وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

تاريخ ليبيا

تاريخ ليبيا
صورة التُقطت في 9 أبريل 2015 تُظهر قوس ماركوس أوريليوس في مدينة أويا في طرابلس الحالية في ليبيا. لأكثر من ألفي عام، كانت المدينة القديمة هي قلب العاصمة الليبية، بمبانيها التاريخية المطلية باللون الأبيض وأسواقها النابضة بالحياة. لكن الاشتباكات المستمرة وصعود الجماعات الجهادية أثّر سلباً في اقتصاد البلدة القديمة ومستقبلها. AFP PHOTO / MAHMUD TURKIA

مقدمة

كانت ليبيا الدولة العربية الأكثر تضرراً من ثورات عام 2011. إذ أُطيح بنظام معمّر القذافي بعد حرب أهلية استمرت طوال 2011 وقسّمت البلاد إلى منطقتين منفصلتين منذ ذلك الحين. وتشكّلت حكومتان تزعم كلتاهما أنها الحكومة الشرعية التي تمثّل البلد كله، وتعيشان على عائدات النفط.

وقد اكتسبت ليبيا ثروة كبيرة من عائدات النفط في السبعينيات، ما سمح لنظام القذافي بخوض مغامرات سياسية في الداخل والخارج. إلا أن ثراء ليبيا كان معتمداً على النفط فحسب، إذ بقي البلد فقيراً جداً في الحقيقة لانعدام تطوير الموارد الاقتصادية الأخرى بالقدر نفسه.

كما يتركز الصراع من أجل السيطرة على ليبيا على مورد مهم غير اقتصادي، وهو موقعها الجغرافي الذي يمنحها ميزات استراتيجية كبيرة. إذ تطلّ ليبيا على الساحل الجنوبي للبحر الأبيض المتوسط ومضيق صقلية بالغ الأهمية الذي يربط بين شرق المتوسط وغربه. كما تنتهي في ليبيا الطرق البرية التي تربط المتوسط بجنوب الصحراء الكبرى. وهذان الطريقان كان لهما عظيم الأثر على تاريخ ليبيا.

لطالما شهد ساحل طرابلس في الغرب معارك من أجل السيطرة عليه منذ عهد الإمبراطورية الرومانية. وما يزال المهاجرون يستخدمون طرق الصحراء الكبرى نفسها التي كانت تأتي عبرها القوافل المحمّلة بالعبيد إلى المدن الإسلامية في شرق المتوسط حتى القرن التاسع عشر.

في هذا القسم، يوضّح فنك تطور الجذور العميقة لليبيا الحديثة التي يمكن وصفها بأنها أحد أكثر البلدان تعرّضاً للاستعمار في العالم.

العصور القديمة

بعدما أسس الفينيقيون والإغريق مستعمرات تجارية على شاطئ البحر الأبيض المتوسط، احتل الرومان ساحل طرابلس وبرقة وشيّدوا مدناً مهمة مثل لبدة الكبرى لتزويد الإمبراطورية بالمنتجات الزراعية. أما الممالك المحلية الداخلية، مثل الجرمنت، فقد سيطرت على مدخل الصحراء الكبرى.

الفتح الإسلامي - من القرن السابع إلى القرن السادس عشر ميلادياً

تراجعت سلطة الرومان في القرنين الثالث والرابع الميلاديين، واحتل الفاندال المنطقة الساحلية لفترة وجيزة، ثم تلاهم البيزنطيون الذين حكموا الإمبراطورية الرومانية الشرقية من القسطنطينية. وقد يسّر ذلك على العرب غزو برقة وطرابلس من الشرق حاملين معهم دين الإسلام الجديد. إلا إنهم لم يؤسسوا مراكز سياسية هناك قط.

وكانت طرابلس تابعة للحكم الإسلامي في تونس التي كانت تتمتع بثراء أكبر، وكانت المناطق الجبلية توفر ملاذاً للإباضيين ومذهبهم غير التقليدي.

استمر حكم طرابلس من تونس تحت حكم الفاطميين في القرن العاشر وخلفائهم الزيريين في القرن الحادي عشر. وفي القرن الثاني عشر، احتل النورمانديون مدينة طرابلس من الساحل الشمالي للمتوسط قبل أن تصبح تابعة للإمبراطورية الموحدية المغربية.

ثم أعادتها الأسرة الحفصية التونسية إلى الحكم الإسلامي في أوائل القرن الثالث عشر. فازدهرت طرابلس في عهدهم من خلال التجارة والقرصنة.

