وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

ليبيا: الفتح الإسلامي – من القرن السابع إلى القرن السادس عشر ميلادياً

ليبيا الفتح الإسلامي
انتشار الإسلام في عهد الخلافة. المصدر: Fanack

المقدمة

كان غزو المسلمين شمال إفريقيا نتيجة ثانوية لغزواتهم في الشرق، إذ كانت مجتمعات فارس، وبلاد ما بين النهرين، وسوريا، ومصر أثرى وأكثر ازدهاراً. أما دول شمال إفريقيا التي باتت تُعرف “بالمغرب الكبير”، فلم تكن منطقة مسلمة إلا على مستوى السلطة. فهي لم تؤدِ أي دور يُذكر في أحداث المراكز الكبرى كالمدينة المنورة ودمشق وبغداد بحكم موقعها النائي.

ورغم اندماج المغرب الكبير في العالم الإسلامي، فقد اختط لنفسه مساراً سياسياً خاصاً.

دخول الإسلام

كان النبي محمد زعيماً دينياً وسياسياً. وعند وفاته، لم يكن له ولد يرثه ولم يختر خليفة له، فانقسم المسلمون حول خليفته. لم يكن الخلاف كبيراً حول أبي بكر (632-634) وعمر (634-644)، لكن مقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان (644-656) فتح باب الشقاق بين نخبة مكة القديمة وبين الموالين لآل بيت النبي وابنته فاطمة وزوجها عليّ بن أبي طالب الذي أصبح الخليفة الرابع (656-661). ويعتقد شيعة علي بوجوب أن يكون الخليفة من نسل النبي، بينما يعتقد السنة أنه يجب أن يكون من قريش. وقد بدأ فتح شمال إفريقيا في عهد الخلفاء الثلاثة الأوائل.

أما عند الشيعة، فقد استمرت سلسلة أئمتهم حتى اختفى الإمام الثاني عشر في القرن التاسع الميلادي. واعتقد أتباعه أنه اختبأ ليعود على رأس ثورة تعيد العدل والحق. كما يمزج الشيعة الإسماعيلية، أتباع الإمام السابع محمد بن إسماعيل، بين عقيدة الانتظار وخلافة نسل علي وفاطمة.

وظهرت جماعة ثالثة وهم الخوارج عارضت السنة والشيعة تقول إن الخليفة لا يُختار إلا لتقواه وورعه. ولجأ هؤلاء إلى المناطق النائية كالصحاري والأقاليم الإسلامية البعيدة.

تقدّم المسلمين: الأمويون وخلفاؤهم

احتلت القوات الإسلامية الإسكندرية عام 643 م، ثم دمّروا أسوار طرابلس وفتحوها هي وبرقة عامي 643-644 م. وفي عام 647 م، هزموا الجيش البيزنطي في سبيطلة في تونس. لكن بعد وفاة عمر بن الخطاب عام 644 م واستمرار الاقتتال بين المسلمين طوال 15 عاماً، أخفق المسلمون في إحكام سيطرتهم على هذه المناطق. فاستمرت هيمنة البيزنطيين على السواحل، وسيطرت قبائل الأمازيغ على الأراضي الداخلية.

لكن لما استحوذ معاوية بن أبي سفيان على الخلافة (661-680 م) وأسس حكم الأمويين، استكمل فتح أراضي شمال إفريقيا. فانطلق عقبة بن نافع جنوباً عام 662 م في حملة عسكرية إلى فزان مروراً بواحة أوجلة. وفي عام 674 م، اتجه شمالاً وأسس مدينة القيروان في تونس. وأصبحت عاصمة الإسلام في شمال إفريقيا، ثم صارت مركزاً كبيراً للعلم والتجارة. ومنها ضرب عقبة عمق البلاد عبر الهضبة الوسطى حتى وصل إلى المحيط الأطلسي عام 682 م.

لكن حكم الأمويين والعباسيين من بعدهم كان مقتصراً على المدن الساحلية. وفي عام 720 م، وصل دعاة الخوارج الإباضية المعتدلين إلى إقليم طرابلس واستقروا في جبل نفوسة، وأرسوا فيه دعائم إمامة محلية سيطرت على طرابلس عام 757 م، والقيروان عام 758 م، حتى هزمهم والي مصر العباسي عام 761 م في تاورغاء.

