وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

الملك فهد: عقدان من الأزمات في السعودية 1979 – 2001

شهد عام 1979 أربعة أحداث كبرى هزت الشرق الأوسط: الثورة الإيرانية، والغزو السوفيتي لأفغانستان، ومعاهدة السلام بين مصر وإسرائيل، وحادثة الحرم المكي حينما استولت جماعة من المسلحين على المسجد الحرام. وبرزت أغلب تداعيات هذه الحادثة في عهد الملك فهد، الذي تولى العرش عام 1982 بعد وفاة للملك خالد. وأرست هذه الفترة أسس الأحداث التي هزت الشرق الأوسط والمملكة في 11 سبتمبر 2001.

الملك فهد
الملك فهد بن عبد العزيز (إلى اليمين) في لقاء مع ياسر عرفات رئيس منظمة التحرير الفلسطينية في الرياض في أكتوبر 1985. SPA / AFP

الأحداث الدولية

كان على الحكومة السعودية أن تختط لنفسها نهجاً في تعاملها مع الولايات المتحدة، وتحديداً في ملف الاقتصاد (سعر النفط خصيصاً) والحروب (الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وأفغانستان، والحرب الإيرانية العراقية، والغزو العراقي للكويت).

وارتبطت الشؤون الداخلية في السعودية أيضاً بالملفات نفسها.

تدخلت السعودية، مدعومة بثروتها النفطية، في أفغانستان بتكلفة باهظة، لكن ذلك شجع الفصائل الإسلامية على تقويض شرعية الدولة وقيادتها. وأدت الحرب العراقية الإيرانية والغزو العراقي للكويت إلى حشد تحالف دولي ضخم لطرد القوات العراقية ونتج عن ذلك أن أيضاً نشر حامية للقوات الأمريكية على الأراضي المملكة. وزادت المعارضة الإسلامية داخل المملكة واشتدت حدة المعارضة السعودية في خارج البلاد لاعتراضهم على وجود “كفار” داخل السعودية.

وقعت هذه الأحداث على إثر أزمة اقتصادية عالمية، إذ أدى ارتفاع أسعار النفط في أواخر السبعينيات إلى تضخم كبير في البلدان المتقدمة، وركود عالمي، فضلاً عن انخفاض استهلاك النفط. وتفاقمت تلك الأزمة بسبب زيادة الإنتاج خارج دول الأوبك (من منطقة بحر الشمال وألاسكا وكندا على وجه التحديد). وفي الثمانينيات، انخفض سعر النفط انخفاضاً حاداً. ومن ثمّ، انخفض الناتج المحلي الإجمالي للمملكة، ولكنها ظلت ثرية بالنظر إلى قلة عدد سكانها.

أسعار النفط 1979 – 2001

سيطر الإخوة السديريون من آل سعود، ومنهم الملك فهد، على السياسة السعودية في إنتاج النفط وأسعاره، ومختلف الإشكاليات الاقتصادية المرتبطة بهذا الملف. وتعرّض غير السديريين في مجلس الوزراء إلى التهميش، وكذلك أحمد زكي يماني وزير البترول والثروة المعدنية.

وقد أراد الملك والسديريون زيادة إنتاج النفط وسعره في الوقت نفسه. لكن السوق كان مغرقاً بالنفط بالفعل. لكن يماني لم يوافق على هذه السياسة وأبدى اعتراضه على بعض صفقات النفط المعقدة التي شارك فيها السديريون، وذلك لأنّها ستغرق السوق العالمية بالنفط، ما سيؤدي إلى انخفاض السعر أكثر واهتزاز سمعة المملكة.

على الأرجح، لم يقل يماني صاحب المقولة الشهيرة المنسوبة إليه: “العصر الحجري لم ينته لأن الحجارة نفدت من العالم، وكذلك العصر النفطي لن ينتهي لنفاد النفط من العالم”، لكنه بالتأكيد ساهم في انتشارها. ولكن الملك عزله من منصبه بسبب عصيانه.

فلسطين والعلاقات مع الولايات المتحدة

أعلنت السعودية معارضتها اتفاقية كامب ديفيد لعام 1978 بين إسرائيل ومصر. وأرادت الحفاظ على الشرعية الأيديولوجية للنظام بصفتها دولة عربية وإسلامية، والإبقاء على تحالفها مع الولايات المتحدة في الوقت ذاته، فاقترحت خطة سلام عام 1981 باسم “خطة فهد“. وكانت تلك الخطة رداً على معاهدة السلام التي أبرمها السادات لخدمة مصالح مصر، ولكنها تجاهلت حقوق الفلسطينيين.

