تضافرت عوامل محلية وخارجية لدفع ليبيا إلى مرحلة جديدة من الإخفاق السياسي والمؤسساتي في إعادة بناء الدولة التي انهارت عام 2011. وحتى عام 2024، ما تزال حالة الفوضى وانعدام الأمن مستمرة من دون بارقة أمل على إمكانية تجاوز هذه المحنة. وقد تحمل المواطنون الليبيون العبء الأكبر من هذه الفوضى التي تجلت في حدثين رئيسيين ضربا البلاد.
كتبه: خالد محمود
حرره: إريك برينس
المقدمة
وسط تصاعد الانقسام السياسي والعسكري أدت الإطاحة بمحافظ المصرف المركزي الصديق الكبير في أغسطس 2024 إلى توقف مؤقت في إنتاج النفط الذي يُعد الشريان الأساسي لاقتصاد البلاد. ورغم تعيين محافظ جديد بعد ذلك بشهر، ما تزال حالة عدم اليقين قائمة بشأن الخلافات حول كيفية إدارة عائدات النفط عبر المصرف المركزي. تشكّل هذه الفوضى المستمرة وانعدام الأمن جزءًا من الاضطراب السياسي وغياب الدولة الموحدة. وفي أواخر عام 2023، واجهت البلاد كارثة طبيعية كشفت عن حجم هذا الانقسام.
وفي الوقت نفسه، تؤكد الشواهد على الأرض أن قتالاً قد يجرى في العاصمة طرابلس في أي لحظة بين الميليشيات المسلحة المتنازعة على النفوذ ومناطق السيطرة، مقابل المشير خليفة حفتر الذي يقود الجيش الوطني، الذي لا يخفي رغبته في السيطرة على المدينة لإنهاء هذه الفوضى.
فتحي باشاغا، رئيس الوزراء المنافس
لم يكن عام 2022 مختلفاً عن سنوات التيه والضياع التي شهدتها ليبيا بعد انهيار نظام العقيد الراحل معمر القذافي في انتفاضة شعبية دعمها حلف شمال الأطلسي (الناتو) عام 2011، وانتهت بمقتله وانهيار الدولة.
وفي العام نفسه، توطد نفوذ عبد الحميد الدبيبة رئيس حكومة الوحدة المؤقتة في طرابلس والمنطقة الغربية، بعدما صمد أمام محاولات مجلس النواب الليبي (مقره في طبرق شرق البلاد) الإطاحة به.
راهن المجلس على الاستعانة بخدمات العجلاتي، كما يسميه مواطنوه الليبيون، فتحي باشاغا وعيّنه رئيساً لحكومة الاستقرار الوطني المنافِسة في فبراير 2022. وكان باشاغا المسؤول السابق في مجلس مصراتة العسكري الذي صعد إلى المشهد السياسي خلال فترة العمل العسكري ضد القذافي.
قدم باشاغا نفسه كرجل مخضرم، فقد شغل في السابق منصب وزير الداخلية في حكومة الوفاق الوطني، التي ترأسها فائز السراج، وتحدى مساعي الأخير لإقالته من منصبه، وسعى إلى إقناع الرأي العام بجديته المزعومة، في إنهاء سطوة الميليشيات المسلحة في العاصمة، بعدما تعهد بنزع سلاحها وتفكيكها، ضمن مشروع خيالي لم يُكتب له النجاح قط.
في كل الأحوال، انتقل باشاغا، المعروفة عائلته بأصولها التركية وينحدر من مدينة مصراتة بالغرب الليبي كما هو حال الدبيبة، من القتال ضد قوات حفتر في حربها الفاشلة في ربيع عام 2019 لتحرير العاصمة طرابلس من هيمنة الميليشيات المسلحة، إلى التحالف معه.
ظن باشاغا أن ضمان دعم حفتر سيمنحه الفرصة للوصول إلى السلطة، هذه المرة ليس كمجرد وزير في الحكومة، بل رئيساً لها.
