ما هي السلفية؟ تبرز الحاجة إلى استخدام المصطلح بدقة ذلك أن هناك ميلاً لمساواتها بالإسلاموية: وهي أيديولوجية تدعو إلى تطبيق الإسلام كنظامٍ سياسي تكون فيه الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي أو الوحيد للأحكام والتشريعات. إن مثل هذا التداخل يُهمل تنوع وجهات النظر داخل الاتجاهات السلفية فيما يتعلق بالطموحات السياسية والعلاقات مع الدولة.
يأتي مصطلح السلفية من الجذر العربي (السين واللام والفاء)، الذي يُشير إلى دلالاتٍ بالأسبقية. وفي هذا السياق، تعني الكلمة ممارسة الإسلام على أساس السوابق الصحيحة، أي القرآن الكريم، وكل ما نُقل من قولٍ أو فعلٍ بطريقة صحيحة وواضحة عن النبي محمد (السُنة النبوية) وفهم الدين كما كان موجوداً بين السلف (السلف الصالح)، الذين غالباً ما يتم تعريفهم بأنهم الأجيال الثلاثة الأولى منذ نشأة المجتمع الإسلامي.
ومع ذلك، لا يعني هذا الرأي أن أي شيءٍ جاء بعد الأجيال الثلاثة الأولى (أي حتى حوالي القرن التاسع) يتم تجاهله تلقائياً. في الواقع، كثيراً ما يستشهد الخطاب السلفي بكتابات العلماء اللاحقين الذين ينظر إليهم على أنهم حافظوا على فهم الإسلام كما كان موجوداً بين أسلافهم. ومن الأمثلة على هؤلاء العلماء عالم الدين ابن تيمية (المعروف باسم “شيخ الإسلام”) والشخصية المعروفة في القرن الثامن عشر، محمد بن عبد الوهاب، الذي أسس الاتجاه الوهابي في شبه الجزيرة العربية. وبينما ظهر اتجاهٌ سلفي في مصر في القرن التاسع عشر، كان للاتجاه الوهابي تأثيرٌ مهم على السلفية في العصر الحديث، على الرغم من أن السلفية والوهابية تعاملان في بعض الأحيان باعتبارهما ظاهرتين مختلفتين. في الواقع، سيكون من الأدق التعامل مع الوهابية كنوعٍ من السلفية.
الجانب الأبرز للفكر السلفي هو النظرة المتشددة بالتمسك بمبدأ التوحيد ورفض الشِرك. وعليه، يحرّم السلفيون زيارة المقابر ومزارات الأولياء وأداء الطواف حولهم. كما يحرّمون أيضاً السعي للحصول على شفاعة الأولياء، لأن مثل هذه الأعمال تعتبر بمثابة عبادة غير الله، وبالتالي فهي شِركٌ بالله. ويؤكد السلفيون معارضتهم الشديدة للممارسات التي تُعتبر بدعاً، والأشخاص الذين يمارسون مثل هذه البدع (مثل الصوفيين)، إلى جانب تحذيرهم من الطوائف الإسلامية الأخرى مثل الشيعة الذين يُعتبرونهم طوائف ضالة.
بيد أن الآراء السلفية عن السياسة والعلاقات مع السلطات الحاكمة تختلف اختلافاً كبيراً، بدءاً من منظور “الهدوء” الصارم وصولاً إلى الجهادية السلفية. بالطبع، يقع العديد من ممثلي السلفية مثل حزب النور في مصر في مكانٍ ما بين هذين الحدّين.
ومن الأمثلة على النزعة الهادئة الصارمة عمل أبو خديجة، مدير المسجد السلفي في برمنجهام في المملكة المتحدة، والذي يرى أنه يجب إطاعة الحاكم بغض النظر عما إذا كان من الصالحين أم الخطاة. في الواقع، يجادل أبو خديجة بأن “التمرد على الحاكم المسلم الطاغية مُحرّم، حتى وإن كانت شخصيته مثل الشيطان، حتى وإن لم يُطبق السُنة النبوية.”
