وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

المندائية أو عقيدة التوحيد المنسية

Specials- Mandaeism
عراقي من الأقلية الدينية، الصابئة المندائية، ينتظر دوره ليتم تعميده في مياه نهر دجلة خلال عيد التعميد الذهبي السنوي الذي أقيم في بغداد في ٢٢ مايو ٢٠٠٦. Photo: WISAM SAMI / AFP

لا يُعرف سوى القليل عن المندائية، وهي واحدةٌ من أقدم ديانات التوحيد في العالم. وخلافاً لليهود أو المسيحيين أو المسلمين، يُشكل المندائيون مجموعةً عرقية دينية تضم أقل من 100 ألف شخص يمارسون ديناً توحيدياً، التي ظهرت آثارها الأولى، وفقاً لعالمة الأنثروبولوجيا الفرنسية كلير ليفورت، في العصور السومرية، منذ أكثر من 3000 عام.. ومع ذلك، كافح الخبراء لتحديد متى ولدت المندائية بالضبط، بيد أنه لا يمكن الوثوق تماماً بأي بيانات.

بعد ظهور الإسلام، تم استخدام مصطلح “الصابئة” لوصف المندائيين وبعض الجماعات الأخرى. وحتى يومنا هذا، لا يزال يُشار إلى المندائيون باسم الصابئة في جميع أنحاء الشرق الأوسط. وبالتالي، أصبح الكثير من المندائيين يصفون أنفسهم بـ “الصابئة المندائيين،” جامعين بين التسمية الدخيلة والمضادة.

إن الافتقار لوجود مصادر تاريخية حول التاريخ المبكر للمندائية يُفسر سبب الأساطير والخرافات التي تُحيط بهذا الدين، وفقاً لتشارلز هابرل، الأستاذ بجامعة روتجرز والخبير بالديانة المندائية. فقد كتب في ورقةٍ حملت عنوان “الرياء أم الإندماج؟ حال المندائيين،” أن نص حران كويثا (حران الداخلية) يُقدم سرداً تاريخياً رئيسياً لهجرة المندائيين من فلسطين إلى جنوب بلاد ما بين النهرين خلال القرن الأول. كما يوضح أنه حتى منتصف القرن العشرين، كان النص معروفاً للمندائيين فحسب. ومع ذلك، فقد تم نقل الروايات الشفوية عن إعادة توطينهم لأكثر من ألف عام. فقد أصبح النص في متناول العلماء فحسب عندما تمكنت عالمة الأنثروبولوجيا الثقافية البريطانية إيثيل إس دروور من الحصول على نسخة منه.

منذ القرن العاشر، ناقش العلماء والمحامون المسلمون ما إذا كان المندائيون “أهل كتابٍ” أم لا. يُصنف القرآن الكريم ثلاث جماعاتٍ من أهل الكتاب: اليهود والمسيحيين والصابئة. وبحسب ما قالته هابرل لنا في فَنَك “ظهرت الصابئة كجماعةٍ مبهمة في القرآن. عندما تبدأ بالفعل في قراءة التفسير، يبدو من الواضح أن لا أحد يملك أدنى فكرة عن الأمر. كان من الممكن أن يكونوا مصريين أو يونانيين أو من صحابة النبي محمد.”

ففي الأراضي الإسلامية، كان يحق للمؤمنين من أهل الكتاب ممارسة دينهم، شريطة أن يدفعوا ضريبة تسمى الجزية. ولفترةٍ طويلة، استفاد الصابئة المندائيون من هذا الوضع، إلا أن هذا بدأ يُشكل خطراً عندما زعمت عدة جماعاتٍ أخرى أنها صابئة لإظهار شرعيتها القرآنية، مما أثار الشكوك حول صحة هويتهم.

المندائية مستمدة من ديانات بلاد ما بين النهرين التي ظهرت حول نهري دجلة والفرات، في ما يعرف اليوم بجنوب العراق ومقاطعة خوزستان الإيرانية. تخلى المندائيون تدريجياً عن الشرك من أجل نظامٍ ازدواجي يعتمد على تناقضٍ بين النور والظلام. في هذا الصدد، تتقاسم المندائية سماتٍ مختلفة مع الديانات الفارسية الثنائية الأخرى مثل الزرادشتية والمانوية والتعاليم المَزدكية.

على الرغم من هذه الإزدواجية، لا يؤمن المندائيون سوى بإلهٍ واحد الذي يعيش في عالم النور. على النقيض من ذلك، في عالم الظلام، هناك كبرى الأرواح المسماة الروها (أي الروح الشريرة) والأمير بثاهيل، الذي يشبه الديميورغوس، أو خالق الكون المادي في الفلسفات الغنوصية (المعرفية)، الذي أفسد جميع الكائنات الروحية ليقودهم إلى خلق عالمنا المادي.

باعتبارها ديانة غنوصية، يؤمن المندائيون بخلاص الروح من خلال المعرفة السرية لله. وعلى عكس الديانات الغنوصية الأخرى، تدعم المندائية الزواج وتحرّم الإباحة الجنسية.

