في العصور القديمة، قبل تأسيس المملكة العربية السعودية بقرون طويلة، كانت بيئة شبه الجزيرة العربية قاسية جافة. وكان موقعها بين حضارتين عظيمتين. ورغم النشاط التجاري والديني في المنطقة، لم تقم فيها دولة واحدة جامعة تضمن الأمن والسلام. ولكن ذلك تغير مع دعوة النبي محمد إلى الإسلام.
شبه الجزيرة العربية
ظهر الإسلام الذي يعد أحد أكبر الديانات التوحيدية في التاريخ في شبه الجزيرة العربية، ولكن الإسلام لم يظهر في هذه الصحراء من دون أن يكون له جذور تاريخية. إذ نزل الوحي على محمد برسالة جديدة، ولكنها جاءت لتعيد التأكيد على أفكار ومبادئ لها جذورها منذ قديم الزمان. وشرع النبي محمد في نشر تلك الرسالة في مجتمع يعيش في بيئة مقفرة.
كانت بيئة شبه الجزيرة العربية قاسية جافة، وكان موقعها بين حضارتين عظيمتين: في الشمال يقع الهلال العظيم الممتد من البحر المتوسط مروراً ببلاد ما بين النهرين وحتى بلاد فارس، وفي الجنوب ممالك أصغر على ساحل بحر العرب. وفي أوائل القرن السابع الميلادي، وقعت المنطقة تحت سيطرة إمبراطوريتين أنهكتهما الحرب وهما الإمبراطورية البيزنطية وفارس، وتبع كلتيهما حزام من الممالك الصغيرة في الصحراء.
وفي أقصى الجنوب الغربي من شبه الجزيرة، تقع منطقة جبلية حاول الرومان غزوها عام 25 قبل الميلاد وأطلقوا عليها اسم “بلاد العرب السعيدة” وهي المنطقة التي نسميها اليوم اليمن.
الإمبراطوريتان البيزنطية والفارسية في القرن السابع ميلادي
Source: Fanack, after Getoryk, “Byzantine & Persian Empires in the 7th Century.” World History Encyclopedia. World History Encyclopedia, 17 Nov 2019.
يشير وصف “السعيدة” إلى الرخاء والوفرة في الموارد المائية التي كان اليمن يتمتع به على عكس سائر الجزيرة العربية. ولم يكن بالمنطقة نهر يجري، لكن كان النشاط الزراعي ممكناً بفضل الأمطار الوفيرة، إذ انتشرت الزراعة بسبب الأمطار الموسمية وبفضلها استقر عدد كبير من الناس في الوديان الجبلية.
وبحلول القرن الثامن قبل الميلاد قامت أربع ممالك كبيرة في اليمن، وبعد قرن هيمنت إحداها وهي مملكة سبأ على الممالك الباقية. وتمركزت مملكة سبأ عند سد عظيم هو سد مأرب الذي أُسس لتخزين مياه السيول الموسمية وسهَّل ري الأراضي وأتاح الزراعة والحصاد ثلاث مرات في العام. وقد نشأت مملكة سبأ في القرن الثامن قبل الميلاد، واستمر عهدها حتى سقطت في القرن السابع الميلادي. وكان مصيرها الهلاك الذي بيّن القرآن في سورة سبأ أنه عقاب لأهلها على كفرهم بالله:
لَقَدۡ كَانَ لِسَبَإٖ فِي مَسۡكَنِهِمۡ ءَايَةٞ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٖ وَشِمَالٖ كُلُواْ مِن رِّزۡقِ رَبِّكُمۡ وَٱشۡكُرُواْ لَهُۥۚ بَلۡدَةٞ طَيِّبَةٞ وَرَبٌّ غَفُورٞ(15) فَأَعۡرَضُواْ فَأَرۡسَلۡنَا عَلَيۡهِمۡ سَيۡلَ ٱلۡعَرِمِ وَبَدَّلۡنَٰهُم بِجَنَّتَيۡهِمۡ جَنَّتَيۡنِ ذَوَاتَيۡ أُكُلٍ خَمۡطٖ وَأَثۡلٖ وَشَيۡءٖ مِّن سِدۡرٖ قَلِيلٖ (16)
كان المجتمع في سبا مركّباً يستخدم لغة مكتوبة متطورة للغاية. ويُعتقد أن سبأ هي شيبا التي ورد ذكر ملكتها في الإنجيل، رغم أن بعض الدلائل تشير إلى أن الملكة نفسها ترجع أصولها إلى منطقة أخرى في الشمال. ويُعتقد أن المملكتين هما نفس المملكة لأن مملكة سبأ كانت مملكة غنية بكل تأكيد.
