وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

العلويون الأتراك: قضية تركيا الأخرى

the-20th-anniversary-of-the-Madimak-massacre
الآلاف يحتشدون لإحياء الذكرى السنوية العشرين لمجزرة ماديماك، عندما أحرق 33 مفكراً علوياً أحياءً في مدينة سيواس، في تركيا، 2 يوليو 2013. Photo NarPhotos / Hollandse Hoogte

لطالما اعتبرت “القضية الكردية” – التوترات والصراع المفتوح مع الشعب الكردي في البلاد منذ عقودٍ طويلة- المقياس الرئيسي لعلاقات تركيا مع الأقليات في البلاد. يرجع ذلك، إلى حدٍ كبير، لعدم وجود أقلياتٍ عرقية أو دينية هامة أخرى، والذين فرّ معظمهم، أو طردوا أو قتلوا في حملات القمع العثمانية الأخيرة، أو في موجات العنف على خلفيةٍ قومية. ومع ذلك، وبصرف النظر عن الأكراد، ناضل مجتمع العلويون الأتراك من أجل الحصول على حقوق الأقليات، إذ غالباً ما تم هذا بعيداً عن أنظار المجتمع الدولي.

تصل نسبة العلويين، وهي فرعٌ من الإسلام الشيعي، حسب بعض التقديرات إلى 20% من سكان البلاد، وهي مجموعة تبلغ حوالي 25 مليون تمتد عبر العرب المحليين، والتركمان والأكراد. العلويون جماعةٌ ثانوية، تختلف معتقداتهم عن أهل السُنّة المهيمنة، ونتيجةً لذلك، تحملوا قروناً من الإضطهاد، حتى أنه قد تم وصفهم بالزنادقة من قِبل العثمانيين. وفي الآونة الأخيرة، وخلال حملات القمع والإضطرابات السياسية في سبعينيات القرن الماضي، تم قتل العشرات من العلويين. وقبل ثلاثة وعشرين عاماً، أحرق أكثر من 30 علوياً أحياءً في هجومٍ على مبنىً من قِبل حشدٍ من الإسلاميين. ووسط تزايد الإسلاميين في تركيا، لا يزال العلويون مواطنون من الدرجة الثانية.

فمطالب العلويين بسيطة، أهمها أن تعترف الدولة بأماكن عبادتهم- بيت الجمع- إذ ترفض الحكومة ذلك. ففي مايو 2014، أعلن أمر الله إشلر، نائب رئيس الوزراء آنذاك، أنه لا يمكن الإعتراف ببيوت الجمع، ذلك أن العلويين يتعبرون أنفسهم مسلمين، والمسجد هو المكان الوحيد للعبادة في الإسلام. ويبدو أنّ هناك القليل من المنطق السياسي وراء تعنّت أنقرة، بصرف النظر عن التحيز طويل الأمد ضد المذهب الشيعي.

فقد ألقت الإمبراطورية الصفوية الشيعية (1501-1722)، التي نشأت في ما بات يُعرف بالعصر الحديث بإيران؛ العدو الرئيسي للعثمانيين في الشرق الأوسط، وهذا العداء، بظلالهما لفترةٍ طويلة. فكثيراً ما أحبِط العلويون من محاولة زعماء السُنة تحديد معتقداتهم، إذ كان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بنفسه واحداً من آخر الزعماء الذين وقعوا في فخ هذا التمييز.

ففي عام 2013، سعى إلى تصنيف العلويين إلى “العلويين مع عليّ، والعلويين دون علي.” فهو يرى بالمجموعة الأولى موالين للإسلام، وأكثر عُرضة للانتقال للصلاة في المسجد بدلاً من بيت الجمع؛ بينما يعتبر المجموعة الثانية ملحدين.

وفي مايو 2013، وجد العلويين، مرةً أخرى، أسباباً للاحتجاج ضد الحكومة، عندما أعرب رجب طيب أردوغان، الذي كان يشغل آنذاك منصب رئيس الوزراء التركي، عن حزنه لـ”استشهاد 53 مواطن سُنيّ في الريحانية،” في هجومٍ بسيارةٍ مفخخة، مُلقياً باللوم على أنصار بشار الأسد، رئيس سوريا. كانت هذه أول مرة يُشير فيها سياسي تركي رفيع المستوى لضحايا مثل هذا الهجوم حسب دينهم. فقد أثارت تصريحات رئيس الوزراء الإقصائية مخاوف من ردٍ فعلٍ طائفي ضد العلويين الأتراك، الذين يتعذر تمييز معتقداتهم الدينية، إلى حدٍ كبير، عن العقيدة العلوية التي يتبعها الأسد في سوريا.

