وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

ليبيا: الفترة العثمانية الثانية – السنوسي (1823-1859)

ليبيا الفترة العثمانية الثانية
تُظهر هذه الخريطة عام 1883 تمدد السنوسيين في الصحراء الكبرى. ومن الجدير بالملاحظة أن هنري دوفرييه راسم الخريطة وضع واحة الجغبوب ضمن المناطق المصرية. فلم يكن معهوداً تعيين الحدود بدقة وقتها. Source: University of Illinois Digital Collections

المقدمة

بعدما أعاد العثمانيون سيطرتهم على إقليمي طرابلس وبرقة عام 1835، عزموا ألا يفرّطوا فيها. وعندما غزت فرنسا الجزائر عام 1830، شرع العثمانيون في إنقاذ أكبر أراضيهم في شمال إفريقيا. فلم يسمحوا لأي حاكم أن بالاستقلال الذي حظي به القرمانليون. لذلك بدّلوا الباشاوات بسرعة حتى إن 33 باشا تناوبوا على حكم المنطقة على مدى 75 عاماً.

كما أراد العثمانيون تعظيم أرباحهم بالسيطرة على أراضي طرابلس الداخلية، لكنهم قابلوا مقاومة في الجبل الأخضر وحوالي مصراتة، كما واجهتهم قبائل ورفلة وترهونة في أطراف الصحراء الشمالية. لكن العثمانيون ردّوا على تلك المقاومة مثلهم مثل أي قوة استعمارية بالعنف والضرائب التعسفية ودمج الزعماء المحليين في الحكومة الإقليمية. وفي الوقت نفسه، صهر العثمانيون طرابلس في النظام الأوروبي العالمي الاقتصادي ونظامه الأخلاقي حتى إلغاء العبودية.

اقتصاد البحر المتوسط الكبير

ليبيا الفترة العثمانية الثانية
الحَلفاء (الحَلفا) من الحشائش البرية التي تنمو في شمال إفريقيا. وقد أصبح سلعة تصديرية مهمة في ليبيا في القرن التاسع عشر، وكان يُحصد يدوياً ويُصدّر لصناعة الأوراق عالية الجودة، لا سيما الأوراق المالية. Photo Carsten Niehaus, Wikimedia Commons

تمكنت طرابلس بحلول منتصف القرن التاسع عشر من تصدير الحيوانات والحبوب وزيت الزيتون والزبدة. وكانت الصادرات الزراعية تتضاعف في سنوات وفرة المطر، وتنعدم في سنوات شحه. وقد ضربت المجاعة والجفاف البلاد عدة مرات في القرن التاسع عشر (في 1856 و1859 و1881-1882 و1888)، وفي بداية القرن العشرين (في 1901 و1903). وإذا أضفنا التجارة الصحراوية، فإن حجم التجارة السنوية اقترب من 3.2 مليون جنيه إسترليني (ما يعادل 262 مليون جنيه إسترليني اليوم). وهو أقل من حجم تجارة بقية مناطق شمال إفريقيا، لكنه نما بسرعة في أواخر القرن التاسع عشر عندما أصبح نبات الحَلفاء (أو الحَلفا) قوام صناعة الورق البريطانية. فأصبحت بريطانيا أكبر شريك تجاري لطرابلس، وبعدها إيطاليا.

وكان حصر تعداد سكان الأراضي الداخلية صعباً، لأن أغلبهم من البدو الرحل. وقد بلغ عددهم نحو 600 ألف نسمة في أول إحصاء اُجري لهم عام 1911. وفي عام 1850، قُدر عدد سكان طرابلس بقرابة 12 ألف نسمة، والعدد نفسه في مصراتة. وقرابة 5000 نسمة في مرزق في إقليم فزان، والعدد نفسه في كل من بنغازي ودرنة أكبر مدن إقليم برقة.

وكانت الأقلية اليهودية معزولة اجتماعياً، ولكنها نمت بسرعة في طرابلس من قرابة ألف أسرة يهودية عام 1853 إلى قرابة 10,500 يهودي في عام 1914 ليشكلوا ما بين خُمس سكان المدينة وثلثهم. كما سكنت قلة من اليهود الأراضي الداخلية وفي إقليم برقة. وكانوا يعملون في طرابلس تجاراً وبقالين وجزارين وحرفيين (إسكافيين ونجارين وبنّائين وصاغة). كما كان لهم دور في التجارة مع أوروبا، فقد عينتهم العديد من القناصل الأوروبية وكلاء لها، ما منحهم حماية شبه دبلوماسية.

وظهرت البلديات في طرابلس وغيرها من المدن، وقامت فيها بنية تحتية محدودة. كما تطور نظام التعليم الرسمي الابتدائي والثانوي، وتشكّلت بذرة نظام قانوني مدني، وتأسست طبقة متعلمة حديثة من أبناء النخب القديمة.

أما إقليم برقة، فقد كان تفصله الصحراء التي وصلت حتى شاطئ البحر عن طرابلس. وبقيت سلطة العثمانيين عليه ضعيفة كما كانت في عهد القرمانليين. لذلك ظلّ الإقليم شبه مستقلاً، وبقي الوجود العثماني فيه هامشياً حتى إن الحاميات الصغيرة كانت تعجز عن تحصيل الضرائب. وهو ما سمح للمكونات القبلية بالسيطرة على الأراضي الرعوية والوصول إلى المياه.

السنوسيون

سمح ضعف سيطرة العثمانيين في إقليم برقة والصحراء الكبرى بتنامي قوة الطريقة السنوسية الصوفية. وقد أسسها السيد محمد بن علي السنوسي (1787-1859) في مكة عام 1837 لتكون طريقةً وسطاً بين عرفان الصوفية وفقه العلماء السنة، فأنكر التعصب وحظر المنبهات كالشاي والقهوة والحشيش. كما شجّع العمل الدؤوب بدل الاعتماد على الصدقات. وقد سيطرت الطريقة على التجارة عبر الصحراء الكبرى وأثرت منها ثراءً كبيراً.

ونقل السنوسي عام 1843 مقره إلى مدينة البيضاء في منطقة الجبل الأخضر. ثم نقله عام 1855 إلى واحة الجغبوب القريبة من واحة سيوة المصرية، وهي تقع في ليبيا اليوم. وكان السنوسيون في مواقعهم النائية في الصحراء أقوى من الدولة العثمانية. ولما توفي السيد محمد بن علي السنوسي عام 1859، خلفه ولده محمد المهدي الذي نقل مقره جنوباً إلى الكفرة في عمق الصحراء عام 1894.

وامتدت شهرة الطريقة إلى فاس ودمشق وإسطنبول والحجاز حتى وصلت إلى الهند. وفي الصحراء الكبرى، نجد مئات الزوايا السنوسية التي تقوم بأدوار الدولة، كالتوسط في الخلافات ومساعدة الفقراء وتشجيع التجارة ومقاومة جيوش القوى المسيحية. وقد قاد السنوسيون الجهاد ضد الفرنسيين في أوائل القرن العشرين عندما توغلوا شمالاً عبر الصحراء الكبرى.

Advertisement
Fanack Water Palestine