وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

ليبيا: العصور القديمة (15،000 قبل الميلاد – 430 ميلادي)

ليبيا العصور القديمة
منحوتات صخرية في وادي ماثندوس. GUIZIOU Franck / hemis.fr / Hemis via AFP

المقدمة

كانت ليبيا التي نعرفها الآن لآلاف السنين صحراء جرداء تمتد بين منكشفين صخريين يصل الماء إلى أراضيهما العالية هما إقليم برقة في الشرق وإقليم طرابلس في الغرب وبينهما نحو 1300 كيلومتر من رمال الصحراء التي تمتد إلى البحر. وبين إقليم برقة ووادي النيل نحو ألف كيلومتر أخرى. وفي الجنوب، كان إقليم فزان قاحلاً، فما كانت الحياة ممكنة إلا حول واحاته.

وتطلّ ليبيا على جنوب مضيق صقلية الذي يربط بين شرق البحر المتوسط وغربه، وهو أحد أهم الطرق البحرية في التاريخ. لم يصل إلينا من تاريخ هذا البلد الذي تحدّه الصحراء والبحر من كل صوب إلا تاريخ بقاعه المأهولة المتناثرة. فهي أرض عبرها الناس بالجمال، وأبحروا عنها بالسفن. لكن هذه البيئة القاسية احتوت بقايا أعرق الحضارات، كمدينة لبدة الكبرى الرومانية الضخمة في إقليم طرابلس، ومدينة بطولومايس (طلميثة) في إقليم برقة.

السكان الأوائل

لم تكن ليبيا قاحلة على الدوام، فقد كانت المياه تصل إلى صحرائها حتى عام 5000 قبل الميلاد تقريباً. وكان من هاجروا إليها في أواخر العصر الحجري الحديث بين عامي 15,000 و10,000 ق.م من البدو الرحّل الذين كانوا يمارسون الزراعة والصيد بين حين وآخر. وبانتهاء العصر الجليدي الأخير نحو عام 10,000 ق.م، ازداد المناخ دفئاً، فتأقلم الناس في البداية على صيد الأسماك ثم (بين عامي 6000 و3000 ق.م. تقريباً) على الاستقرار وزراعة الحبوب وتربية الحيوانات. ونجد مصدر معرفتنا بهذه الفترة في النقوش الصخرية في ليبيا في جبال أكاكوس بالقرب من مدينة غات، ووادي ماثندوس (في جرف مساك سطفت جنوب غرب مدينة سبها). وتدلّ تلك النقوش على وجود مياه في تلك الفترة، وكذلك على وجود زرافات وأفيال عاشت فيها.

ليبيا العصور القديمة
خريطة للصحراء الكبرى توضح موقعي زويلة وفزان على طرق الصحراء الكبرى الرئيسية.
Source: David Mattingly and Martin Sterry, ‘Zuwila and Fazzan in the Seventh to Tenth centuries: The emergence of a new trading center’, in: Glaire D. Anderson e.a. 2018′ The Aghlabids and their Neighbors’, Leiden, Brill, pp. 551-572

لكننا لا نعرف عنهم أكثر من ذلك، فنحن نجهل ماذا كانوا يسمّون أنفسهم مثلاً. فالإغريق كانوا يسمّونهم “الليبيين” نسبةً إلى شعب ليبو الواقع على حدود مصر. وأطلق عليهم الرومان بضع أسماء منها الأفارقة والنوميديين والموريين. ثم جاء العرب وأسموهم البربر. لكن تسمية البربر لم تعد تُستخدم كثيراً، إذ حلّت محلها تسمية “الأمازيغ” (جمعها “إيمازيغن” وتعني الأحرار أو النبلاء). وهذه التسمية التي تطلقها على أنفسهم مجموعة من الناس يتحدثون مجموعة من اللغات المتقاربة في شمال إفريقيا.

ويبدو أن ثمة راوبط ثقافية بين الأمازيغ الحاليين والسكان الأوائل. فقد تبنّى القوميون الأمازيغ أبجدية التيفيناغ التي استخدمها بعض القدماء. وترجع بعض أشكال خطوطها إلى بداية الألفية الأولى قبل الميلاد. أما الخطوط المتطورة، فنجد بعضها يعود إلى القرن الثالث قبل الميلادي.

الفينيقيون والإغريق

بدأت التجارة عبر البحر المتوسط تتطور في بدايات الألفية الأولى قبل الميلاد. فقد أرسى الإغريق مستعمرات للتجارة وصيد الأسماك في شرقه. فأسسوا في عام 640 ق.م مستعمرة لهم في قورينا (مدينة شحات اليوم). ثم أسست موجة ثانية منهم مدينة بطولومايس (طلميثة) نحو عام 320 ق.م. وما لبثت هذه الدويلات المستقلة أن تكاملت مع موجة أخرى من المستعمرات الفينيقية القادمة من الشرق.

