-1835).
واقتصر حكم الأسرة القرمانلية على الساحل. أما التجارة الصحراوية، فعبرت فزان التي كانت تحت حكم أولاد محمد (انظر: دخول الإسلام). وتطورت الزراعة الساحلية رغم طابعها المتقلب، لا سيما بعد استيلاء البريطانيين على مالطا عام 1800. وبحلول عام 1810، زوّدت طرابلس القاعدة البحرية البريطانية فيها بأغلب احتياجاتها من اللحوم والحبوب. وازدهرت الطائفة اليهودية بازدهار طرابلس. ففي عام 1783 كان تعداد اليهود 3000 نسمة من بين 14 ألف نسمة. وكان المسيحيون أقل منهم عدداً، لكن مع بداية القرن التاسع عشر، تضاعف تعداد المسيحيين نتيجةً لهجرة المالطيين إلى ليبيا.
الأسرة القرمانلية. المصدر: C.R. Pennell
نهاية الأسرة القرمانلية
حاول يوسف باشا القرمانلي تعظيم غنائمه بزيادة الهجمات على السفن المسيحية، فأدى ذلك إلى صراع بينه وبين الولايات المتحدة الأمريكية المستقلة حديثاً. وعندما رفضت الحكومة الأمريكية دفع الجزية الباهظة التي فرضها يوسف باشا، اندلعت حرب أهلية قصيرة بينه وبين أخيه بتحريض من الولايات المتحدة.
وفي عام 1803، أعلنت الولايات المتحدة الحرب، وانتهت بانتصارها بعد حصار طرابلس وإنزال قواتها في برقة. وكانت هذه أول حروب الولايات المتحدة الخارجية وقد خلدها نشيد قوات المشاة البحرية الأمريكية:
من أروقة مونتيزوما
إلى شواطئ طرابلس،
نحارب في معارك بلادنا
جواً وبراً وبحراً
وفي عام 1832، تنازل يوسف باشا عن الحكم لابنه علي الثاني، وجاءت القوات العثمانية لاستعادة النظام. وكان على العثمانيين احتلال البلاد من جديد باستخدام تكتيكات الحرب الاستعمارية نفسها التي شنتها القوى الأوروبية. ولم يسمح السلطان العثماني لأي أسرة بتكرار ما فعلته الأسرة القرمانلية.