اقترحت خطة فهد انسحاب إسرائيل من جميع الأراضي التي احتلتها عام 1967، وإقامة دولة فلسطينية مستقلة في غزة والضفة الغربية عاصمتها القدس الشرقية وأن يكون ذلك أساس عملية السلام. ورغم اعتراف الخطة ضمنياً بدولة إسرائيل، فقد رفضتها الحكومة الإسرائيلية لأنّها أرادت اعترافاً صريحاً لا ضمنياً. انهارت خطة فهد في أعقاب اجتياح لبنان عام 1982 وبداية الحرب العراقية الإيرانية.

دعم العراق

كانت للحرب الإيرانية العراقية آثار اقتصادية تتعلق بمعدل إنتاج النفط وأسعاره، وهو ما ألقى بظلاله على التطور السياسي والعسكري للصراع. وتسببت الحرب في تدمير الاقتصاد العراقي. إذ انخفض الإنتاج العراقي بسرعة، وحتى عندما بدأ يتعافى، كانت السوق راكدة والإنتاج تحت هيمنة السعودية.

وقد انفجر الدين الخارجي العراقي عندما اقترض الرئيس صدام حسين بهدف تمويل النفقات العسكرية والحفاظ على البنية التحتية العراقية ودعم الخدمات الاجتماعية. وقد خشيت الحكومة السعودية أن تحرض إيران المعارضة الشيعية في المحافظات الشرقية حيث تُوجد حقول النفط. ولذلك قدّمت للرئيس العراقي قروضاً ضخمة، حتى بلغ إجمالي الدعم المالي من السعودية والكويت لحكومة العراق بحلول نهاية الحرب نحو 30 مليار دولار.

وأنفق السعوديون كثيراً من المال أيضاً على تعزيز الدفاعات وبناء القوات الجوية. وكانت الولايات المتحدة هي المورد الرئيسي، ولكن واشنطن بدأت ترفض إمداد السعودية بصفقات الأسلحة الكبرى في أواخر الثمانينيات بعد ضغط المناصرين لإسرائيل في الكونغرس الأمريكي.

مجلس التعاون الخليجي

أصبح أمن الخليج ركناً رئيسياً في سياسة السعودية عام 1981، وكانت المملكة أحد الأعضاء المؤسسين في مجلس التعاون الخليجي. وكان الغرض الرئيسي للمجلس دعم الأمن الجماعي للدول الأعضاء أمام خطر الثورة الإيرانية وغيرها من المستجدات الإقليمية. وكان التعاون الاقتصادي والسياسي جزءاً من خطط المجلس أيضاً، ولكن ذلك الكيان لم يصبح قط منظمة موحدة في ظل الخلافات والمنافسات بين الدول الأعضاء لا سيما قطر والسعودية.

أفغانستان

قاومت القوات المحلية في أفغانستان الغزو السوفيتي للبلاد وكذلك المقاتلين الإسلاميين (الأجانب) الذين ثاروا ضد غزو الشيوعيين أعداء الإسلام بحسب رؤيتهم. وخرجت أول دعوة للجهاد ضد القوات السوفيتية عام 1980. وعلى مدار العشر سنوات اللاحقة، ذهب إلى أفغانستان نحو 25 ألف مقاتل مسلم أجنبي من بلاد مثل مصر والجزائر وليبيا واليمن والأردن وباكستان والعراق ووسط آسيا وشرقها، وكان عدد كبير من أولئك المقاتلين من السعودية.

ولاحظ المقاتلون الأجانب رابطاً بين غزو أفغانستان واحتلالها من جهة، والأوضاع القائمة في بلادهم من جهة أخرى. لذلك شرعوا ينشرون فكرة الجهاد عندما عادوا إلى أوطانهم. وبعد اكتساب الخبرة العسكرية، كانت أفغانستان لأولئك الجهاديين بمنزلة معسكر تدريب.

ظلّت فلسطين قضية مهمة عند السعودية، ولكنها لم تعد القضية الوحيدة. ورأت المملكة أن بإمكانها تولي زعامة الحرب في أفغانستان من دون المخاطرة بالتحالف مع الولايات المتحدة. فقدّمت الحكومة أموالاً طائلة للمجاهدين، وكذلك فعل بعض الأثرياء السعوديين. كما أرسلت مليارات الدولارات سراً لكل من المجاهدين الأفغان والأفغان العرب. ولم يكن المجاهدون الأفغان يحبون المقاتلين الأجانب، لكن وجودهم ساهم في تدفق الأموال من السعودية.

أسامة بن لادن (يمين) يجلس مع ابنه محمد (وسط) 19 عاماً ومعه أحد مساعديه المقربين محمد عاطف (يسار) والمعروف أيضاً باسم أبو حفص المصري في أثناء حفل زفاف محمد على ابنة عاطف، 14 عاماً، بقندهار في أفغانستان في 9 يناير 2001. أُخذت تلك الصور من مقطع مصور بثته قناة الجزيرة.