والفينيقون تجار عالميون انطلقوا مما يُعرف اليوم بلبنان، وجابوا البحر المتوسط طولاً وعرضاً، موسعين تجارتهم في الذهب والفضة والعاج والمواد الخام. وكانت مستعمراتهم الأولى محطات للراحة وصيانة السفن، وقد شيّدوها على جانبي المتوسط حتى المحيط الأطلسي. وقد حمت تلك القواعد طرقهم البحرية من منافسيهم الإغريق. وفي ليبيا، ضمت هذه المستعمرات لبدة الكبرى، وأويا (طرابلس)، وصبراتة. ولأنهم تجار بحريون، لم يهتم الفينيقيون بالسيطرة على الأراضي الداخلية، ما عدا قرطاج (تونس اليوم) التي أسسوها بين عامي 810 و820 ق.م تقريباً. وكانت واحدة من أخصب المناطق في شمال إفريقيا، وأسسوا فيها اقتصاداً تجارياً وزراعياً هائلاً، ومنها نشروا الزراعة المستقرة في ظهرانيها.

وبحلول عام 400 ق.م تقريباً، كانت قرطاج قد سيطرت على ساحل شمال إفريقيا بين إقليم طرابلس والمحيط الأطلسي. وأدى التنافس مع الإغريق إلى نشوب عدة حروب. وبحلول نهاية القرن الرابع ق.م، هاجم الجيش اليوناني المنطقة المحيطة بقرطاج ودمّرها. لكن قرطاج تعافت وازدهرت تجارتها مرة أخرى مع الشرق مصدّرةً الحبوب والأقمشة.

ليبيا العصور القديمة
المستعمرات الفينيقية والإغريقية عام 700 قبل الميلاد تقريباً. المصدر: فاناك

الرومان

ساعدت الحرب بين الفينيقيين والإغريق على صعود قوة جديدة في الشمال الإفريقي وهي الدولة الرومانية. ففي بداية القرن الثالث ق.م، تقاسمت روما وقرطاج التجارة في البحر المتوسط.

وفي عام 146 ق.م، أنهى الجيش الروماني ثلاث سنوات من الحروب مع قرطاج بتدمير المدينة. قال المؤرخون القدماء إنهم أغرقوا المدينة بالنفايات وغمروها بالملح. لكن الحكم الروماني في شمال إفريقيا اضطر إلى تكوين تحالفات مع الممالك المحلية المدن الفينيقية التي بدّلت ولاءها. ولم يكن نظام الرومان مستقراً، لكن بخلاف محاولة يوليوس قيصر القضاء على الممالك المحلية واحتلال إفريقيا، كان الفيلق الأوغسطي الثالث الجبار هو الفيلق الروماني الوحيد خلال أربعمائة عام الذي أقام حامية دائمة في شمال وغرب إفريقيا.

وكان الشريط الساحلي لإقليم طرابلس المعروف بمقاطعة إفريقيا البروقنصلية مقاطعة طرفية مرتبطة بشبكة طرق واسعة تربط بينها وبين مناطق أهم في الإمبراطورية الرومانية تقع اليوم في تونس والجزائر والمغرب. وكانت لبدة الكبرى، التي كانت يوماً ما ميناءً فينيقياً، أهم هذه المناطق. وقد كانت تصدّر كميات كبيرة من الزيتون وغيره من المنتجات المحلية.

وامتدت الزراعة جنوباً، وكانت الحصون والخنادق تحمي الحقول والمستعمرات والقرى وقنوات المياه والمصارف. وكانت تلك التحصينات لحدود الإمبراطورية الرومانية تدعى في اللاتينية “الليمس”، وهي تعني الحد، ومنها اشتُقت الكلمة الإنجليزية “Limit” بالمعنى نفسه.

الممالك المحلية

كانت تعيش وراء الحدود الرومانية ممالك محلية ضاربة في القِدم. ومنهم شعب الجرمنت الكبير الذي استوطن إقليم فزان في الفترة من عام 500 ق.م إلى 500 م. وقد وصلتنا أخبارهم لأنهم ذُكروا في المصادر الرومانية والإغريقية أكثر من غيرهم من شعوب الصحراء. ولم يبقَ من عاصمتهم جِرمة إلا أطلال مدينة كبيرة بها مبانٍ حجرية خلابة لها طرز معمارية متوسطية ومقابر بها أمتعة رومانية. وكانت لهم تجارة مزدهرة في الصحراء، إذ تاجروا في الخيول والتمور والملح والعاج والعبيد. وكانوا يرتحلون في أسفارهم البعيدة في قوافل على ظهور الحمير أول الأمر، إذ لا تظهر الجِمال على النقوش الصخرية الصحراوية القديمة، ويبدو أن الجرمنت بدؤوا تربيتها رويداً.