ووفقاً لمعتقدات المندائيين، كان آدم أول الأنبياء، تلاه شيث وسام. في حين أن التقاليد اليهودية المسيحية تعتبر حواء مسؤولة عن الخطيئة الأصلية، يعتبر المندائيون أن كلاً من آدم وحواء يتحملان هذا العبء. يقدس المندائيون أيضاً يوحنا المعمدان، الذي يعتقدون أنه نبيهم الأخير، حيث يُستمد من هذا الاعتقاد طقسهم الأكثر أهمية، المعمودية. يمكن تعميدهم عدة مرات في حياتهم، خلال طقوسٍ أسبوعية يوم الأحد أو خلال احتفالاتهم. مع ذلك لا يمكن أن تتم المعمودية إلا في المياه المتدفقة. الماء هو العنصر الأكثر أهمية الذي يأتي من عالم النور، وبالتالي يُنظر إليه كمصدرٍ للحياة. جانب رئيسي آخر للدين هو أن المندائيين لا يصلون للأصنام والصور. كتابهم الديني الرئيسي هو الكنزا ربّا، أي “الكنز العظيم،” وهو مكتوبٌ باللغة المندائية التقليدية، شكلٌ من أشكال الآرامية الشرقية.

اليوم، المندائية دينٌ مهدد بالانقراض. فمنذ غزو العراق عام 2003 بقيادة الولايات المتحدة، تعرض الصابئة المندائيون – كحال الأقليات الأخرى في العراق – للاضطهاد الديني والعرقي، بما في ذلك التعذيب والقتل والاغتصاب والترحيل والزواج القسري.

وعلى الرغم من أن تنظيم الدولة الإسلامية لم يصل أبداً إلى موطن المندائيين التاريخي في جنوب العراق، إلا أن مجتمع المندائيين تحمّل انتهاكاتٍ جسيمة لحقوق الإنسان مرتبطة بتصاعد التطرف الإسلامي وانعدام الأمن. تاريخياً، كان ينظر إلى المندائيين كأثرياء لأن الكثير منهم يعملون في صياغة الذهب. بيد أنه في الفوضى التي أعقبت الحرب، أصبحوا هدفاً للعصابات الإجرامية وتعرضوا للسلب والنهب والخطف. بالإضافة إلى ذلك، يُدين دينهم العنف بشكلٍ قاطع، مما يجعلهم عرضة للهجوم بشكلٍ خاص.

في تقرير مؤسسة الشرق الأوسط للبحوث (ميري) بعنوان الصابئة المندائيون: مفهوم المصالحة والصراع، روى أحد الطلبة المندائيين بقوله: “لقد حدثت الكثير من عمليات الاختطاف بسبب المال. لا نعرف بالضبط من يقف وراء ذلك، لكن اختطف أخي عام 2008. وكان علينا دفع الكثير من المال لإعادته.”

إن حقيقة عدم ختان الرجال المندائيين هي أيضاً مصدرٌ للتمييز، إذ أنه ووفقاُ لفيورت، يذكرنا ذلك بالتمييز العنصري في الولايات المتحدة الأمريكية أو الفصل العنصري في جنوب افريقيا. من الأمثلة على ذلك عدم السماح للمندائيين بلمس المنتجات في أكشاك التسوق أو حتى دخول الاستراحة في العمل. وفي تقرير مؤسسة ميري، قال أحد صائغي الذهب المندائيين: “في ميسان [في جنوب شرق العراق]، اعتدنا أن يطلق علينا اسم منبوذون أو نجسون. عندما نذهب إلى جنازةٍ ما ونشرب الشاي، فإنهم حتى لا يغسلون الأطباق لاحقاً ولكن يكسرونها. هذا هو مستوى العنصرية ضدنا. بالإضافة إلى ذلك، تم فرض ارتداء الحجاب علينا.”

ووفقاً لهابرل، “انخرط المندائيون بالكامل في الهوية المعاصرة للعراق، خذ على سبيل المثال عبد الجبار عبد الله، الذي كان أول مديرٍ لجامعة بغداد، أو الشاعرين لميعة عمارة وعبد الرزاق عبد الواحد. كان العديد من المندائيين صائغي ذهب، وغالباً ما كانوا متعلمين. وفي عهد صدام حسين، كانوا يشكلون نخبةً ذات نشاطٍ سياسي.” وأضاف:”صحيح أن حكم صدام حسين كان دكتاتورية استبدادية، ولكن إحدى معالمه كانت الثقافة العلمانية.”

في العقود الأخيرة، انخفض عدد المندائيين في العراق انخفاضاً ملحوظاً، مع بقاء أكثر من 300 أسرة، بحسب ليفورت. فر معظمهم إلى دولٍ غربية، مثل السويد وألمانيا وأستراليا والولايات المتحدة، مما أثار مخاوف بشأن بقاء الدين الذي ظل حتى الآن ضمن جماعةٍ متزاوجة، إذ لا يمكن للرجال والنساء على حد سواء سوى الزواج داخل مجتمعهم، الأمر الذي يطرح العديد من التحديات حيث بات المجتمع مشتتاً بشكلٍ متزايد.

وبحسب ما خلص هابرل، “بدأ الشتات حقاً في عام 2003. الآن، لا يملك المندائيون وطناً. ذهب كل شيء أدراج الرياح.” وأضاف “يقول الناس، ‘نحن بحاجة إلى التأقلم مع هذا الوضع الجديد. أطفالنا سيكبرون في الولايات المتحدة أو في ألمانيا، وسيتزوجون من خارج دينهم. كحال أي مجتمعٍ يعاني من أزمة، نحن بحاجة إلى التغيير.‘ لكن يعتقد كثيرون آخرون أيضاً أنهم بحاجة إلى الالتزام بما يعرفونه للبقاء على قيد الحياة كمجتمع.”

Advertisement
Fanack Water Palestine