بداية الهيمنة الإيطالية
لم تكن الإمبراطورية العثمانية وحدها من فتحت طرابلس للاقتصاد الأوروبي، فقد شاركتها بريطانيا وإيطاليا كذلك. وكان ذلك جزءاً لا يتجزأ من خطة إمبريالية واستعمارية واسعة تنافست فيها القوى الأوروبية على تمديد نفوذها في شمال إفريقيا. وكانت بريطانيا وفرنسا وألمانيا في مقدمة ذلك التنافس، وتلتهم إيطاليا وإسبانيا.
تمحور التدخل الإيطالي في إفريقيا حول الصومال وإثيوبيا، لكن الأخيرة ألحقت بالقوات الإيطالية هزيمة نكراء في معركة عدوة عام 1896 وكانت أنكى هزيمة لقوة أوروبية في التاريخ الاستعماري. فاتجهت عيون ساسة إيطاليا القوميين الطامعين في هوية إمبريالية إلى ليبيا واعتبروها مستعمرة مناسبة. كان لإيطاليا فيها وجود بارز من خلال بنك روما وعدة مؤسسات تجارية ومدارس إيطالية. وكان التجار والسماسرة اليهود يتحدثون الإيطالية، وبعضهم كان يحمل الجنسية كذلك.
وفي الوقت نفسه، كان لإقليمي طرابلس وبرقة قيمة استراتيجية كبيرة، لأن بريطانيا وفرنسا قسمتا بقية أجزاء شمال إفريقيا واستبعدتا ألمانيا من القسمة.
فقد اتفقتا عام 1904 على إطلاق يد “الحماية المقنعة” البريطانية في مصر، في مقابل حرية تصرف فرنسا في المغرب، والاحتفاظ بمستعمراتها في الجزائر وتونس، كما اعترف الاتفاق “بالمصالح” الإسبانية في شمال المغرب وجنوبه.
وكانت الدول الأوروبية قد اتفقت عام 1902 على الاعتراف بهيمنة إيطاليا على ليبيا. وذلك في مقابل اعتراف الحكومة الإيطالية بالاتفاق الذي تم عام 1899 بين بريطانيا وفرنسا لتعيين الحدود الشمالية للتوسع الاستعماري الفرنسي، والتي ستصبح الحدود الجنوبية للمستعمرة الإيطالية في ليبيا.
وفي الواقع، لم تكن للأراضي الليبية فائدة تُذكر للاقتصاد الإيطالي. لكن ضمها كان له فائدة رمزية لأنصار الإمبريالية، إذ كانت ليبيا بمثابة “شاطئ رابع” لإيطاليا، وهذا يعني أن للبلد قوة سياسية وعسكرية حاضرة. كما كانت ليبيا منفذاً للفائض السكاني في إيطاليا، إذ أمكن توطين أعداد كبيرة من الإيطاليين فيها بدل الهجرة إلى الولايات المتحدة أو أمريكا الجنوبية. كما نُسجت أساطير إمبريالية حول إمكانات النهوض بالزراعة في ليبيا. لكن هذا كله كان محل شك معارضي الإمبريالية، فقد وصف نائب اشتراكي في البرلمان الإيطالي ليبيا بأنها “برميل من الرمال”.
الطريق إلى الاحتلال الإيطالي
وبدورها كانت السياسات العثمانية في ليبيا تتغير. فقد كانت حكومة السلطان عبد الحميد الثاني الاستبدادية تنفي معارضيها في ليبيا، وقد كانوا نافذة النخبة الليبية على الأفكار الراديكالية. في الوقت نفسه، ساد السخط على سياسات التتريك العثمانية وإهمال اللغة العربية. لكن ثورة تركيا الفتاة عام 1908 استعادت الحكم الدستوري، واستطاع الطرابلسيون دخول البرلمان في إسطنبول، وكان سليمان الباروني الإباضي واحداً منهم.