بعدما نصّبه مجلس النواب رئيساً لحكومة جديدة عقب نزع صلاحيات حكومة الدبيبة ونزع الثقة عنها بسبب مماطلته في إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المؤجلة عام 2021، بدأ باشاغا يخطط لدخول طرابلس باعتبارها عاصمة السلطة والحكم والمكان الذي يعنى لمن يسيطر عليه، وللمجتمع الدولي، أنه الرجل الأقوى والمسيطر. دخل متسللاً بالاعتماد على ولاء كتيبة النواصي وادّعى أن دخوله كان عبر سيارات مدنية بدون حراسات عبر بوابات تؤمّنها هذه الكتيبة بلا مشكلة.
شرع رئيس الوزراء باشاغا، الذي صار خصمًا لحكومة الدبيبة في طرابلس، في محاولة اختراق الميليشيات المسلحة التي يعتمد عليها الدبيبة لتثبيت حكومته وممارسة عملها، وأبرم اتفاقاً ظن أنه سيفتح له الطريق إلى المدينة.
أعلنت كتيبة النواصي (القوة الثامنة) دخول حكومة باشاغا إلى طرابلس، في خطوة سرعان ما جوبهت عسكريا على الفور، عبر اشتباكات عنيفة من القوات الموالية لحكومة الوحدة.
لم يفتّ انشقاق كتيبة النواصي في عضد الدبيبة الذي احتفظ بولاء بقية الفصائل المسلحة التي ساعدته على إحباط محاولة التسلل إلى طرابلس.
بعد نحو 17 ساعة فقط من دخوله طرابلس تحت حماية كتيبة النواصي، اضطُر باشاغا إلى مغادرة المدينة متسللاً كما دخلها برفقة بعض مساعديه وجيش صغير من المسلحين، معلناً أن هذه المغادرة تستهدف “حقن الدماء”.
سارع الدبيبة، في المقابل، لتأكيد حضوره عبر تفقد مناطق الاشتباكات، ووصف ما جرى بأن “مجموعة مسلحة خارجة عن القانون تسللت في جنح الظلام في محاولة لإثارة الرعب والفوضى”، لافتاً إلى “تعامل الأجهزة الأمنية بكل مهنية”.
ضحية طموح حفتر
بانتهاء المواجهة العسكرية، فقد باشاغا حظوته لدى حفتر ومجلس النواب، اللذان اكتشفا بالضرورة أن باشاغا لم يكن رجل المرحلة، وأن الاعتماد عليه لفعل ما عجز عنه، وهو دخول طرابلس والسيطرة عليها، درب من الخيال والوهم، تماماً كحرب حفتر عام 2019.
فشلت محاولة باشاغا باقتدار، ولاحقاً تخلى مجلس النواب عنه، وأحاله للتحقيق قبل أن ينتهي دوره السياسي، بشكل مفاجئ تماماً كما بدأ.
كان باشاغا العجلاتي، الذي يتباهى بتجارة إطارات السيارات وكونها علماً يحتاج إلى دراسة خاصة، أحد ضحايا طموح حفتر القاتل والمستمر، للدخول إلى طرابلس.
يدرك حفتر، ذي الشعر الشائب والبنية الجسدية الجيدة التي لا تتناسب مع دخوله الثمانين من عمره، أن بقاءه في مرتفعات الرجمة مقره خارج مدينة بنغازي، ليس كافياً ليدخل تاريخ بلاده ويحقق حلمه في أن يكون رئيسها المقبل.
في لعبته السياسية والعسكرية، لم يكن حفتر موفقاً في تقييم عبد الحميد الدبيبة رئيس حكومة الوحدة أو محمد المنفي رئيس المجلس الرئاسي، الذي أتى بهما اتفاق رعته بعثة الأمم المتحدة في جنيف في أكتوبر عام 2020.
القادمون من الخلف
كانت نهاية الحرب الفاشلة في عام 2020 بدايةً لمرحلة جديدة أدارت فيها البعثة الأممية المشهدين السياسي والعسكري واستعادت مؤقتاً زمام الأمور عبر ترويكا حاكمة مكونة من حكومة الدبيبة ومجلس المنفي.
مثّلت هذه الترويكا مفهوم رجال الصدفة الذين دفعت بهم الأقدار فجأةً إلى صدارة المشهد، أو القادمين من الخلف، كما هو حال لاعبي كرة القدم، المندفعين من خلف الخصوم لتسجيل هدف.