وفي الألفية الثانية قبل الميلاد، ازدهرت تجارة البخور القيّمة بين اليمن والشام. وسيّر التجار قوافل من الجمال يمكنها قطع مسافات كبيرة في الصحراء حاملة بضائع كثيرة. وكانت القوافل تستريح في الواحات على الطريق التي تحولت بمرور الوقت إلى مدن صغيرة من بينها مكة ويثرب.
ولقد قامت إمبراطوريتان عظيمتان في شمال شبه الجزيرة العربية. فكانت الإمبراطورية البيزنطية في جهة الشمال الغربي، وهي القسم الشرقي من الإمبراطورية الرومانية القديمة، وعاصمتها القسطنطينية. وفي الشمال الشرقي كانت الدولة الساسانية. وكانت كلا الإمبراطوريتين في حالة حرب شبه مستمرة أضعفتهما، وكان لهما اقتصاداً قوياً غنياً ونجحا في السيطرة على أراضي الهلال الخصيب.
وامتد الهلال الخصيب من الساحل الشرقي للبحر المتوسط عند ما يُعرف الآن بلبنان وفلسطين وسوريا، وحتى بلاد ما بين النهرين. وكانت تلك هي المنطقة الوحيدة التي تسقط فيها أمطار غزيرة بخلاف اليمن.
وتمثل بلاد ما بين نهري دجلة والفرات قلب العراق الحالي. وكانت تخضع في تلك الفترة للإمبراطورية الساسانية وعاصمتها طيسفون التي لا تبعد كثيراً عن بغداد. وامتدت الإمبراطورية نحو الشرق عبر بلاد فارس وصولاً إلى ما نعرفه اليوم بباكستان وأفغانستان. كما امتدت أراضيها لتشمل الساحل الشرقي للخليج العربي وتضم ما نعرفه اليوم بالكويت والإمارات. ويحد الجزيرة العربية من جهة الغرب البحر الأحمر يحد وكان يخضع حينها لهيمنة الإمبراطورية الفرعونية في مصر ومملكة الحبشة المسيحية في الجنوب.
ولم تكن شبه الجزيرة العربية نفسها أكثر من صحراء قاحلة، ومع ذلك لم تخل من أناس استوطنوا أرضها. إذ كان يعيش بها البدو الرحالة ونشأ في واحاتها بعض المستوطنات الصغيرة، وعلى شريط من الواحات بطول الساحل الشرقي للبحر الأحمر في منطقة عُرفت باسم الحجاز، ومن بين تلك المناطق الطائف ويثرب (التي عرفت بعد الإسلام باسم المدينة) ومكة ووادي القرى وتبوك التي اعتمدت على المياه الجوفية في زراعة محدودة. واستقر الناس أيضاً على طريق قوافل التجارة بين اليمن وفارس والإمبراطورية البيزنطية، وكذلك على طرق التجارة مع الحبشة في الجزء الجنوبي من البحر الأحمر.
وعلى الساحل الشرقي لشبه الجزيرة العربية، اتصلت بعض المستوطنات الصغيرة الخاضعة للإمبراطورية الساسانية بطرق التجارة في الخليج. وضم شمال شبه الجزيرة العربية مدناً صغيرة كالبتراء التي تقع اليوم في الأردن، ومدائن صالح التي تقع اليوم في السعودية، ويضم كلاهما مقابر أثرية ذات واجهات مزخرفة ومنحوتة في الصخور. وتأسست المدينتين في زمن الحضارة النبطية (القرن الأول قبل الميلاد إلى القرن الأول الميلادي).