الحكم العثماني والقراصنة والأسرة القرمانلية (من القرن السادس عشر إلى القرن الثامن عشر الميلادي)

بعد أن سيطر العثمانيون على القسطنطينية عام 1453، امتد الحكم العثماني إلى مصر وسرعان ما انتشر على طول ساحل شمال إفريقيا باتجاه المغرب، وكان ذلك جزءاً من حرب بحرية مع إسبانيا. واستولت القوات الإسبانية على طرابلس عام 1510، وسلّمتها لفترة وجيزة لفرسان القديس يوحنا إلى جانب مالطا، ثم خسرتها لصالح العثمانيين عام 1551.

أصبحت طرابلس ولاية مستقلة مثل الأراضي العثمانية الأخرى في شمال إفريقيا كمدينتي تونس والجزائر. وكان حاكم الولاية الذي يعيّنه السلطان العثماني يُلقّب بالباشا، لكن السيطرة الفعلية كانت في يد ميليشيا محليّة تحت قيادة الداي.

سيطر الكراغلة، أبناء الجنود الأتراك والنساء المحليات، على قيادة الميليشيا. واعتمدوا على التجارة الصحراوية وإلى حد كبير على الأرباح التي حققتها سفن القراصنة التي هاجمت السفن المسيحية والأراضي المطلّة على المتوسط.

وكانت ليبيا في وضع مميز للتحكم في الطرق البحرية في منتصف البحر الأبيض المتوسط. إلا أن ذلك النظام كان مضطرباً، وفي عام 1711، استولى على السلطة قائد كرغلي يُدعى أحمد القرمانلي بانقلاب عسكري وحاز لقب باشا من السلطان العثماني.

بقيت طرابلس تحت الحكم العثماني شكلياً فقط، وحكمها القرمانليون لأكثر من قرن. ولأول مرة في تاريخها، تمتعت المنطقة التي ستصبح ليبيا الحديثة استقلالاً حقيقياً. كان يوسف باشا القرمانلي (1795-1832) آخر فرد قوي في الأسرة. وقد شجع التجارة عبر الصحراء ونشّط القرصنة من جديد من أجل بناء اقتصاد طرابلس.

ومع ذلك، رفضت حكومة الولايات المتحدة الأمريكية الوليدة دفع الضريبة لحماية سفن تجارها. وفي عام 1803، حاصرت طرابلس وأنزلت قواتها في برقة. وقد نجا يوسف باشا، لكنه تنازل عن العرش لابنه عام 1832. وفي عام 1835، أنشأت الإمبراطورية العثمانية جيشاً لإعادة طرابلس وبرقة إلى سيطرتها المباشرة.

الفترة العثمانية الثانية - السنوسي (1823-1859)

استعاد العثمانيون سيطرتهم عبر حملة على نمط الحروب الاستعمارية الأوروبي، إذ استخدموا الغزو العسكري وفرضوا ضرائب عقابية. وقد نمت التجارة بين طرابلس وأوروبا، ولكن في برقة البعيدة عن العاصمة، كانت السلطة الحقيقية تكمن في أيدي جماعة دينية إسلامية يقودها السنوسيون الذين كانت لهم روابط تجارية وسياسية عبر الصحراء الكبرى. وقد نقلت مقرها في النهاية إلى عمق الصحراء.

الطريق إلى الاحتلال الإيطالي

بحلول نهاية القرن التاسع عشر، كان الاقتصاد ينفتح على التجارة الأوروبية والنفوذ السياسي. وكانت بريطانيا أكبر شريك تجاري، لكن القوميين الإيطاليين بدؤوا ينظرون إلى ليبيا على أنها أرض مناسبة للاستعمار. فهي ستكون “شاطئاً رابعاً” لإيطاليا التي توحدت منذ عام 1871، ما سيمنحها قوة استراتيجية على وسط البحر الأبيض المتوسط.

ورغم أن ليبيا لم تكن مستعمرة مفيدة من الناحية الاقتصادية، فقد اختلقت الحكومة الإيطالية ذريعة لإعلان الحرب وغزتها عام 1911. فانسحب الجيش العثماني المتمركز في البلقان للحفاظ على السيطرة العثمانية هناك، وضمّت إيطاليا ليبيا. وعلى الرغم من الانسحاب العثماني، وجد الطليان معارضة شديدة من السكان الليبيين ومحاولة وجيزة لإنشاء جمهورية مستقلة في المناطق النائية من طرابلس.