لم يكن المنفي أو الدبيبة معروفين قبل انتخابهما في جنيف من 75 عضواً اختارتهم البعثة الأممية ضمن ما عًرف بالحوار السياسي.
ورغم ما شاب جنيف من شبهات دفع رشاوى وفساد مالي، تجرّع حفتر وحليفه عقيلة صالح رئيس مجلس النواب، السم طواعيةً، وتعاملا مع الأمر الواقع الذي فرضته نتائج جنيف بوجود المنفي والدبيبة.
وهكذا وجد حفتر، وهو الرجل المخضرم عسكرياً وسياسياً، نفسه مضطراً إلى أداء التحية العسكرية للمدني محمد المنفي الذي لم يرتدِ في حياته الزي العسكري ولم يخدم في الجيش، باعتباره القائد الأعلى للجيش الليبي.
كانت نصيحة المصريين إلى حفتر وصالح ألا يحاولا الظهور بمظهر المعارضين للسلطة الجديدة.
التقى حفتر مرة واحدة مع قائده الأعلى المنفي، لكنها كما يقول مساعدو حفتر لم تكن تجربة جيدة، ولم تتكرر قط، بينما نأي الدبيبة بنفسه عن حفتر ورفض لقائه، رغم أنه توجه إلى مجلس النواب لأداء اليمين رئيساً للحكومة الجديدة منتصف مارس 2021 قبل أن ينتهي شهر العسل القصير بين الطرفين.
انتهى عام 2022، كما بدأ، بسيطرة الدبيبة على طرابلس رئيساً لحكومة الوحدة الوطنية المعترف بها دولياً في مواجهة حكومة الاستقرار الوطني الضعيفة التي ترأسها باشاغا، والتي مارست عملها فقط في إطار المناطق التي تخضع لسيطرة قوات حفتر في شرق وجنوب البلاد.
وخلال عام 2022، أُغلقت عديد من الحقول والموانئ النفطية بسبب النزاعات المحلية وضغط المجموعات المسلحة. وقد أثّر هذا الإغلاق تأثيراً كبيراً على صادرات النفط التي تُعد شريان الحياة للاقتصاد الليبي.
الليبيون يدفعون ثمن الصراع على السلطة
دخلت الأزمة الليبية، مرحلة جمود وفشل بحلول عام 2023.
وفي مايو، تم استبدال باشاغا بأسامة حمّاد، وهو موظف بيروقراطي لا طموحات سياسية لديه، لذلك اجتهد في تنفيذ توجيهات حفتر وصالح كما تشير كل بياناته وتصريحاته العلنية.
كان ثنائي النقيضين، حماد والدبيبة، نموذجاً للظاهرة الثنائية التي ضربت كل مؤسسات الدولة الليبية، بمعنى وجود طرفين يتنازعان طول الوقت على الشرعية بدون جدوى أو حسم.
ولم تكن كارثة الإعصار دانيال الذي اجتاح مدن المنطقة الشرقية مخلّفاً كارثة قومية هي الأسوأ في تاريخ البلاد، كافيةً لإقناع الفرقاء السياسيين بحسم خلافاتهم والجلوس إلى مائدة مفاوضات واحدة.
في التاسع من سبتمبر استيقظ سكان درنة على كارثة هزت سكون ليل المدينة، حيث جرف سيل وادي درنة الأحياء المتاخمة لضفتيه وألحق أضراراً كبيرة بالأحياء الواقعة وسط البلاد. وأشارت إلى اتفاق الرواة، باختلاف زوايا سرد الحادثة، على أن ما حدث كان أمراً تعجز الألسن عن وصفه، إذ سمع سكان المدينة دوي انفجار في ساعات متأخرة من الليل. وبعد ما يقارب 15 دقيقة، تبعه انفجار آخر. وما هي إلا دقائق حتى غمرت مياه سيل الوادي أحياء وسط المدينة متدفقةً بقوة وسرعة جارفةً في طريقها كل شيء.