كما تضم البتراء مساكن ومبان إدارية منحوتة في الجبال بجانب المقابر. وتمكنت المدينة بفضل الدفاعات الحصينة من السيطرة على طرق التجارة عبر الصحراء. ومع بداية القرن الأول الميلادي تحالفت البتراء مع الدولة الرومانية، وبذلك أفل نجم البتراء تحت الحكم الروماني، لعدة أسباب من ضمنها انتقال التجارة إلى الطرق البحرية.
التفاعل الديني
اختلط أهل شبه الجزيرة العربية بغيرهم من المجتمعات عبر التجارة، وكان ثمة احتكاك ثقافي على نطاق أوسع، وخاصة على المستوى الديني. فبعد سقوط الدولة اليهودية استقر اليهود في بعض أجزاء شبه الجزيرة العربية. وتركزت أبرز المجتمعات اليهودية في يثرب ووادي القرى. كما نشأ في خيبر مجتمعاً تجارياً بارزاً وكانت تيماء بمثابة حصن يهودي.
وقد استقر بعض المسيحيين في يثرب وفي جنوب شبه الجزيرة العربية. وترجع المسيحية لنفس الأصول التوحيدية اليهودية، ولكنها لم تقتصر على قوم دون غيرهم. ويُقال إن مرقس الرسول أدخل المسيحية إلى مصر عندما أنشأ أول كنيسة في الإسكندرية. ورغم اضطهاد الإمبراطورية الرومانية البالغ للمسيحية، صارت المسيحية الديانة الرسمية للإمبراطورية في عهد الإمبراطور ثيوديسيوس (347-397).
وما لبث المجتمع المسيحي أن انقسم إلى طوائف مختلفة بسبب رؤيتهم لطبيعة الرب. وكانت الاختلافات اللاهوتية غاية في التعقيد لكنها تحولت إلى مبادئ لتعريف الهوية. ونتيجة لذلك، أصبحت المسيحية في مصر التي اعتبرت الإله ذو طبيعة إلهية واحدة (أُطلق عليها عقيدة “الطبيعة الواحدة”)، على خلاف مع المسيحية التي تقول بأن الإله ذا طبيعة ثنائية في الإمبراطورية البيزنطية، فالمسيح في اعتقادهم له طبيعتان هما اللاهوت والناسوت.
انتشرت المسيحية في الجزيرة العربية بطرق عدة مثل التجارة بين الشام وفارس، وعن طريق البعثات التبشيرية التي أرسلها قسطنطين، كما عُرفت بين الناس عبر أتباع الكنيسة الواحدة الهاربين من الاضطهاد داخل الإمبراطورية البيزنطية، بخلاف الحروب بين بيزنطة وفارس.
أما في جنوب غرب الجزيرة العربية، فقد تطورت ديانة مملكة سبأ من ديانة تعددية تعبد عدة أجرام سماوية (الشمس والقمر ونجم الزهرة) إلى ديانة توحيدية تعبد إلها سماوياً رحيماً وكانت منفصلة بجلاء عن المسيحية واليهودية رغم أن اليهود والمسيحيين عاشوا في تلك المنطقة. كما انتشرت ديانة عربية توحيدية أخرى عُرفت بدين الحنيفية في القرآن والنصوص الإسلامية الأولى.
ورغم شيوع الديانات التوحيدية في الجزيرة العربية، دخل كثير من أهل المنطقة في ديانات تعددية تؤمن بآلهة كثيرة وانتشر أتباعها في صحراء الجزيرة، وعُثر مثلاً على تماثيل للعزى في البتراء والبحرين وجنوب الجزيرة العربية في صور بشرية مختلفة.