حرب الاسترداد الإيطالية 1923-1932 وعمر المختار

في عشرينيات القرن الماضي، بدأت حكومة موسوليني الفاشية حملة للسيطرة أخيراً على مستعمرتها في ليبيا، وهي عملية وصفتها بأنها حرب استرداد. لكنه وجدت مقاومة من الشيخ السنوسي البارز عمر المختار الذي قاد حملة عسكرية منظّمة وفعالة ضد الإيطاليين.

لكن الجيش الإيطالي تغلب على المقاومة عام 1931 وشنق المختار على الملأ. ثم بدأت الحكومة في توطين المستعمرين الإيطاليين في ليبيا، وحرمت السكان من الأراضي الخصبة، فنفق كثير من الماشية، مما أدى إلى وفاة العديد من الليبيين.

الحرب العالمية الثانية وتأسيس المملكة الليبية

خلال الحرب العالمية الثانية، كانت ليبيا ساحة معركة بين قوى المحور والبريطانيين وحلفائهم في الكومنولث. وكانت هزيمة الجنرال الألماني إرفين روميل في العلمين في أكتوبر 1942 نقطة تحول في الحرب.

وبعد طرد الجيش الألماني، قسمت بريطانيا وفرنسا أراضي المستعمرة الإيطالية السابقة بينهما، فحصلت فرنسا على إقليم فزان وبريطانيا على إقليمي طرابلس وبرقة. لكن موقع ليبيا الاستراتيجي جعل الاتحاد السوفيتي مُصرّاً بعد الحرب على إيقاف الاستعمار الإنجليزي الفرنسي.

وتحت رعاية الأمم المتحدة، أصبحت ليبيا مملكة اتحادية مستقلة صار ملكها أمير جماعة السنوسيين. وبقيت ليبيا في المعسكر الغربي، وسيطرت بريطانيا وأمريكا على قواعد عسكرية مهمة على الساحل. ومع ذلك، كانت البلاد فقيرة اقتصادياً حتى إنها كانت عند استقلالها أفقر دولة في العالم من حيث نصيب الفرد وكان أغلب سكانها غير متعلمين.

بناء مملكة حديثة (1951 – 1969)

بدأت الظروف الاقتصادية في ليبيا تتغير بعد اكتشاف النفط وتصديره بدايةً من 1961. وسرعان ما أصبحت ليبيا واحدة من أغنى دول العالم من حيث دخل الفرد. لكن النظام عجز عن استغلال الثروة الناتجة عن النفط. وفي وقت شهد تحولات سياسية كبيرة في المنطقة، جذبت القومية العربية الناصرية ضباطاً شبّاناً في الجيش كانوا مستائين من وجود القواعد الأمريكية والبريطانية. لذلك، في الأول من سبتمبر 1969، نظم صغار الضباط انقلاباً عسكرياً. وبعد ذلك بوقت قصير، ترقّى الملازم أول معمّر القذافي إلى رتبة عقيد وأصبح قائد المجموعة الثورية.

ليبيا الثورة تحت حكم معمر القذافي

شكل القذافي وزملاؤه في البداية مجلساً لقيادة الثورة على النمط الناصري. وعلى الرغم من وجود محاولات مبكرة للانقلابات داخل المجموعة نفسها وخفوت دور مجلس قيادة الثورة، ظلّ العديد من أعضائه جزءاً من النخبة الحاكمة. إلا أن السلطة قد تركزت بشكل أكبر في يد القذافي الذي زعم أنه ليس لديه منصب رسمي غير كونه زعيم الثورة. وتحت قيادته، استُبدلت الجمهورية العربية الليبية التي أسسها مع زملائه عقب انقلاب 1969، في عام 1977 بصيغة سياسية جديدة تُدعى الجماهيرية.

صُممت الجماهيرية لتكون صياغة جديدة للديمقراطية بمشاركة شعبية واسعة من خلال نظام هرمي من اللجان. كان هيكل الدولة القمعي أساسياً في ذلك النظام، وذلك رغم المُثُل الديمقراطية الرسمية والتلاشي المفترض لدور الدولة.