وبينما قال مارتن غريفيث منسق الإغاثة الإنسانية التابع للأمم المتحدة إن “المناخ والقدرة اصطدما للتسبب في هذه المأساة الرهيبة والمروعة”، قال الأمين العام للمنظمة العالمية للأرصاد الجوية البروفيسور بيتيري تالاس: “إن المأساة في ليبيا تسلط الضوء على العواقب المدمرة والمتتالية للطقس المتطرف على الدول الهشة.
انعكس التناحر على السلطة بين حكومتي الوحدة والاستقرار الموازية وانعدام سلطة مركزية فاعلة في البلاد على هذه الكارثة، بداية ونهاية، ذلك أن الصراع السياسي أجبر الليبيين البسطاء على دفع ثمن باهظ لفاتورة الفشل السياسي لنخبتهم وقادتهم.
تسببت العاصفة في فيضانات كارثية، إذ أُبلغ عن مقتل 4333 شخصاً وفقدان نحو 8540 آخرين من بينهم نحو 930 عاملاً مهاجراً كان بعضهم يعيش في المناطق الأكثر تضرراً من الفيضانات في درنة، لذا فقد فاق العدد الحقيقي للقتلى ما هو معلن بشكل رسمي.
وعكس القيادات السياسية المنقسمة على نفسها والمتنافسة على السلطة، جاءت ردود فعل الليبيين على الكارثة مغايرة بعدما لبوا نداء الإغاثة في المناطق المنكوبة، وأذابت السيول الخلافات بينهم.
لم تكن هذه “الكارثة الوحيدة“، فبعد نحو عقد من الفوضى والصراع، تسبب الانقسام السياسي في البلاد في تدهور البنية التحتية وإنهاك مؤسسات الدولة.
الانقسام السياسي
ضاعف من حجم المأساة، وجود نحو 140 مؤسسة حكومية مقسمة بين الشرق والغرب، ورغم أن البلاد لم تواجه قط كارثة بهذا الحجم، فإن الانقسام السياسي عقّد جهود الاستجابة والإغاثة.
لفت ولفرام لاشر المتخصص في شؤون ليبيا في المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية، إلى أنه بينما كانت إدارة الشرق ضعيفة وتفتقر إلى الآليات الحكومية والقدرة على الاستجابة للكارثة، كانت حكومة المنطقة الغربية المدعومة من الأمم المتحدة في طرابلس بدون سلطة للعمل في الشرق بسبب الانقسامات السياسية.
ولم تفلح تلك الكارثة في توحيد المتنافسين على السلطة، حتى في ملف إعادة الإعمار. فبينما طالبت حكومة الاستقرار الوطني بعقد مؤتمر دولي لإعادة إعمار درنة والمناطق المتضررة من إعصار دانيال، طلبت حكومة الوحدة، التي اعتبرت أن الموارد المحلية تكفي، المساعدة رسمياً من البنك الدولي لإدارة أموال إعادة إعمار المناطق المتضررة.
وزاد المشهد قتامةً رفض المجلس الأعلى للدولة، وهو هيئة استشارية تتخذ طرابلس مقراً لها، اعتماد ميزانية لمواجهة آثار الإعصار بدعوى أنّها مسألة أمن قومي لا يجوز لأحد التفرد بها.
وذهبت سدىً مناشدات رئيس بعثة الأمم المتحدة آنذاك، السنغالي عبد الله باتيلي، بعدما تجاهل الجميع دعوته إلى إنهاء هذه الفوضى العبثية.
كان باتيلي واضحاً في الإعراب عن قلقه من وجود مبادرات متضاربة من مختلف الأطراف والمؤسسات الليبية بشأن إعادة إعمار درنة وغيرها من المناطق المتضررة من الفيضانات.
لكن أحداً لم يستمع إلى تحذيراته المتكررة من أن هذه الجهود الأحادية ستؤدي إلى نتائج عكسية وتعمّق الانقسامات القائمة في البلاد وتعرقل جهود إعادة الإعمار، فضلاً عن كونها تتعارض مع الموقف الشعبي.
ووسط تعقّد جهود إعادة الإعمار والتعويض، تجاهلت السلطات مطالب حقوقية محلية ودولية بإجراء تحقيق مستقل لمراجعة أوجه التقاعس في التعامل مع الكارثة في ظل غياب آلية تحقيق دولية فعالة.