اعتبرت أبرز الديانات في الجزيرة العربية أن ثمة أماكن بعينها ذات قداسة متفردة. وتركزت هذه الأماكن في مدن الحجاز وكان من بينها الطائف، التي كان بها تمثال لإله عرف باسم اللات، وكذلك نخلة التي كان بها تمثال العزى. أما مكة صاحبة الهيمنة الاقتصادية ففيها الكعبة وبداخلها وضعت تماثيل تشير إلى آلهة القبائل المختلفة.
كما انتشر حول مكة عدد من الأماكن المقدسة مثل عكاظ وذو المجاز والمجنة وعرفات ومِنى. وأصبحت جميعها أماكن للحج حُرم فيها القتال في موسم الحج. وأصبحت هذه البقع المقدسة أساساً لازدهار التجارة فضلا عن مكانتها الدينية.
ورغم النشاط التجاري والديني في المنطقة، لم تقم فيها دولة واحدة جامعة تضمن الأمن والسلام. وشكلت العصبية القبلية الأساس الذي قام عليه المجتمع. وتأسست القبائل على أساس صلة القرابة، إلا أن ولاء الرجال الأول دائماً ما كان لأقرب الأقربين ثم العشيرة فالقبيلة. وكانت هذه الشبكة الاجتماعية المتداخلة هي مصدر الحماية الوحيد من خطر الاعتداء أو الإهانة.
وكان مفهوم الانتقام الجماعي يعني أن الجماعة تنتقم لأعضائها الذين قتلهم أحد أفراد قبيلة أو عشيرة أخرى. ورغم شيوع المساواة داخل القبيلة أو العشيرة الواحدة، كان لبعض الجماعات قدر من الوجاهة والنفوذ أكبر من غيرها، وهيمنت القبائل القوية على القبائل الأضعف.
وفي مكة، صار اجتماع الحرم وحركة التجارة وروابط العصبية القبلية معاً هو الأساس الذي قام عليه النمو والازدهار، رغم أن مكة كانت في موقع منعزل للغاية لا زرع فيه إلا قليل.
النبي محمد والدعوة إلى الإسلام
سيطرت قبيلة قريش في القرن السادس الميلادي على طرق التجارة الغنية من خلال بناء شبكة من التحالفات تربط بين الشام واليمن، ومكّنها ذلك من السيطرة على تجارة التوابل والذهب بين الجنوب والشمال. وعقد القرشيون تحالفات مع مختلف القبائل في الجزيرة العربية وضمنوا بذلك حرية الحركة للقوافل التجارية.
يمثل بنو عبد مناف أحد أهم بطون قريش ومنهم خرج عبد شمس وهاشم، وقد أصبح سليل هاشم أبو القاسم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم الذي وُلد عام 570 ميلادياً هو نبياً لدين الإسلام. ولم يكن في السنوات الأربعين الأولى من حياته من أشراف قريش، بل كان يتيماً بعدما تُوفي أبوه قبل أن يولد وتُوفيت أمه وهو في السادسة من عمره.
كما تُوفي جده عبد المطلب وهو في الثامنة من عمره، ورباه عمه أبو طالب. وتولى في شبابه إدارة تجارة أرملة ثرية اسمها خديجة. وكان ناجحاً في إدارتها ثم تزوج من خديجة وهو يصغرها بخمسة عشر عاماً وكانت أول زيجة له. وأنجب محمد منها ثلاث بنات ولم يبق له على قيد الحياة أي أولاد من الذكور ليشهد بعثة الإسلام. وصارت إحدى بناته وهي فاطمة أساس نسله المباشر الذين خلفوه في قيادة المسلمين.
