المقدمة
كانت الحمّامات الساخنة العامة إحدى سمات الحياة البشرية منذ القدم، أي حوالي 2500 قبل الميلاد، وبحلول عام 300 قبل الميلاد أصبحت جزءاً أساسياً من الحياة في الإمبراطورية الرومانية. ومع ذلك، يُمكن القول أن مكانتها الشعبية في الثقافة اليوم عززها، كما يُقال، استخدام الإمبراطورية العثمانية للحمامات في الوضوء.
الاستحمام بشكلٍ جديد
على عكس الرومان، الذين كان الاستحمام بالنسبة لهم في جوهره نشاطاً اجتماعياً، والذي غالباً ما كان ينطوي على حماماتٍ مركزية يمكن أن تخدم في بعض الحالات الآلاف يومياً، كان لدى العثمانيين رؤية محلية للحمامات. فقد كانت تنتشر الحمامات التركية، مدفوعةً بشكلٍ أساسي بتأكيد الإسلام على النظافة، لا سيما قبل كل فرض صلاة يومياً، في جميع أرجاء المدينة. وبالمثل، غالباً ما توجد الكثير من أبنية الحمامات القديمة هذه التي بقيت على حالها حتى يومنا هذا بالقرب من المساجد المحلية.
وفي حين احتوت الحمامات الرومانية على بركة مياهٍ راكدة وباردة يقوم الناس بغمر أنفسهم بالكامل داخلها، اعتبر الأتراك هذا التقليد استحماماً بالقذارة، وبالتالي فضلوا تنظيف أنفسهم باستخدام أوعيةٍ من المياه الجارية، والتي غالباً ما كانت تصل مباشرةً إلى غرف الحمامات. كما اختلفت الحمامات التركية عن شبيهتها الرومانية في أحد الجوانب المهمة، ففي حين أن الرومان بدأوا عادةً طقوس الاستحمام بغمر أنفسهم بالمياه بالغرفة الباردة، بالنسبة للتقاليد التركية، كان الغطس في المياه الباردة وسيلةً للشفاء. فقد استخدم الرومان بركة من الماء البارد، ولكن نظراً لأهمية النظافة في طقوس الحمام التركي، كان يفضل الأتراك استخدام المياه الجارية.
فقد كانت الحمامات العامة لا تزال سمةً من سمات الحياة البيزنطية بعد اختفاء الإمبراطورية الرومانية ومع توسع العالم الإسلامي، من القرن السابع الميلادي إلى أوج الإمبراطورية العثمانية، حيث أصبحت النسخة العثمانية من هذه الحمامات جزءاً أساسياً من الحياة اليومية. وكحال الرومان من قبلهم، فإن الحاجة إلى الحفاظ على الحمامات المجهزة تجهيزاً جيداً بالمياه العذبة كان يستلزم من العثمانيين تطوير إبداعاتٍ في مجال الهندسة والاستثمار المعماري. فقد كانت القنوات وأنظمة توصيل المياه جزءاً أساسياً من المدن العثمانية العظيمة في اسطنبول ودمشق.
وفي حين كانت الحمامات مرافق وظيفية، إلا أنها لم تكن كياناتٍ معمارية عابرة. فمن المعروف أن بعض المهندسين المعماريين الأكثر شهرةً واحتراماً في التاريخ التركي قاموا ببناء الحمامات. فقد قام المعماري العثماني العظيم، معمار سنان آغا، ببناء العديد من الحمامات التي لا تزال قائمةً إلى يومنا هذا في اسطنبول: حمام تشمبرليتاش، وحمام السلطانة حُرم، وحمام الحسكة.
وعلى هذا النحو تتمحور العلاقة بين الصلاة والوضوء بالحمامات التي غالباً ما تم بناؤها كجزءٍ من مجمعات المساجد. فقد سمح ذلك للمتدينيين بالاغتسال قبل كل صلاة يومياً ولربما على نحوٍ أكثر شمولاً يوم الجمعة، وهو يومٌ مقدسٌ لدى المسلمين. ومن أكثر الأمثلة المذهلة على ذلك حمّام قليج علي باشا في اسطنبول.
في الوقت الذي أصبح فيه الحمّام موضعاً للهوس الجنسي في الثقافة الغربية، الذي غالباً ما كان يتم التعبير عنه بتزيينه “الغريب” برسومات الأجساد العارية فحسب، إلا أن المتعة البسيطة التي تقدمها الحمامات ضمنت بقاءها لمئات السنين.