وفي عام 1911، اشتكت الحكومة الإيطالية عرقلة العثمانيين المشاريع الإيطالية في ليبيا. وأنذروهم إنذاراً نهائياً مع مهلة 24 ساعة للاعتراف باحتلال إيطاليا إقليمي برقة وطرابلس. ثم أعلنوا الحرب وغزو ليبيا في 29 سبتمبر 1911.
ولكن الحكومة العثمانية أعلنت المقاومة، ووصل ضباط قوميون من حركة تركيا الفتاة إلى ليبيا، فوجدوا تأييداً كبيراً من أهلها. ورغم أن الطرفين لم يحسما المواجهة، فقد افتقرت القيادة العثمانية إلى الدعم الدبلوماسي الخارجي، كما كانت تحارب في البلقان للحفاظ على إمبراطوريتها هناك. فوقّع الطرفان معاهدة سلام في أكتوبر 1912، ومنح العثمانيون إقليمي طرابلس وبرقة الحكم الذاتي وسحبوا قواتهم، فضمّتهم الحكومة الإيطالية.
المقاومة المسلحة
لكن انسحاب العثمانيين لم يوقف مقاومة الليبيين، فتعددت عمليات الأمازيغ الإباضيين المقاوِمة في جبال شمال غرب ليبيا وحول مصراتة، وكذلك كان الحال في فزان. واستطاعت قوات طرابلسية هزيمة الجيش الإيطالي في معركة القرضابية (أو قصر بو هادي) في أبريل عام 1915. وأدى ذلك إلى انسحاب الإيطاليين إلى الساحل.
وقد تفاخر الزعيم الليبي معمر القذافي في خطابه المتلفز إلى الشعب الليبي بعد اندلاع الثورة التي أطاحت به قائلاً “أنا جدي عبدالسلام أبو منيار أول شهيد سقط فوق الخمس في أول معركة عام 1911”.
وقدّم إقليم برقة أبسل صور المقاومة تحت قيادة رجال من قبائل مغمورة، فالسنوسيون كانوا يتعاونون مع الإيطاليين. وفي إطار الدبلوماسية السرية إبان الحرب العالمية الأولى في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، اتفقت بريطانيا وفرنسا وروسيا سراً على تقسيم الإمبراطورية العثمانية بينهم بمجرد انتهاء الحرب. فقسّموا سوريا الكبرى بين بريطانيا وفرنسا في اتفاقية سايكس بيكو عام 1916، ووعدوا الشريف حسين ملك الحجاز بمساعدته على تأسيس دولة عربية بعد الحرب. وقد استعملوا الوسائل نفسها في ليبيا.
وكان ذلك مشابهاً لما اتفقت عليه قوى الحلفاء حول ليبيا. ففي اتفاقية لندن السرية عام 1915، وعدت كلّ من بريطانيا وفرنسا وروسيا بتفضيل إيطاليا في مسألة ضم المستعمرات إذا انضمت إلى حلفهم. وفي عام 1917، أقنعت بريطانيا الزعيم السنوسي الجديد محمد إدريس بالتفاوض على تسوية سياسية مع الإيطاليين يصبح بموجبها أميراً على إقليم برقة، وله سلطة مستقلة على أراضيها الداخلية.
تلاعبت الحكومة الإيطالية بمبدأ الحكم الذاتي الممنوح للسنوسي. فقد اعترفوا به أميراً على إقليم برقة، لكن استقلاليته كانت محدودة. لكن في إقليم طرابلس، أعلن زعماء قومين الاستقلال (الجمهورية الطرابلسية) وبدت الحكومة الإيطالية مستعدة للتفاوض معهم في البداية. لكن ما لبثت أن أسقطت الخلافات الجمهورية الوليدة.
وسرعان ما انهارت كل تلك الترتيبات، ولم يسلم الحكم الذاتي من تبعات وصول النظام الفاشي الجديد إلى السلطة في إيطاليا أواخر عام 1922.