ونحو عام 610 عندما بلغ محمد الأربعين، نزل عليه الوحي بأول كلام الله من سورة العلق:
“اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)”
وتضمنت هذه الآيات نقطتين: وجود إله واحد إليه ينسب خلق العالم وأنه قبل نزول الوحي كانت البشرية تعيش في ظلمات الجاهلية. وأكد الوحي في الآيات التي أعقبتها على جلال الله وقدرته ورحمته، وأن الناس رجال ونساء عليهم أن يعملوا الصالحات، وأن يحسنوا إلى الضعيف ويتركوا الحرص على متاع الدنيا الذي لا نفع له يوم القيامة حين يُحاسب الناس فرادى على أعمالهم. وجاءت هذه التعاليم الأخلاقية إلى جانب تعاليم عقائدية.
وجاء محمد خاتماً للرسل الذين أرسلهم الله من أول آدم وإبراهيم إلى موسى وعيسى. وكلهم كانت دعوتهم إلى عبادة إله واحد يمثل الشرك به أعظم الذنوب. وأكدت الرسالات الأولى على أن البشر يواجهون خياراً أخلاقياً؛ إما أن يعبدوا الله وإما أن يعرضوا عنه ويشغلوا أنفسهم بالحياة الدنيا. وبيّنت الرسالة أن الناس سواء لا يزكيهم عند الله إلا التقوى، وأن الصلاة عماد الدين.
دولة جديدة
لم يتبع محمداً في البداية سوى مجموعة صغيرة. كان أول من آمن به خديجة، لكن كان ذلك أكبر من مجرد تضامن مع زوجها. إذ ورد في الأخبار أن كثير من أفراد عائلتها كانوا موحدين من أتباع الحنيفية و المسيحية. كما آمن به عدد من أفراد عائلته الأكبر مثل ابن عمه علي بن أبي طالب، الذي تزوج فاطمة بنت الرسول فيما بعد، وغيره من بني هاشم. وكان أبو بكر هو الوحيد من أوائل المؤمنين بمحمد من خارج عشيرته. وكانت أواصر العشيرة هي ما وفر الحماية للمؤمنين الجدد.
ورغم أن الإسلام جاء برسالة سلام، لم يرض كثير من أهل مكة بدعوة هذا الدين. إذ لم تكن الوحدانية الصارمة في الرسالة والحديث عن الحياة الآخرة ويوم الحساب تتفق مع ما يعبدون من الأوثان التي ملأت الكعبة. وهددت التعاليم الأخلاقية في الرسالة الجديدة المكانة الاقتصادية للنخبة، كما أمر محمد كل من اتبعه بنبذ العصبية للقبيلة.
وفي الأيام الأولى للبعثة هاجم الناس المسلمين الأوائل، وكانوا يضيقون عليهم في صلاتهم ويسخرون من تعاليم محمد، ولكنه امتنع عن الرد بالعنف وأمر بعض المسلمين بالهجرة إلى الحبشة حيث استجاروا بملكها المسيحي. ولا ينفي ذلك أن بعض المسلمين الأوائل كانوا مقاتلي ذوي هيبة. وكان أبو طالب مثلاً أحد زعماء قريش ولم يُسلم، ولكنه أجار ابن أخيه وابنه وغيرهما من أبناء عمومته الذين أسلموا.
طلب محمد العون من خارج مكة ووجده في يثرب، حيث وجد فيها من يعد بالدفاع عن الدعوة. وفي عام 622، هاجر محمد وكثير من أتباعه من مكة إلى المدينة. وأذَّنت هجرته ببدء مرحلة جديدة في تاريخ الإسلام، إذ شكلت مجموعة صغيرة من المسلمين نواة الدولة الجديدة.
وسميت يثرب بمدينة الرسول (أو المدينة) وأصبحت سنة الهجرة بداية للتقويم الهجري. وتحول مفهوم الوحدانية إلى مشروع سياسي بجانب كونه دعوة دينية. وأرسى محمد أركان قوته في المدينة وتغلب على أعدائه ومنهم قريش في مكة، كما استوعب في دعوته القبائل البدوية في الصحاري والجبال المحيطة. واستغرقت هذه التطورات نحو ثماني سنوات.