وتضمنت حركة الجهاد كثيراً من المواطنين السعوديين والمقيمين فيها وهيمن عليها ثلاثة رجال منهم. الأول هو عبد الله عزام، وهو فلسطيني درس الفقه في دمشق والقاهرة ثم درّسه في جدة. والثاني هو أسامة بن لادن سليل إحدى أثرى العائلات السعودية المقربة من العائلة المالكة.

وقضى بن لادن طفولته في رغد ودعة، ثم درس في جدة. ويقال إن عزام كان أحد أساتذته. والثالث هو أيمن الظواهري الذي خرج من الحركة الإسلامية في مصر وذهب إلى السعودية عقب اغتيال السادات عام 1981.

ذهب عزام إلى أفغانستان بصفته الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي وهو منظمة إغاثية تمولها السعودية وباكستان. ولحق به بن لادن عام 1981، وساهم في العام التالي في تأسيس وتمويل مكتب الخدمات، وهي منظمة كانت تعمل على استقبال وتنظيم المتطوعين في الحرب الأفغانية. وحين انضم بن لادن نفسه إلى القتال عام 1986،

شاعت عنه جرأته في المعارك. أما الظواهري، فذهب إلى بيشاور عام 1986. وفي أغسطس 1988، أسس الثلاثة تنظيماً جديداً باسم القاعدة لتكون طليعة لثورة إسلامية عالمية تؤسس دولة إسلامية عالمية تتجاوز القوميات.

وعقب الانسحاب السوفيتي عام 1989، سعت حكومة المجاهدين الجديدة في كابول إلى التخلص من الأفغان العرب. وعلى المستوى الحكومي، واصلت السعودية تقديم المساعدات لأفغانستان حين خفضت الولايات المتحدة دعمها. وعاد بن لادن إلى السعودية عام 1990 في صورة البطل المجاهد الذي هزم الأفغان. ولم يمر وقت طويل حتى اختلف مع النظام السعودي.

غزو الكويت

في عام 1990، اجتاح الجيش العراقي الكويت اجتياحاً مباغتاً لم يحظ بدعم الشعب العراقي ولا جيش صدام نفسه الذي رأى أن انعدام الولاء سيطر على قواته. ولو تمهل صدام، لأصبح العراق أقوى عسكرياً. وبعد الحرب،

خلص فريق من المفتشين إلى أن العراق أصبح على وشك صنع قنبلة نووية. وفي الوقت نفسه، تتابع سقوط الأنظمة الاستبدادية في شرق أوروبا، وأصبح صدام المفلس في قلق وخوف من انقطاع دعم الاتحاد السوفيتي وأن وقت نظامه قد أزف.

كان العراق مديناً بنحو 80 مليار دولار نصفها لدول الخليج خاصة الكويت والسعودية. وفي ظل ارتفاع التضخم وتزايد البطالة والتفاوت الاقتصادي، رأى صدام أن رفض الكويت التفاوض بشأن القروض يزعزع استقرار البلاد. ولأول مرة منذ تأسيس المملكة العربية السعودية،

صار على حدودها عدو قوي. لذلك سمح الملك فهد لنحو نصف مليون جندي من القوات الأجنبية بالدفاع عن البلاد، ولا سيما حقول النفط في المنطقة الشرقية، وسعياً إلى تسهيل بدء الهجوم المضاد بقيادة الولايات المتحدة.

اللواء خالد بن سلطان آل سعود قائد القوات العربية المشتركة، واللواء الأمريكي نورمان شوارتسكوف يبحثان وقف إطلاق النار مع جنرالات الجيش العراقي في أثناء عملية عاصفة الصحراء في 3 مارس 1991. لم توفر السعودية القواعد للتحالف الذي تقوده الولايات المتحدة من أجل الهجوم على العراق عام 1991 فحسب، بل شاركت عسكرياً بشكل رسمي. كان الأمير سلطان والد خالد أحد أبناء عبد العزيز آل سعود وولياً للعهد من عام 2005 حتى 2011. © DoD / Roger-Viollet / Roger-Viollet via AFP

تسببت تكلفة الحرب الباهظة في تقويض قدرة الحكومة السعودية الخاصة بخطط الدعم الاجتماعي والاقتصادي. وتبع ذلك انخفاض في مستوى المعيشة وزيادة معدلات البطالة وتبخرت أحلام الشباب من الطبقة الفقيرة والشرائح الدنيا من الطبقة الوسطى. وكان وجود جيوش الأجانب “الكفار”، بما في جنودهم من نساء، يُعد في نظر الناس طعناً في رجولتهم وكرامتهم. وأثار كل ذلك غضب الأصوليين، وطرح السؤال عن الشرعية الإسلامية للملكية السعودية.