غرفة البخار
لربما تعتبر السقوف المقببة أحد أكثر السمات المميزة للحمامات، والتي غالباً ما يتم بناؤها من سلسلةٍ من القباب المتراصفة، التي تستند على جدران حجرية سميكة. تعمل هذه القواعد السميكة على الحفاظ على حرارة الحمامات، الأمر الذي يعدّ غايةً في الأهمية، مما يوّفر أجواءً حارة ورطبة للزوّار في الأماكن الداخلية المزينة بالرخام. فالتصميم الذي يحتوي على مداخل صغيرة للضوء في السقف، يخلق بيئةً مثالية ليلف البخار أجساد أولئك الزائرين. وفي طقوسٍ طرأ عليها تغييرٌ طفيف على مر القرون، يتم عادةً فرك المستحمين، بعد تعرقهم بسبب الحرارة المرتفعة داخل غرفة البخار الرخامية، بقطعة قماشٍ خشنة- لإزالة الجلد الميت عن الجسم- قبل أن يغمر الزبائن أنفسهم بمياهٍ باردة من صنابير المياه المثبتة بالجدران. وأخيراً، تتطلب الزيارة القليل من الاسترخاء في الغرفة الباردة.
مكانٌ منفصل؟
بدايةً، كان الحمام، كحال معظم الأماكن العامة في المناطق ذات الأغلبية المسلمة في الأناضول، مكاناً للذكور. ومع ذلك، مع مرور الوقت فتحت الحمامات أبوابها أمام النساء، بالرغم من أن الأمر كان يتم فقط عندما لا يتواجد الرجال.
وبالتأكيد، لعبت الحمامات دوراً اجتماعياً هاماً للنساء، مما سمح لهنّ بالهروب من حدود المنزل والمشاركة في مجتمعهن الخفي الخاص.
وفي ذروة الحكم العثماني، باتت الحمامات من الأهمية إلى الحد الذي أصبح فيه منع الزوج لزوجته من الذهاب إلى الحمام سبباً منطقياً لطلبها الطلاق منه. إلا أن احتمال أن تستفيد النساء من الحمام لم تحمل في طياتها منافع عليهنّ فحسب، ففي هذا الفضاء الاجتماعي الفريد للمرأة، كانت الأمهات الحاكمات من جميع شرائح المجتمع قادراتٍ على التوفيق وتقييم آفاق الزواج لأبناء أسرهم. فمن غير المستغرب استفادة الجميع من تواجد النساء في هذا المنفذ الاجتماعي المهم.
وعلى عكس الدوائر الطبقية العليا للمجتمع العثماني، كانت الحمامات خالية إلى حدٍ كبير من التمييز الطبقي. فقد كانت تترك مثل هذه المفاهيم خارجاً بمجرد نزع الزبون لملابسه عند باب الحمام. وإلى حدٍ ما، اختلط الأغنياء بالفقراء، على الرغم من أن هذا لربما كان يُقاس بالقيود الجغرافية للمدينة، فضلاً عن التكلفة في بعض الأحيان. فقد كان من الطبيعي، بخاصة بالنسبة للحمامات الموجودة في المجمعات الدينية، أن تقوم المؤسسات الإسلامية – أو الأوقاف – بإدارة الحمامات، وذلك مقابل رسومٍ بالطبع. وباعتبارها مصدر دخلٍ مهم، تم التأكيد على مكانتها على مر العقود.
يعدّ حمام كاجالوجلو، الذي بني في عام 1741، واحداً من الحمامات الأكثر شهرة في اسطنبول والذي استضاف مجموعة متنوعة من الضيوف المذهلين، تماماً كحال شهرته. فقد قامت فلورنس نايتنجيل، رائدة التمريض الحديث، بزيارة الحمامات أثناء عملها في اسطنبول، بل إن القيصر الألماني فيلهيلم الثاني، قام بزيارة أحد الحمامات أثناء زيارته التاريخية الرسمية إلى تركيا في عام 1898. وفي القرن التاسع عشر، بدأت الحمامات العامة تفقد مكانتها الاجتماعية، حيث أصبحت فكرة الحمام الخاص أو الحمام في المنزل أكثر انتشاراً بين النخب وغيرهم بشكلٍ تدريجي. ومع فقدانها للإيرادات، لم تعد قادرةً على تقديم خدماتها القديمة.
في الوقت الذي أصبح فيه الحمّام موضعاً للهوس الجنسي في الثقافة الغربية، الذي غالباً ما كان يتم التعبير عنه بتزيينه “الغريب” برسومات الأجساد العارية فحسب، إلا أن المتعة البسيطة التي تقدمها الحمامات ضمنت بقاءها لمئات السنين.