في بداية القرن التاسع الميلادي، حصل الولاة العباسيون الأغالبة في القيروان على استقلال جزئي. فدفعوا الإباضية إلى الأراضي الداخلية وقصروا وجودهم في مجتمعات منعزلة في مزاب في الجزائر، وجربة في تونس، وجبل نفوسة في ليبيا.

ليبيا الفتح الإسلامي
جامع الناقة في طرابلس. تُوجد روايتان لبناء هذا المسجد. الأولى تُرجِع بناءه إلى فتح طرابلس عام 642 م، والثانية تُرجِعه إلى الخليفة الفاطمي المعز لدين الله (حكم بين عامي 953 و975 م). ونجد في الروايتين أن الأموال التي بُني بها وُهبت لأهل المدينة على ظهر ناقة. ويظهر الأصل الروماني لبعض الأعمدة وتيجانها في صحن المسجد. وقد جُدد في عصر العثمانيين عام 1610 م. Photo Abdul-Jawad al-Husuni, Wikimedia Commons

الفاطميون

أسس الشيعة الإسماعيلية بحلول نهاية القرن التاسع الميلادي دولة قوية في شمال إفريقيا. فقد فر زعيمهم عبيد الله بن الحسين المهدي من سوريا لأنه من نسل الإمام السابع إسماعيل المختفي، وأثبت الخلافة لنفسه وأسس دولة الفاطميين، واتخذ من المهدية عاصمة له. وكانت الدولة الفاطمية هي الدولة الشيعية الوحيدة في التاريخ الإسلامي، وقد انصب اهتمامهم على غزو المشرق العربي. فسيطروا على مصر عام 972 م ونقلوا مقر الخلافة إلى القاهرة. وبعد ذلك استخلفوا الزيريين على حكم المغرب الأوسط حتى طرابلس. والزيريون سلالة من الأمازيغ في الجزائر الحالية. لكنهم نبذوا المذهب الشيعي وأعلنوا ولاءهم الصوري إلى الخلافة العباسية في بغداد. فقد استقلوا بحكم أراضي تونس الحالية وغرب ليبيا من عاصمتهم في القيروان، وتمتعوا بدولة مزدهرة وقوية لفترة من الزمن.

لكن طرابلس لم تكن عاصمة لأي دولة قط في خضمّ كل هذه التغيرات. ومع ذلك، أولى الأغالبة والفاطميون والزيريون اهتماماً كبيراً بالمدينة لأنها تحمي حدود أراضيهم الشرقية من الهجمات القادمة من مصر. كما أصبحت نقطة مهمة في طريق الحجاج إلى الجزيرة العربية، وجذبت العديد من العلماء. وشيّد فيها الفاطميون جامعاً عظيماً له مئذنة عالية أبهرت الرحالة التيجاني المعروف بعد ثلاثمائة عام من بنائها. وتبادل ميناؤها التجارة مع الأندلس المسلمة ودول شرق المتوسط. وأسس هذا كله لظهور الدولة المدينة في طرابلس.

بنو هلال وبنو سليم

ضربت شمال إفريقيا في منتصف القرن الحادي عشر أزمة اقتصادية واجتماعية. وانتقلت عائلتان من كبار القبائل العربية إلى شمال إفريقيا من الشرق هما بنو هلال وبنو سليم. يُقال إن الفاطميين أرسلوهم لإخضاع الزيريين، وقد دمّر قدومهم اقتصاد البلاد.

لكن المؤرخون فسّروا هجرتهم لاحقاً بأنها قد حدثت على فترة ممتدة في أعقاب زلزال هز شمال غرب الجزيرة العربية عام 873 م وأدى إلى هجرة القبائل منها. ويبدو أن بني هلال وبني سليم قد اندمجوا مع السكان الأمازيغ الأصليين على مدار عدة أجيال.

