في القرن الحادي عشر، ازداد نفوذ نسل علي بن أبي طالب وبني هاشم القرشيين والشيعة في منطقة الحجاز. وضمنت ذريته السيطرة على منصب شريف مكة بالتحول من المذهب الشيعي إلى المذهب السني. وتمكن الأشراف الهاشميون، تحت حماية العثمانيين، من توسيع نطاق سيطرتهم. وكذلك تمكنوا من حكم الحجاز وأجزاء أخرى من الجزيرة العربية حتى مطلع القرن العشرين.
مقدمة
في أوائل العصر الأموي، ما بين عامي 680 و692، كان لشبه الجزيرة العربية أهمية سياسية لأنها كانت مركز خلافة عبد الله بن الزبير التي استمرت لفترة قصيرة. ولم يكن لابن الزبير نفوذ خارج شبه الجزيرة، فتغلب عليه الخليفة عبد الملك بن مروان في نهاية القرن السابع الميلادي. ولم نعرف كثيراً عن تاريخ مكة في القرون اللاحقة.
إذ تغير مركز الثقل السياسي إلى شمال الجزيرة العربية، فاستقر أولا في دمشق ثم بغداد في عهد العباسيين. ورغم أن الخليفة المعروف هارون الرشيد خرج إلى الحج تسع مرات وأنفق كثيراً من المال على مكة، ظلت أحوالها في اضطراب.
ثورة الشيعة
خرج الشيعة الذين يرجع أصلهم إلى عهد الخليفة الراشد الرابع علي بن أبي طالب في ثورات عديدة. وكان من بين أخطر هذه الثورات ثورة القرامطة الذين منعوا قوافل الحج من الوصول إلى مكة. ووصل الأمر بهم إلى حد الإغارة عليها عام 930 وارتكبوا مذبحة بحق آلاف من أهلها وسرقوا الحجر الأسود من المسجد الحرام وأخذوه إلى البحرين. وفي النهاية أعادوا الحجر الأسود، ولكن بقيت مكة في اضطراب. وقد ازدهرت مكة وشاعت فيها خلافات عن الدين وممارسات المسلمين.
وقد ذكر ابن جبير الذي خرج إلى الحج من الأندلس في القرن الثاني عشر الميلادي في وصف أسواق مكة وما تعج به من الخيرات ما يلي:
وأما الأرزاق والفواكه وسائر الطيبات فكنا نظن أن الأندلس اختصت من ذلك بحظ له المزية على سائر حظوظ البلاد حتى حللنا بهذه البلاد المباركة فألفيناها تغص بالنعم والفواكه” 1“
لكنه ذكر أيضاً من أمور البدع في الدين:
“وكان للناس في ارتقابه [الهلال] أمر عجيب، وشيء من البهتان غريب، ونُطق من الزور كاد يعارضه الجماد فضلاً عن غيره ردُّ وتكذيب؛… ومَثَلوا قياماً ينتظرون ما لا يبصرون، ويشيرون إلى ما يتخيلون، حرصاً منهم على أن تكون الوقفة بعرفات يوم الجمعة…” 2
أما المدينة المنورة فقلت فيها الاضطرابات وازدهرت نتيجة انعزالها عن الأحداث السياسية. وأصبحت مركزاً علمياً وفكرياً مهماً، واشتُهرت بالتدريس في مساجدها، وخاصة علوم الفقه. وكانت المدينة المنورة محطة رئيسية في طريق العلماء الذين يؤدون فريضة الحج، ومن أشهرهم الرحالة المغربي ابن بطوطة الذي ذكر في القرن الرابع عشر وصف المسجد النبوي بعبارات عذبة فقال:
“وكانت إقامتنا بالمدينة الشريفة في هذه الوجهة أربعة أيام، وفي كل ليلة نبيت بالمسجد الكريم والناس قد حلقوا في صحنه حلقاً وأوقدوا الشمع الكثير وبينهم ربعات القرآن الكريم يتلونه وبعضهم يَذْكرون الله وبعضهم في مشاهدة التربة الطاهرة — زادها الله طيباً — والحداة بكل جانب يترنمون بمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليما”. 3
الهاشميون
وفي القرن الحادي عشر ازداد نفوذ نسل علي وبني هاشم القرشيين والشيعة في منطقة الحجاز. وأصبح أبو الهاشم محمد (المتوفى عام 1094) شريف مكة.
أما ذريته فقد تقاتلوا فيما بينهم، ولكنهم ضمنوا السيطرة على منصب شريف مكة بالتحول من المذهب الشيعي إلى المذهب السني في أواخر القرن الرابع عشر الميلادي، وكذلك بالخضوع للسلطان العثماني سليم الأول الذي فتح مصر عام 1517م.
وتمكن الأشراف الهاشميون تحت حماية العثمانيين من توسيع نطاق سيطرتهم إلى الشمال والجنوب والسيطرة على مساحة كبيرة من نجد في وسط الجزيرة العربية. ورغم هيمنة الصراعات على تاريخ الهاشميين، تمكنوا من حكم الحجاز وأجزاء أخرى من الجزيرة العربية حتى مطلع القرن العشرين. وصار لديهم قدر كبير من الاستقلالية ونعمت الحجاز بالرخاء والازدهار فترة طويلة.
اعتمدت الحجاز على مصر لتمدها باحتياجاتها من الغذاء وخاصة الذرة، كما اعتمدت على الهند لتحصل على البضائع الأخرى وكانت ترد إليها من طريق ميناء جدة على البحر الأحمر وتخضع للرسوم الجمركية. ووفد إلى ذلك الميناء أعداد كبيرة من الحجاج كل عام، وهو ما جعله هدفاً لغارات القراصنة.
وفي القرن السادس عشر الميلادي، كان البحر الأحمر هو الجبهة الرئيسية للمواجهات البحرية بين سفن المسلمين والبرتغاليين، ووفَّر العثمانيون الحماية بإرسالهم أحد أمهر قادة البحرية وهو القرصان ورسام الخرائط الشهير بيري ريس. وكان بيري ريس قد بدأ سيرته في البحر المتوسط وتولى بعدها قيادة الأسطول العثماني في السويس بمصر. ولم يحقق بيري ريس نجاحا كبيراً أمام البرتغاليين، وأُعدم في القاهرة عام 1553 أو 1554.
وتكشف لنا الغنائم التي غنمها القرصان الإنجليزي هنري إيفري، ومعه خمسة سفن لقراصنة آخرين من سفينة تجارية ضخمة تعود إلى إمبراطور المغول في الهند عام 1695، عن حجم التجارة في البحر الأحمر في ذلك الوقت. إذ قُدِّرت الغنائم بما بين 325 و600 ألف جنيه إسترليني ( وهو ما يعادل اليوم 35.9 مليون إلى 71.9 مليون جنيه إسترليني) وإن كان من المرجح أن تلك التقديرات فيها مبالغة إلى حد ما.
1 تذكرة بالأخبار عن اتفاقات الأسفار، محمد بن أحمد بن جبير الأندلسي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الأولى، 2008، ص 92.
2 المرجع السابق، ص 131.
3 رحلة ابن بطوطة: تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار. دار إحياء العلوم – بيروت. الطبعة الأولى، 1987، ص 140.