وعلى سبيل المثال، لاحظت منظمة العفو الدولية أن السلطتين المتنافستين أساءتا إدارة الاستجابة، بما في ذلك التقاعس عن التحقيق في مسؤولية من هم في مواقع السلطة عن حماية حق الناس في الحياة والصحة وحقوق الإنسان الأخرى كجزء من التحقيقات الجنائية في الكارثة.
وأدرك باتيلي أن وقته قد اقترب على الانتهاء بعدما أخفقت مساعيه لإقناع الأطراف الرئيسية بالمشاركة في حوار سياسي جديد، فقدّم استقالة مفاجئة تاركاً البعثة الأممية في مهب الريح مجدداً.
اضطراب مستمر
وتُقدَّر الكلفة الإجمالية للصراع منذ اندلاعه في عام 2011 بأرقام فلكية بعدما طال جميع جوانب الحياة الاقتصادية في البلد والاقتصاد الكلي، ما انعكس في انخفاض كبير في النمو الذي اتسم بزيادة التقلبات.
يعتقد معين الكيخيا، رئيس المعهد الليبي الديمقراطي، أن هذه هي اللحظة التاريخية التي يمكن فيها وقف التدخل الأجنبي، وأنه حان الوقت الآن ليخفف الأجانب من فرض التوجيهات.
حتى التفاؤل بأن يساعد التقارب المصري التركي بعد نحو عقد من الأزمة الدبلوماسية بينهما في التعاون مع مختلف الأطراف في ليبيا لتجاوز الخلافات، قد تلاشى.
تتمثل العقبة الدائمة أمام إجراء الانتخابات في ليبيا في أن الجهات الفاعلة، التي تتمتع حالياً بالثروات والهيبة التي تدرّها مناصبها المؤقتة نظرياً، لا تملك أي حوافز تدفعها إلى التفاوض بشأن تنحيها أو تعريض أنفسها إلى خطر فقدان مناصبها بسبب نتائج التصويت.
وبينما يؤدى التفاوت بين الغرب والشرق إلى عدم الاستقرار داخل ليبيا، فإنه يجعل الصراع بين الدول أكثر احتمالاً في سياق التوازن الإقليمي في البحر الأبيض المتوسط.
أزمة المصرف المركزي
وصلت ليبيا إلى وضعها السياسي المتأزم حالياً بعدما خاض محافظ المصرف المركزي الصديق الكبير صراعاً مفاجئاً مع حكومة الوحدة بشأن الإنفاق الحكومي، ما دفع رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي إلى إصدار قرار بإقالة الكبير في أغسطس عام 2024، في خطوة مفاجئة رفضها البرلمان وحفتر في الشرق. فنادراً ما تدخل المنفي بشكل مباشر في الأزمة المحلية قبل تحركه المفاجئ لإقالة الكبير مما تسبب في توقف إنتاج النفط وأثر في أسعار الخام العالمية وعلى نحو ينذر بالتحول إلى أسوأ أزمة منذ سنوات.
وانصب تركيز الجهود الدبلوماسية الدولية على الحفاظ على استقلال المؤسسة الوطنية للنفط والمصرف المركزي وسلامتهما. لكن استمرارية ذلك أصبحت محل تساؤل متزايد بعد إقالة رئيس المؤسسة الوطنية للنفط في عام 2022 ومع الأزمة المتعلقة بالسيطرة على المصرف.
بعد وساطة من بعثة الأمم المتحدة، توصلت الحكومتان في الغرب والشرق إلى اتفاق على تعيين ناجي محمد عيسى بلقاسم محافظاً جديداً للمصرف المركزي. ورغم استئناف إنتاج النفط منذ ذلك الحين، ما تزال هناك العديد من التحديات القائمة في ما يتعلق بإدارة احتياطيات النفط في الدولة المنقسمة.
بالرغم من أن ليبيا تمتلك احتياطيات ضخمة من النفط، فإنّ الوضع الاقتصادي في البلاد ما يزال متدهوراً. فقد أدى إغلاق الحقول والموانئ النفطية نتيجة للصراعات الداخلية إلى تراجع كبير في إنتاج النفط وتقلص الإيرادات الحكومية، مما أثر سلباً على الاقتصاد الليبي.
