وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

بعد محاولة الإنقلاب الفاشل، عاد الجيش التركي أكثر قوة

 العرض العسكري أردوغان الجيش التركي
الرئيس رجب طيب أردوغان يحضر العرض العسكري بمناسبة الذكرى الـ94 لعيد النصر عند ضريح مصطفى كمال أتاتورك، في أنقرة، 30 أغسطس 2016. Photo imago stock&people

المقدمة

في 15 يوليو، حاولت مجموعة متمردة من ضباط الجيش السيطرة على تركيا وإسقاط رئيسها المنتخب ديمقراطياً، رجب طيب أردوغان. فشل الإنقلاب، ومع ذلك، لا يزال صدى تبعاته يتردد في جميع أنحاء البلاد.

يألف الأتراك التدخل العسكري في السياسة، فمنذ انتقال البلاد إلى الديمقراطية متعددة الأحزاب في عام 1950، عطّل الجيش، مباشرةً، العملية الديمقراطية أربع مراتٍ (1960، 1971، 1980، 1997)، مع العديد من المحاولات الفاشلة.

ويقول جاريث جنكينز في كتابه الذي ألفه عام 2001، السياق والحالة: الجيش التركي والسياسة، “دور الجيش في تركيا متجذرٌ في المجتمع والتاريخ والثقافة التركية.” ويضيف “يكمن الجيش دوماً في محور كيف يعرّف الأتراك أنفسهم؛ ولا يزال الغالبية ينظرون إلى المؤسسة العسكرية باعتبارها تجسيداً لأسمى فضائل الأمة.”

فبعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى، احتلت غالبية أراضي الإمبراطورية العثمانية من قِبل القوات البريطانية والفرنسية والإيطالية واليونانية. بدأت مجموعة من الضباط القوميين تمرداً ضد الجيوش الغازية، وبعد ثلاث سنوات من القتال الدامي، نجحوا بتحرير الأناضول.

أصبحت حرب التحرير أسطورة الجمهورية التركية التأسيسية، وأبطالها- أمثال كمال أتاتورك ووريثه ثاني الرؤساء الأتراك عصمت اينونو– الآباء المؤسسين للجمهورية وبات الجيش الوصي الأبدي عليها. وبهذه الصفة، مُنح الجيش تفويضاً رسمياً للتدخل بالسياسة. وتنص المادة (34) من قانون الخدمة الداخلية للجيش، التي دخلت حيز النفاذ من عام 1935 إلى عام 2013، على أن “وظيفة القوات المسلحة هي الحماية والحفاظ على الوطن التركي والجمهورية التركية.”

ومع ذلك، فإن النتيجة غير المقصودة لهذا التاريخ، أن الأتراك يدركون تماماً ما يبدو عليه الإنقلاب وسرعان ما أدركوا أيضاً أن آخر إنقلابٍ لم يكن يُبشر خيراً. فقد كان التخطيط للانقلاب سيئاً ونفذ على عجل. وكما أوردت رويترز في تحليلها “كانت محاولة انقلابٍ غريبة تنتمي للقرن العشرين وانهزمت أمام تكنولوجيا القرن الحادي والعشرين وقوة الشعب.”

غولن: يهوذا أردوغان؟

تُلقي أنقرة باللوم في الإنقلاب الفاشل على رجل الدين المقيم في بنسلفانيا، فتح الله غولن، وحركته الإسلامية، حركة الخدمة، والتي يُعتقد أن لها ملايين الأتباع في جميع أنحاء العالم ومليارات الدولارات من الأصول. ففي بلدٍ لطالما تفاخر بقوته العسكرية، قد يكون من المحيّر قيام رجل دينٍ منعزل بإفساد الجيش إلى حد محاولة القيام بانقلابٍ عسكري.

ومع ذلك، بالنسبة لمنتقديه، لا يخفى على أحدٍ أن استراتيجية غولن الرابحة للوصول إلى السُلطة تمثلت في تثقيف وتنصيب وتوظيف أتباعه في جميع أنحاء المؤسسات التركية. ففي عام 1986، نشر الصحفي التركي المخضرم روشن جاكر، أول تقريرٍ صحفي كشف أموراً مُشينة حول كيفية استغلال حركة غولن لمدارسها المستقلة لإلحاق تلاميذها والانتظام داخل الجيش.