سيطرت اللجان الثورية على السكان. أما في العلاقات الدولية، فأصبح النظام معارضاً شديداً للتحالف الغربي واقترح عدة مرات الاتحاد مع دول عربية أخرى، ولكن باءت كلها بالفشل. كما دعم النظام الإرهاب الدولي، وشنّ حرباً طويلة الأمد وغير منظمة لضم جزء من شمال تشاد في الثمانينيات. عندما أُسقطت طائرة ركاب أمريكية فوق لوكربي في اسكتلندا عام 1988، تلتها طائرة فرنسية فوق النيجر عام 1989، فرضت الأمم المتحدة نظام عقوبات صارماً على ليبيا. ثم ساءت الأمور على النظام بعدما شنّ الإسلاميون العائدون من أفغانستان حملة لإسقاط نظام القذافي.

وبحلول نهاية التسعينيات، كانت ليبيا دولة منبوذة. إلا أن هجمات 11 سبتمبر 2001 على الولايات المتحدة والغزو الأمريكي للعراق أقنع النظام الليبي والقوى الغربية بضرورة التوصّل إلى تسوية. فرفعت الولايات المتحدة وبريطانيا العقوبات تدريجياً وأقامتا علاقات أكثر ودية في مقابل تنصل ليبيا من الإرهاب.

الانتفاضة الليبية 2011

لم يحمِ إحياء العلاقات بين الغرب وليبيا القذافي من الغضب الشعبي من انتهاكات حقوق الإنسان والفساد وانعدام الكفاءة. فقد اندلعت ثورة في بنغازي بعد نجاح الثورة التونسية في أواخر عام 2010 وإطاحة الرئيس بن علي في يناير 2011. وأدى ذلك إلى عدة أشهر من الحرب الأهلية التي نتج عنها تشكيل المجلس الوطني الانتقالي الثوري ضد النظام.

وقد نجح المجلس الوطني الانتقالي في الإطاحة بنظام القذافي بدعم من قوات حلف شمال الأطلسي (الناتو) الذي حظر المجال الجوي على قوات القذافي ومنعها من الوصول إلى قدرتها التشغيلية. لكن هذا ذلك لم يضع حداً للحرب الأهلية، فقد أوكلت الحكومة الجديدة مهمة الأمن إلى مجموعات مسلحة مستقلة، كان بعضها من الإسلاميين، فأدّت الفوضى الناجمة عن ذلك إلى تعطيل إنتاج النفط.

وفي عام 2012، أُجريت انتخابات المؤتمر الوطني العام لصياغة الدستور واختيار رئيس للوزراء. لكن عندما حاول رئيس الوزراء الجديد زيدان حل الميليشيات، رفض أكثرها قبول سلطة الدولة، فانهارت الحكومة في أواخر عام 2013. وفي الوقت نفسه، شكّل المتمردون في الشرق حكومة بديلة، وشنّ تحالف عسكري بقيادة اللواء خليفة حفتر هجوماً على الميليشيات الإسلامية.

حكومتان في ليبيا

بحلول يناير 2015، كانت هناك حكومتان في ليبيا، واحدة في طرابلس والأخرى في برقة. لكن لم يكن لدى أي منهما ما يكفي من المال لفرض نفسها على الأخرى. وفي آخر 2014 وأول 2015، دخل منافس آخر الساحة عندما أسس تنظيم الدولة الإسلامية “ولاية” في درنة. في خلفية تلك الفوضى السياسية، بدأ مهربو البشر في العمل علناً في طرابلس، وشرعوا ينقلون أعداداً كبيرة من المهاجرين إلى جنوب أوروبا.

توصّل أطراف الصراع إلى في ديسمبر 2015 إلى “الاتفاق السياسي الليبي”، وكان يُفترض أن ينتج عنه تشكيل حكومة وفاق وطني لسد الفجوة بين حكومتي طرابلس وبرقة. إلا أن الصراع استمر رغم ذلك الاتفاق والعديد من الهُدَن المقترحة.

المجتمع المدني يُحيي الهوية الوطنية

عصفت جائحة كورونا بليبيا عام 2020 عندما كان من الواضح أن المحاولة الأخيرة لتشكيل حكومة مؤقتة للإشراف على الانتخابات كانت محفوفة بالمخاطر مثل سابقاتها. مع انقسام الحكومة وضعف جاهزيتها، بدأت منظمات المجتمع المدني في قيادة الاستجابة الإدارية والإغاثية للجائحة. كما صممت الشركات المحلية أدوات تقنية للتعامل معها. وبدأ المتظاهرون يطالبون بعودة الخدمات العامة التي كانت موجودة في ظل جماهيرية القذافي رغم انعدام كفاءتها.

Advertisement
Fanack Water Palestine