يرتكز أبو خديجة في مبدأه هذا على حديثٍ للنبي محمد في صحيح مسلم يقول فيه: “يَكُونُ بَعْدِي أَئِمَّةٌ لاَ يَهْتَدُونَ بِهُدَاىَ وَلاَ يَسْتَنُّونَ بِسُنَّتِي وَسَيَقُومُ فِيهِمْ رِجَالٌ قُلُوبُهُمْ قُلُوبُ الشَّيَاطِينِ فِي جُثْمَانِ إِنْسٍ ” . قَالَ قُلْتُ كَيْفَ أَصْنَعُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ أَدْرَكْتُ ذَلِكَ قَالَ ” تَسْمَعُ وَتُطِيعُ لِلأَمِيرِ وَإِنْ ضُرِبَ ظَهْرُكَ وَأُخِذَ مَالُكَ فَاسْمَعْ وَأَطِعْ.”
ومع ذلك، فإن مبدأ الطاعة عامٌ وليس مُطلق. وبالتالي، لا طاعة لحاكمٍ في معصية الله. وإذا ما ارتكب الحاكم فعلاً من أفعال الكفر أو الشرك، فينبغي أن يكون هناك تمردٌ فقط ضد هذا الحاكم إذا ما رأى العلماء السلفيون أن الحاكم كافرٌ ويمكن الإطاحة به من قبل الناس دون إلحاق ضررٍ أكبر.
بالنظر إلى هذا النهج العام في السياسة، ليس من المستغرب أن يشجب أبو خديجة بشدة الحركات الإسلامية مثل الإخوان المسلمين وحزب التحرير التي تمتلك طابعاً ثورياً بطبيعتها. ويؤكد أبو خديجة، الذي يلعنهم باعتبارهم بدعة أنه “ممنوع الانضمام إليهم أو مساعدتهم في دعوتهم.”
ينبغي التأكيد على أن هذا النهج الهادىء لا يعني أن هؤلاء السلفيين يرفضون فكرة الترويج لوجهة نظرهم العالمية والسعي إلى اعتناق الآخرين لها من خلال الدعوة. كما لا يعني أن هؤلاء السلفيين يدعمون مفاهيم الديمقراطية. بطريقةٍ مثالية، هم يرغبون في العيش في مجتمعٍ يطبق أحكام الإسلام والشريعة الإسلامية.
في الوقت الحاضر، فإن الجدل الأكثر بروزاً الذي أحدثه نفوذ السلفية الهادئة هو ليبيا، حيث يشار إليهم بشكلٍ عام بالسلفية المدخلية، نسبةً إلى الباحث السعودي ربيع المدخلي، الذي يروج للنهج الهادىء الذي عبر عنه في طاعة وليّ الأمر. المداخلة الذين كانوا يوماً ما يرتبطون بدعم نظام معمر القذافي قبل عام 2011 على أساس نهج طاعة وليّ الأمر، أصبحوا متورطين مع كلا طرفيّ الحرب الأهلية الحالية المستعرة في البلاد. ففي شرق ليبيا، انضم المداخلة إلى صفوف الرجل العسكري القوي خليفة حفتر (المدعوم صراحة من قبل ربيع المدخلي) ولعبوا دوراً بارزاً في معركته العسكرية “عملية الكرامة” ضد الإسلاميين والجهاديين السلفيين. أما في غرب ليبيا، فقد انضم المداخلة إلى قوات الأمن التابعة لحكومة الوفاق الوطني التي تتخذ من طرابلس مقراً لها. في كلا طرفيّ البلاد، تم اتهام المداخلة باستخدام نفوذهم لتعزيز نظرتهم للعالم ومهاجمة خصومهم الدينيين مثل الصوفيين.