ومع انتصار أتباع محمد على خصومهم في مكة -وإن وقعت بعض الهزائم-، حصد المسلمون الغنائم وقويت شوكتهم وبدأ أهل المدينة يسيطرون على طرق تجارة مكة. وكان كثير من زعماء مكة على استعداد للصلح، ومنهم أبو سفيان أحد أهم زعماء بني أمية. فتزوج محمد من ابنته وانعقد بينهما تحالف.
وفي موسم الحج عام 629م، زحف محمد نحو مكة فدخلها من دون مقاومة، وحطم الأصنام التي كانت حول الكعبة ولم لم يتعرض لأهل مكة ولا لممتلكاتهم، ولم يُرق دماء الناس. وبعد وقت قصير دخل معظم خصوم النبي في الإسلام، فأرسى ذلك أساس الدولة الإسلامية الوليدة. وفي العامين التاليين بسط النبي سيطرته على باقي الجزيرة إما بالقتال وإما بالمعاهدات.
انقطع الوحي بوفاة النبي عام 632 ميلادية. وكانت مهمة الخلفاء من بعده مهمة سياسية وعسكرية وتتلخص في حماية الدولة الوليدة ولا يمتد دورهم إلى مسألة القيادة الدينية. ولم يُسمي النبي خليفة من بعده، ولكنه أوصى باختيار خليفته من بين أبرز أصحابه. وكان من بينهم علي بن أبي طالب زوج ابنته فاطمة. وادعى أتباع علي لاحقاً أن النبي أوصى له بالخلافة فكانت هذه الواقعة هي نواة ظهور الإسلام الشيعي.
اتفق كبار الصحابة على واحد من أوائل المسلمين فاختاروا أبي بكر وبايعوه لقيادة الدولة بعد وفاة النبي ولُقِّب بخليفة رسول الله. وكانت أولى مهامه هي مواجهة أكبر خطر تعرضت له الدولة الإسلامية الوليدة. فبعد وفاة النبي نقضت كثير من القبائل تحالفاتها، بل وارتدت عن الإسلام نفسه. وقضى أبو بكر فترة حكمه القصيرة في إخماد هذا التمرد وإعادة توحيد الجزيرة العربية. كما أطلق حملات عسكرية ضد الإمبراطوريتين الساسانية والبيزنطية في شمال الجزيرة.
وجاء من بعد أبي بكر خليفتان كانا من أشراف مكة قبل الإسلام وهما عمر بن الخطاب (تولى الخلافة بين 634م إلى 644م) ثم عثمان بن عفان (تولى الخلافة بين 644م إلى 656م).
وشرعا في إرسال حملات عسكرية إلى الشمال لتوسيع رقعة الإسلام. وفتح المسلمون الشام الذي كان جزءً غنياً يسهل فتحه من الإمبراطورية البيزنطية، وفتحوا العراق أيضا وكان ذلك أصعب وأشد، ثم عمدوا إلى مصر وفتحوها وكان فتحها هدفاً شخصياً للقائد العربي عمرو بن العاص.
وفي الوقت نفسه، لم يتخل شيعة علي عن المطالبة بتوليه للخلافة ودعمهم في ذلك أوائل مسلمي المدينة. وبعد مقتل عثمان بن عفان على يد عبد فارسي، انتقلت الخلافة أخيراً إلى علي بن أبي طالب. وحين قُتل علي عام 661م، اندلعت فتنة بين المسلمين.
لُقب الخلفاء الأربعة الأوائل بالخلفاء الراشدين بسبب صفاتهم وحسن حكمهم. لكن بعد وفاة علي بن أبي طالب، استقرت الخلافة في بيت بني أمية بالتوريث حتى أخذها العباسيون عام 749م حتى عام 1258. وقد اتخذ الأمويون من دمشق مقراً للحكم، بينما اتخذ العباسيون بغداد عاصمة لدولتهم. وهكذا، أخذ المركز السياسي للدولة الإسلامية يبتعد عن شبه الجزيرة العربية، إلا أن مكة والمدينة ظلت لهما مكانة دينية بارزة، وبقيت العربية لغة التعليم في دول المسلمين.