وحين أفتى كبار علماء الدين السعوديين بأنّ دخول القوات الأمريكية ليس مخالفاً للشريعة، ساهم ذلك في تقويض شرعية النظام أيضاً، وهاجمهم بعض العلماء الأصغر سناً في بيان أرسلوه إلى الملك في مايو 1991 عُرف باسم “خطاب المطالب”. وطالبوا بدولة تتبع صحيح الإسلام اتباعاً كاملاً،

وأن يكون القضاء مستقلاً عن سلطة الدولة مع التزام القانون بالشرع، فضلا عن القضاء على الفساد الإداري والتوقف عن ممارسة الربا في النظام المصرفي. وفي مايو 1993، أُسست لجنة الدفاع عن الحقوق الشرعية لتصبح أول منظمة لحقوق الإنسان في السعودية.

وجاء رد الحكومة السعودية مزيجاً من القمع والاحتواء. وكان القمع من نصيب حركة الأقلية الشيعية وجناحها السياسي المتمثل في “منظمة الثورة الإسلامية في شبه الجزيرة العربية”. واستعمل دعاة الوهابية المقربون من النظام خطاباً طائفياً ضد الشيعة،

كما حُظر الاحتفال بيوم عاشوراء ومُنع أذان الصلاة للشيعة. وأسست الحكومة “مجلس الشورى” الذي كان منفصلاً عن العائلة الملكية. وتكوّن المجلس من التكنوقراط ورجال الأعمال والحكومة. وبعد ذلك قطعت الحكومة حركة التمويل من الإسلاميين في الداخل إلى الإسلاميين في الخارج، وجردت بن لادن عام 1994 من الجنسية السعودية ليفر إلى الخرطوم ومنها إلى أفغانستان ضيفاً مُكرماً على حركة طالبان الحاكمة.

وفي أفغانستان عام 1996، أصدر بن لادن وأنصاره بياناً لإعلان الحرب على قوات الولايات المتحدة التي تحتل “أرض الحرمين الشريفين”. وروّج التنظيم لحرب إسلامية ضد عدو عالمي ونوع من القومية العربية التي تؤكد على نقاء أرض الجزيرة العربية وادعى أن عائدات النفط حق لأهلها. وفي ظل ارتفاع البطالة، وانخفاض أسعار النفط وزيادة الديون، لجأت الحكومة إلى القمع، فسجنت كثيراً من الإسلاميين وراقبت أنشطتهم. ووقع هجومان عامي 1995 و1996 فكانا بمثابة إنذار بمستقبل حافل بالمخاطر.

ووقعت القيادة السعودية في مأزق مماثل خلال السبعينات والثمانينات، إذ صنّفت نفسها دولة إسلامية، لكنها احتاجت إلى مساعدة الولايات المتحدة. بعد الغزو العراقي للكويت عام 1990، وقّعت السعودية عدداً من العقود الكبرى لشراء أنظمة تسليح أمريكية، لكن الأمير نايف وزير الداخلية آنذاك انزعج من فكرة أن المملكة قد صارت “في نظر العالم العربي بيدقاً في يد الولايات المتحدة منذ حرب الخليج عام 1991”.

ومع ذلك رأت الحكومة أنّها ما تزال في حاجة إلى كميات كبيرة من الأسلحة. ولكن بحلول منتصف التسعينيات من القرن الماضي، كانت المملكة قد أُنهكت من ديون حرب الخليج وانخفاض أسعار النفط، فحدّ ذلك من قدراتها المالية. وساءت العلاقات مع الولايات المتحدة بعد انهيار عملية السلام الإسرائيلية الفلسطينية في سبتمبر عام 2000، فاختفى شعور الجانبين بالمصلحة المشتركة التي بدأت بينهما منذ زمن الحرب الباردة.

ستكون هجمات الحادي عشر من سبتمبر على الولايات المتحدة نقطة محورية وفاصلة للمملكة العربية السعودية ولها تداعيات محلية وعالمية. فقد شارك في تلك الهجمات 15 رجلاً سعودياً من أصل 19 رجلاً. وصحيح أن الولايات المتحدة لم تلق باللوم على السعودية بعد الهجمات، ولكن نالها كثير من الانتقادات على اعتبار أنّها مصدر الإرهاب العالمي بسبب التعليم الديني في المملكة وشبكة التمويل التي تدعمها بحسب رأي المنتقدين. وأعقب تلك الأحداث بروز مطالب بالإصلاح والتغيير من داخل المملكة.

Advertisement
Fanack Water Palestine