حفتر وأبناءه
مع مرور الوقت، سمح حفتر لأولاده الذكور بالصعود السياسي والإعلامي وإحكام قبضتهم على شرق ليبيا، ما أثار تساؤلات حول ما إذا كان بالفعل يجهزهم للحكم استعداداً لمغادرة الحياة العسكرية.
وبدا أن حفتر بصدد تنصيب أبنائه الستة في مراكز سياسية وعسكرية استراتيجية، حتى بدت واضحة للعيان سيطرة العائلة على معظم الحياة الاجتماعية والاقتصادية في الشرق. ويتوزع الآن أبناء حفتر في مناصب عسكرية ومدنية: الصديق النجل الأكبر كاتم أسراره ومساعده الأول ومبعوثه الشخصي، واللواء صدام يتولى قيادة القوات البرية، والعميد خالد يتولى الوحدات الأمنية، بينما يترأس بلقاسم صندوق التنمية وإعادة الإعمار.
ولم يخفِ الصديق، النجل الأكبر لحفتر، طموحه السياسي عبر إعلان استعداده لخوض الانتخابات الرئاسية، رغم إدراكه أن الانتخابات لا يمكن أن تتم إلا مع توافر استقرار أمني وتشكيل حكومة جديدة.
وعزز الصديق (43 عاماً)، الذي لا يضطلع بمسؤوليات عسكرية، صورته العامة على وسائل التواصل الاجتماعي في غمرة حالة من عدم اليقين حول احتمالات اعتزام والده الترشح للرئاسة في المستقبل.
ويحمل صدام وبلقاسم نجلي حفتر الجنسية الأمريكية، إذ وُلدا في ولاية فيرجينيا حيث كان يقيم والدهما فترة لجوئه في عهد القذافي.
تعتقد ستيفاني ويليامز، المسؤولة السابقة عن البعثة الأممية، أن أبناء حفتر يتنافسون على خلافته، مشيرة إلى الرأي المتفق عليه، هو أن صدام الوريث العسكري لحفتر وسيتولى السيطرة على الجيش بعدما تمت ترقيته مؤخراً إلى رتبة الفريق.
وفي حين أن رحيل حفتر قد يسبب بعض الاضطرابات في شرق ليبيا، ترى ويليامز أن تمرير الشعلة إلى الجيل القادم يمكن أن يكون سلساً نسبياً.
يعتقد محمد البرغثي وزير الدفاع الليبي السابق بشكل عام أن معظم الدول الكبرى تطبق مبدأ الأقدمية والتراتبية في الخدمة العسكرية للجيش، محذراً من أنّ الخلافات قد تنشأ بين العسكريين غير الراضين نتيجة التمييز في معاملة أولاد المسؤولين بمنحهم رتبة عسكرية في الجيش دون التراتبية في الخدمة.
ولاحظ تقرير فريق الخبراء التابع للأمم المتحدة أن السيطرة الفعلية التي يمارسها صدام على الوحدات الرئيسية للقوات والموارد المالية والمؤسسات والهيئات السياسية قد وصلت إلى مستويات غير مسبوقة.
ومع أنه يُنظر إلى صدام، البالغ 32 عاماً، على أنه الخليفة المحتمل لوالده المسن، فإنه ثمة من يعتقد أن تلك الخلافة ليست مؤكدة.
وأعطت الفيضانات التي دمرت مدينة درنة مؤخراً، صدام، فرصة البروز على الساحة الداخلية بقيادته لعمليات الإغاثة وإدارة الكوارث.
ولاحظت وسائل إعلام إيطالية ما وصفته باستعراض للقوة من اولاد حفتر صدام وخالد، بينما طرحت اللقاءات المكثفة التي عقدها مسؤولو السفارة الأمريكية معهما تساؤلات عن أهداف الخطوة، ودلالة التقارب مع واشنطن وعلاقته بمواجهة النفوذ الروسي.
ورغم تعدد زيارات المسؤولين الأمريكيين، يُعتقد أنها تأتي في إطار خطط واشنطن للحفاظ على مصالحها خاصة في ظل التمدد الروسي، وليس لها أي ارتباط للبحث عن حلول للأزمة السياسية.