أجريت ثلاث تحقيقات واسعة النطاق عام 1991 و1994 و1999 فيما يتعلق بأنشطة الحركة في الجيش والشرطة. قادت تحقيقات عام 1999 أيضاً إلى دعوى قضائية، ولكن قبل يومٍ واحدٍ فقط من توجيه لائحة الإتهام إليه بالتآمر لقلب نظام الحكم، فرّ غولن إلى الولايات المتحدة الأمريكية، حيث يُقيم حتى يومنا هذا.

في العلن، يصوّر غولن نفسه كضحية لعلمانية النظام المتطرفة. وبفضل شبكته الضخمة من المدارس، حظي بالدعم على النطاقين الشعبي والسياسي، وبخاصة من قِبل اليمين الديني. وفي السنوات الأولى من حياة أردوغان السياسية، تطورت العلاقة من الدعم الضمني إلى التحالف المتين، وإن كان تحالف مصلحة. ففي الداخل، ساعد غولن في تفكيك النظام العلماني القديم، وفي الخارج، وبفضل القدر الوافر من حسن النية التي تمتع بها على ما يبدو من نهجه العلماني والليبرالي للإسلام وشبكته من المدارس، جعل تأييد غولن من صعود أردوغان من رئيس بلدية إسلامي إلى ما يُسمى رئيس وزراء “ديمقراطي محافظ،” أمراً ممكناً.

وفي مؤتمرٍ صحفي بعد الانقلاب، اعترف نائب رئيس الوزراء محمد شيمشك صراحةً بهذه العلاقة، حيث قال “نعم، صحيح أنهم خلال عصرنا كان لديهم مطلق الحرية.” وأضاف “لماذا؟ لأننا لم نكن نتمتع بخبرة إدارة شؤون هذا البلد في الماضي. لم يكن لدينا الكثير من الناس ممن يعملون بالبيروقراطية التركية.”

أعداء مشتركون

وضمن مساعي الحكومة الإسلامية كبح جماح الجيش العلماني، أثبت تحالفها مع جماعة غولن نجاعته. ففي محاكمات أرغينيكون والمطرقة رفيعة المستوى، والتي حوكم فيها كبار ضباط الجيش وسماسرة السُلطة العلمانيين بتهم التآمر للإطاحة بالحكومة المنتخبة في البلاد، تم تطهير آلاف الضباط والجنرالات العلمانيين من الجيش. إن مثل هذه الحملة الواسعة ضد المؤسسات العلمانية لم تكن لتنجح لولا الشرطة والقضاة والمدعين العامين ووسائل الإعلام الموالية لغولن، بما في ذلك صحيفة الزمان الأكثر مبيعاً، وأحد أكثر قنواتها التلفزيونية شهرةً، STV.

وحتى في أوجها، كان يُنظر على نطاقٍ واسع لمحاكمات أرغينيكون والمطرقة من قِبل الخبراء القانونيين والشرعيين، أنها تشوبها الأدلة المشكوك بصحتها، فضلاً عن اعتبارها عملاً انتقامياً ينفذه الإسلاميون في تركيا، بما في ذلك رئيس الوزراء، ضد مضطهديهم السابقين في الجيش.

أولئك الذين أشاروا لهذا الأمر، دفعوا ثمناً باهظاً لصراحتهم. فقد اعتقل الكاتب والصحفي نديم سنير، الحائز على جائزة القلم لحرية التعبير لعام 2010، عام 2011 بعد نشره كتاباً يفضح دور حركة غولن في محاكمات أرغينيكون والمطرقة. كما ألقيّ القبض على صحفيّ آخر، أحمد سيك، بسبب مخطوطة غير منشورة بعنوان جيش الإمام، تورد بالتفصيل وجود أفراد حركة غولن في سلك الشرطة.

حلفاء سابقون

في عام 2014، ولأسباب مجهولة للعامة، تفرّق الحليفان. فقد أسفرت أعداد كبيرة من الأشرطة المسربة، التي سجلها على ما يبدو أفراد من الشرطة من الموالين لغولن، عن تحقيقاتٍ بقضايا فساد واسعة النطاق، قادها قضاة موالين لغولن، وطالت الدائرة المقربة من أردوغان بما في ذلك ابنه بلال.