كما ذكر المؤرخ الإغريقي هيرودوت في القرن الخامس ق.م أن الناس في إقليم فزان كانوا يستعملون عربات تجرّها أربعة خيول، وهذا ما نراه على النقوش الصخرية. وساد التوتر بين الجرمنت والرومان، فقد انطلقت ثلاث حملات رومانية على الأقل في القرن الأول الميلادي وحده صوب أراضي الجرمنت. لكن جرمة كانت بعيدة عن سيطرة الرومان، لذلك لم يطل خضوعها لحكمهم. ورغم حروبهما من آن لآخر، طور الجرمنت علاقات تجارية مع الرومان منذ القرن الأول ق.م. كما انضموا أحياناً إلى مختلف الأطراف في القتال بين المدن الرومانية.

ليبيا العصور القديمة
زوار لأطلال مدينة لبدة الكبرى الرومانية في مدينة الخمس الليبية الساحلية التي تبعد نحو 120 كيلومتراً شرق العاصمة طرابلس، في 4 فبراير 2022. وفي الصورة قوس سيبتيموس سيفيروس الذي أعاد الأثريون بناءه عام 1928. وقد بُني للاحتفال بانتصار سيبتيموس على الفرثيين بين عامي 194-195 وعامي 197-199. Mahmud TURKIA / AFP

لبدة الكبرى

كانت لبدة في الأصل ميناءً فينيقياً وكان مناخ مناطقها الداخلية مناسباً لزراعة الزيتون. وقد استطاع يوليوس قيصر عام 46 ق.م فرض جزية سنوية عليها بمقدار ثلاثة ملايين رطل من زيت الزيتون. وسرعان ما أصبحت المدينة واحدة من أكبر المدن الإقليمية في الإمبراطورية. وقد وصل عدد سكانها إلى نحو 80 ألفاً. وأصبحت في حكم الإمبراطور تراجان (حكم بين عامي 98 و117 ق.م) مستعمرة كاملة الحقوق، وأصبح سكانها الأحرار مواطنين رومان.

وكانت عائلة سيبتيموس سيفيروس من بين العائلات التي استفادت من المواطنة الرومانية. فقد وُلد في لبدة عام 145 م، لكن علاقات عائلته في روما جعلت منه عضواً في مجلس الشيوخ الروماني. ثم أصبح قائداً عسكرياً في سوريا، وصار بعدها حاكم شمال فرنسا. ثم أصبح قنصل روما في عام 190 م. وفي عام 193 م، أصبح أول إمبراطور روماني من أصل إفريقي. وبدأ بين عامي 202-203 م برنامج عمراني طموح في لبدة شيّد فيه عدة مبانٍ رسمية باهرة، من بينها منتدى روماني وتماثيل نفيسة. وقد أدرجتها منظمة اليونسكو ضمن مواقع التراث العالمي عام 1982.

المسيحية وسقوط السلطة الرومانية

كان سيبتيموس سيفيروس شديد القمع للمعارضة. فأعدم أعضاء مجلس الشيوخ المعارضين له، وبطش بقبائل إقليم طرابلس الصحراوية. كما واجه الديانة المسيحية الجديدة بعنف وقسوة، فقد كانت تحط من شأن الممالك الأرضية وترفض عبادة الإمبراطور على عكس اليهودية والديانات المحلية. وتُوفي عام 211 م في أثناء قتاله الاسكتلنديين على حدود الإمبراطورية الشمالية في بريطانيا.

ثم اشتد الاضطهاد في عهد دقلديانوس (حكم بين عامي 284 و305 م). ولم ينته الاضطهاد بعد انتشار المسيحية وتحوّل الإمبراطور قسطنطين (حكم بين عامي 306 و337 م) إلى المسيحية وتبنيها، فقد أدت الانقسامات بين المسيحييين إلى اشتداد الاضطهاد. ففي عام 429 م، اعتنق شعب الفاندال الجرماني الذي كان يستوطن منطقة نهر الدانوب النسخة الأريوسة من المسيحية التي اعتبرها الإمبراطور هرطقة. ثم تمردوا واحتلوا إسبانيا وغزوا شمال إفريقيا. وقد تنازل لهم الرومان عام 442 م عن أغلب مناطق شمال إفريقيا بما في ذلك إقليم طرابلس. لكن الممالك الأمازيغية المحلية قاومت حكم الفاندال حتى استطاع الإمبراطور جستنيان إعادة بناء الإمبراطورية في شمال إفريقيا بعد توليه عرش بيزنطة عام 527.

لكن الاقتصاد لم ينهر رغم ذلك الاضطراب السياسي. إذ استمر الإنتاج الزراعي، وأُعيد استخدام المباني القديمة لأغراض زراعية. فعلى سبيل المثال، كانت هناك معصرة للزيتون في مكان المنتدى القديم، وأخرى في الحمامات العامة. ومع ذلك نجد كثيراً أنهم كانوا ينهبون أحجار المباني القديمة لاستخدامها في تشييد المباني الجديدة. واستمر هذان الاتجاهان حتى ظهور دين جديد في المغرب الكبير وانتشاره فيها وهو الإسلام.

Advertisement
Fanack Water Palestine