في الطرف الآخر من الطيف السلفي، هناك “الجهادية السلفية،” والتي تضم جماعاتٍ مثل تنظيم القاعدة والدولة الإسلامية (داعش). فعلى سبيل المثال، يؤكد تنظيم داعش (كحال أبو خديجة) في منشوره المعنون “هذه عقيدتنا وهذا منهجُنا” أن مبادىء الدين مستمدة من القرآن والسُنة وفهم السلف الصالح من الأجيال الثلاثة الأولى. فعلى سبيل المقارنة، شددت الجماعة الإسلامية المسلحة في الجزائر، والتي ظهرت خلال الحرب الأهلية في ذلك البلد في التسعينيات، مراراً وتكراراً في بيانها على أنها التزمت “بالمنهج السلفي.” ومن المؤكد أن الجهاديين السلفيين لن يختلفوا مع نظرائهم من السلفية الهادئة في قضايا مثل معاداة الممارسات الصوفية. إن مشاهد هدم الجهاديين للأضرحة الصوفية معروفة تماماً.
ومع ذلك، يختلف نهج الجهاديين في السياسة اختلافاً جذرياً. وبحجة أن الحكام الحاليين في العالم الإسلامي هم مرتدون لأنهم لا يطبقون الشريعة الإسلامية ويتبنون الأفكار السياسية التي تعتبر مخالفة للإسلام (مثل القومية)، يُجادل تنظيم داعش وغيره من الجهاديين السلفيين بأن الانحراف عن مجتمع تحكمه بالمجمل أحكام الإسلام هو سبب تدهور العالم الإسلامي في العصر الحديث. كما يجادلون بأن الحكام “المرتدين” لا يستحقون الطاعة، بل ينبغي الإطاحة بهم من خلال الكفاح المسلح، واستبدال أنظمتهم وحدودهم المصطنعة بخلافةٍ قائمة على “المنهج النبوي” في جميع أرجاء العالم الإسلامي. وفي هذا الصدد، يعادي الجهاديون السلفيون الحركات الإسلامية مثل جماعة الإخوان المسلمين، ليس بسبب طابعهم الثوري، ولكن لأنهم حاولوا العمل ضمن الأنظمة السياسية وينظر إليهم على أنهم قدموا تنازلاتٍ غير مقبولة لمبادئهم.
وعلى صعيدٍ متصل، فقد اختلف الجهاديون السلفيون فيما بينهم حول قضايا التكتيكات وخصائص العقيدة. تشتمل الأمثلة على هذه الخلافات الداخلية حول مدى تطبيق التكفير على أولئك الذين يدّعون ارتباطهم بالإسلام، ومدى سرعة تطبيق الشريعة الإسلامية والأحكام في المناطق التي تخضع لسيطرتها، وإلى أي درجة يمكن لأي شخصٍ أن يتعاون مع الجهات الفاعلة المتمردة الأخرى ضد عدوٍ مشترك، وما إذا كان ينبغي التركيز على السيطرة على الأراضي أو متابعة حرب العصابات في موقفٍ معين، وما إذا كان من المقبول إقامة أي نوعٍ من العلاقات مع الدول في النظام الدولي التقليدي.
فقد برزت مثل هذه الإختلافات في الحرب الأهلية السورية، إذ لا يقتصر الأمر فحسب على الإنقسام الذي حصل بين تنظيم الدولة الإسلامية والقاعدة، بل أيضاً في خضم النزاعات الحاصلة بين هيئة تحرير الشام والقاعدة. فكلٌ من تنظيم الدولة وهيئة تحرير الشام تربطهما جذورٌ بالقاعدة، إلا أنهما اليوم أنهيا رسمياً ارتباطهما بالقاعدة. وفي حين يُنظر إلى تنظيم داعش على أنه يعكس الحد الأكثر تطرفاً للجهادية السلفية، إلا أن هيئة تحرير الشام كانت تميل نحو اتجاهٍ أكثر “اعتدالاً،” حيث تكيّفت مع سياق شمال غرب سوريا الذي يسيطر عليه المتمردون.