حكم الزيريين والحفصيين

تدهورت الزراعة واهتز الاستقرار مع ضعف حكم الزيريين. وبعد خسارتهم القيروان عام 1057، اقتصروا على عاصمة الفاطميين القديمة في المهدية على ساحل البحر. ثم غزا المسيحيون النورمانديون في صقلية بين عامي 1146 و1148 أكثر المدن الساحلية، ومنها طرابلس. وبعدها بفترة وجيزة، تحركت جيوش دولة الموحدين نحو الشرق من مراكش في المغرب، فاحتلوا عام 1152 م مدينة الجزائر وقسنطينة وبجاية، ثم احتلوا تونس عام 1159 واستعادوا طرابلس من النورمانديين. ولم يكن ذلك تحريراً، فقد اعتبر أول خلفاء الموحدين، عبد المؤمن بن علي، مناطق شرق المغرب الكبير ووسطه أراضي مفتوحة وفرض عليها ضرائب باهظة.

وبعد سقوط دولة الموحدين في أوائل القرن الثالث عشر، استقل والي تونس الموحدي أبو زكريا يحيى بحكمها وأسس سلالة الحفصيين. وقد ادّعى الخلافة لنفسه، لكن دولته لم تتجاوز حدود طرابلس شرقاً ولا وسط الجزائر غرباً. وما لبثت أن أدت الخلافات العائلية إلى انهيار دولة الحفصيين بنهاية القرن الثالث عشر. وعندما زار التيجاني المنطقة عام 1307، وصف مدينةً ظاهرها البهاء وباطنها الخراب.

“لما توجهنا إلى طرابلس وأشرفنا عليها كاد بياضها مع شعاع الشمس يعشي الأبصار، فعرفت صدق تسميتهم لها بالمدينة البيضاء. وخرج جميع أهلها مظهرين الاستبشار رافعين أصواتهم بالدعاء. ورأيت آثار الضخامة بادية على هذه القصبة غير أن الخراب قد تمكن منها وقد باع الولاة أكثرها. فما حولها من الدور التي تكتنفها الآن إنما استخرجت منها”.

وكذلك كان لها “مرسى حسن متسع تقرب المراكب فيه من البر، وتصطف هناك اصطفاف الجياد في أورايها”. وقال: “ورأيت بسورها من الاعتناء واحتفال البناء ما لم أره لمدينة سواها”.

وأعاد الحفصيون بناء دولتهم مرة أخرى في القرن الخامس عشر، واغتنت طرابلس بفضل التجارة وقرصنة سفن المسيحيين. ووصلت ذروتها في النصف الثاني من القرن الخامس عشر وازدهرت بفضل موجات الفرار من اضطهاد المسيحيين في إسبانيا، فقد أصبح المهاجرون أرباب الصناعة والتجارة والقرصنة.

الصحراء الكبرى وفزان

ليبيا الفتح الإسلامي
مقابر الجرمنت وأهراماتهم. فزان، جرمة، ليبيا. Eric Lafforgue / Hans Lucas via AFP

للتاريخ السياسي في فزان قصة أخرى. فقد دخلت المحيط العربي متأخرة، رغم ذكر المصادر التاريخية العربية المبكرة إغارة عقبة بن نافع على جرمة وزويلة عامي 666 أو 667 م. وقد هاجم العباسيون زويلة من القيروان عام 761 لمطاردة الإباضيين الذي لجؤوا إليها. وفي عام 918 م، أسس بنو خطاب مملكة لهم في زويلة. وقد أثرتها تجارة العبيد بين إفريقيا جنوب الصحراء والقاهرة وطرابلس. وقد بُني أول مسجد معروف في إقليم فزان في مدينة زويلة في الفترة بين القرنين السابع والتاسع. أما أول مسجد كبير في جرمة، فقد بُني ما بين منتصف القرن الحادي عشر ونهاية القرن الثاني عشر.

ثم حكم فزان في القرنين الثالث عشر والخامس عشر ملوك إمبراطورية كانم التي تقع في تشاد ونيجيريا اليوم. لكن الحروب بين مملكتي كانم وبرنو (في نيجيريا) سمحت في بداية القرن السادس عشر لقبيلة مغربية تُدعى أولاد محمد بالاستيلاء على فزان وتأسيس عاصمتهم في مرزق.

Advertisement
Fanack Water Palestine