بعد تسرب هذه الأشرطة، انقلب أردوغان على جماعة غولن، الذين اتهمهم برغبتهم في بناء دولة داخل الدولة، إذ قال أن محاكمات أرغينيكون والمطرقة كانت محور هذا المشروع. في حين وصفها أحد أكبر مستشاري أردوغان، يالتشين أكدوغان، بأنها “مؤامرة ضد الجيش الوطني لبلادهم.” وفي غضون أشهر، أبطلت الاتهامات وطويت القضية.

ومع ذلك، وقع الضرر. فوفقاً للمدعي العام في سلاح الجو زكي أوتشوك، وهو أحد المتهمين السابقين في قضية أرغينيكون ممن قادوا التحقيق العسكري في حركة غولن، تم ربط ما لا يقل عن نصف الـ45 ألف طالب عسكري الذين تم تجنيدهم في العقد الماضي بحركة غولن. ويقول زكي أوتشوك  أن محاكمات أرغينيكون والمطرقة كانت حاسمةً في كشف المستويات العليا من القيادة العسكرية التابعة لحركة غولن.

في الواقع، حصل العديد من القادة في هذه الكارثة المفاجئة على ترقياتٍ في رتبهم العسكرية بفضلهم. فقد تمت ترقية ثلاثة وستون من الجنرالات الـ123 الذين ألقيّ القبض عليهم لتورطهم في محاولة الانقلاب الفاشل في غضون السنوات الثلاث الماضية، وذلك بفضل الشواغر التي أتاحتها محاكمات أرغينيكون والمطرقة. واشتملت هذه على ترقية 20 جنرالاً من أصل 40 جنرالاً عام 2014، فضلاً عن ترقية 22 جنرالاً من أصل 41 عام 2015. ومن أصل الـ47 عقيداً الذين تمت ترقيتهم إلى هيئة الأركان العامة في العامين الماضيين، اعتقل ثلاثين منهم- أي ما تصل نسبته بشكلٍ مذهل إلى 64%- لتورطهم في الانقلاب.

وعلى الرغم من سُلطتهم ونفوذهم، فشل الإنقلابيون في إقناع غالبية أفراد القوات المسلحة بالانضمام إليهم. عوضاً عن ذلك، حصل انقسامٌ في صفوف الجيش، حيث قاوم العديد من القادة رفيعي المستوى الانقلاب بشدة.

أحدهم، اللواء ابراهيم آيدين، قائد الدرك السابق في مدينة أنقرة، الذي روى للصحفي جاريد مالسين من صحيفة التايم الأمريكية الرواية المثيرة للهجوم الذي تم من خلاله إستعادة السيطرة على قاعدة الطائرة العامودية للإنقلابيين في العاصمة. كما يكشف تقريره أنّ رد الفعل العسكري كان متناسق الأجزاء ومرتجلاً وانعكاسي. فقد قال “كجندي، لا يمكنك دوماً تلقي الأوامر من قائدك. ففي بعض الأحيان، يُجبرك الوضع على التصرف بطرقٍ معينة، وبالتالي عليك أخذ زمام المبادرة.” وأضاف “كان ضرب الجنون هذا محرجاً، إهانةً لجيشنا ولنا على حد سواء.”

محور القومية

بعد الانقلاب، خشي العديد من الخبراء الأتراك من إضعاف الجيش التركي بسبب ما حصل. فقد اغتنم أردوغان، الإسلامي الذي قضى عقوداً من الزمن يحارب قبضة الجيش العلماني على السياسة، الفرصة لكبح جماح الجيش، حيث فُسرت عمليات التطهير التي تلت محاولة الانقلاب كدليلٍ على ذلك.

كما كان هناك مخاوف أيضاً من أنّ الجيش الأضعف لن يكون قادراً على محاربة حركة غولن، وحزب العمال الكردستاني (الإنفصاليين الأكراد)، وتنظيم الدولة الإسلامية الجهادي المتطرف في آنٍ معاً. كما توقع المحللون أيضاً أن يُجبر الانقلاب الفاشل أنقرة على تغيير موقفها تجاه سوريا، التي لطالما كانت من أشد الداعمين لجماعات المعارضة.

إلا أنه لم تثبت صحة أيٍ من هذا، ففي المسيرة الضخمة المؤيدة للديمقراطية التي دعا إليها أردوغان في السابع من أغسطس والتي حضرها أكثر من ثلاثة ملايين شخص، استقبل القائد الأعلى للجيش، خلوصي عكار، استقبال الأبطال. وبزيه العسكري، رحب عكار بالحشود بتحيةٍ عسكرية وألقى خطاباً قوطع مراتٍ عدة بتصفيقٍ حار وهتافاتٍ مثل “تركيا فخورة بك،” و”عاش جيشنا.” وفي نفس هذا التجمع، أشاد رجب طيب أردوغان ورئيس الوزراء يلدريم بإسهاب بجهود الجنود الأوفياء.

وبعد أقل من شهر، تحركت الدبابات التركية داخل شمال سوريا، حيث استعادت قوات المعارضة السورية المدعومة من تركيا مدينة جرابلس من سيطرة “داعش،” وأوقفت القوى الديمقراطية السورية التابعة لحزب العمال الكردستاني من تشكيل جيبٍ كردي مجاور على طول الحدود التركية، فضلاً عن مواصلة التقدم جنوباً نحو مدينة الباب، آخر المدن الرئيسية التي لا تزال تحت قبضة “داعش،” في محافظة حلب.

كيف إذاً، ظهر الجيش التركي أكثر قوةً بينما كان المتوقع أن يكون ضعيفاً؟ تكمن الإجابة في تغيير الحرس في أنقرة وارتكاز أردوغان، بعد الانقلاب، على محور القومية التركية.

فقد كان حزب العدالة والتنمية بقيادة أردوغان ائتلافاً من الليبراليين والإسلاميين والقوميين. وفي السنوات الأولى، وبينما كان لا يزال جدول أعمال تركيا الأوروبي ذو صلة، كان الليبراليون الفصيل المهيمن. ومع تعثر المشروع التركي الأوروبي، واستئناف وتيرة نشاطها في الشرق الأوسط، اكتسب الإسلاميون القوة على حسابهم. واليوم، مع وقوف الجماعة الدينية- حركة غولن- التي كانت من الحلفاء المقربين لأردوغان وتمتلك نفوذاً على الإسلاميين في الحزب، في خانة الاتهام بمحاولة إقصائهم عن السُلطة، يحل القوميون محلهم. فعلى سبيل المثال، في أعقاب الانقلاب، تمت ترقية 19 متهماً في محاكمات أرغينيكون والمطرقة إلى رتبة جنرال، متمتعين بمناصب حساسة في المؤسسات والاستخبارات، والقيادات الميدانية والأسطول.

ويقول الخبير في السياسة التركية، سليم سازاك، من Century Foundation، وهي مؤسسة فكرية مقرها نيويورك أن “الأشخاص الوحيدين الذين يثق فيهم أردوغان هم الأشخاص الذين خدعوا علناً، والذين شُهّر بهم من قِبل غولن، والذين يتواجدون ضمن هذه الدوائر على مدى العقد الماضي.” وأضاف “غالبيتهم من القوميين، الذين تورط الكثير منهم في محاكمات أرغينيكون والمطرقة.”

وتابع “انتقد القوميون حزب العدالة والتنمية لتهاونهم الشديد مع المشكلة الكردية، وقساوتهم الشديدة على الجيش العلماني، وتعاملهم المريح مع الجماعات الإسلامية مثل جماعة غولن، الذين اعتبروها تهديداً للأمن القومي. واليوم، هم في وئامٍ تام. فقد انهارت المحادثات مع الأكراد، ونُقضت أحكام قضايا أرغينيكون والمطرقة، وأصبح غولن العدو رقم واحد للشعب التركي.”

ويتوقع الخبير التركي استمرار صعود القومية، مما يؤدي إلى جيشٍ أكثر، وليس أقل، قوة في السياسة. ويقول “التمحور حول القومية الخيار المنطقي للرئيس أردوغان. وباعتبار شخصيةٍ دينية- غولن- أعتى الإرهابيين لتركيا، سيكون الإسلام السياسي مطلباً صعباً. ومع ذلك، بالدعوة إلى القومية يمكن لأردوغان حشد الشعب ضد العدو المشترك، سواء كان “داعش”، أو حزب العمال الكردستاني، أو غولن، وإعادة تمثيل نفسه باعتباره الأب الروحي للبلاد، على حد سواء.”

Advertisement
Fanack Water Palestine