وفي عام 2016، وجدّ العلويون شيئاً آخر يذكرهم بتاريخهم المضطرب، محفوراً فوق أشهر معالم تركيا، عندما أعلن أنّ جسر اسطنبول الجديد الذي يمتد أعلى مضيق البوسفور سيتم تسميته جسر السلطان سليم الأول، أو كما هو معروفٌ بـ”سليم العابس،” وهو سلطانٌ سابقٌ شهيرٌ بتدبير مجازر ضد العلويين “الضالين.”

فقد موّل رجل الدين التركي، وحليف أردوغان السابق، فتح الله غولن، بناء مجمع مساجد في أنقرة، إذ كان من المفترض أن يُشفي هذا الجرح. وبتشييد مسجدٍ سُنيّ إلى جانب بيت جمعٍ للعلويين، سيسمح المجمع لأتباع العقيدتين بالصلاة جنباً إلى جنب. ولكن في ظل عدم تغيير القانون التركي بشأن وضع بيوت الجمع للعلويين، بقيّ بيت الجمع مجرد مرفقٍ بسيط يتبع للمسجد السُنيّ، مما أدى إلى أعمال شغبٍ وأشعل معارضةً شرسة من الجماعات العلوية.

يتعلق تظلّم العلويين الرئيسي الآخر بمنهاج الدولة. فالطلاب الأتراك، أياً كانت عقيدتهم، ملزمون بحضور دروس دينية في المدارس، التي ترفض تدريس المذهبين الشيعي والعلوي. يُستمد هذا بشكلٍ أساسي من وجهة نظر الدولة باعتبار العلوية ثقافة وليس دين. وتجادل المجتمعات العلوية أنّ هذا النهج التعليمي يُميّز ضدهم، ويسهم في نشر المذهب السُني- أو كما هو متعارف عليه بـ”تسنن”- المجتمع التركي، مما يؤدي تدريجياً إلى تآكل آخر بقايا الأمة التي كانت يوماً ما متنوعة.

وفي عام 2014، قضت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان بأن النظام التعليمي في تركيا “ينتهك الحق في التعليم،” ومجهز على نحوٍ غير ملائم لاحترام قناعات الوالدين، وذلك بناءً على شكاوى علوية حول الدروس الدينية السُنية الإلزامية. ومع ذلك، لم يتغير الكثير في أعقاب هذا الحكم، ومع ابتعاد تركيا أكثر فأكثر عن الإتحاد الأوروبي، يتلاشى الأمل تماماً كحال تأثيره المحتمل.

حولت عدم الثقة بالحكومة وخطط أنقرة السُنيّة لتركيا، المجتمع العلوي إلى مدافعين متحمسين عن الركائز العلمانية للجمهورية التركية ومن أشد المعارضين للحكومة. فقد تعرضت العلمانية، المنصوص عليها في الدستور باعتبارها واحدةً من المبادىء المؤسسة لتركيا، لتهديداتٍ متزايدة في ظل حكم حزب العدالة والتنمية الإسلامي المحافظ، الذي يحتفل اليوم بعامة الخامس عشر في السُلطة.

ففي احتجاجات حديقة جيزي عام 2013، خرج العلويون إلى الشوارع للانضمام إلى المظاهرات التي عمت البلاد ضد الطبيعة الاستبدادية والقمع العنيف، على نحوٍ متزايد، لحكومة أردوغان. وإما عن طريق الصدفة المحضة أو الاستهداف المتعمد (بالرغم من أنّ الأخير يبدو أمراً غير محتمل)، كان جميع المتظاهرين الخمسة الذين قتلوا على يد الشرطة علويين.

فقد أكدّ دعم العلويين الراسخ للجمهورية العلمانية، بالإضافة إلى قطاعات المجتمع اليسارية والكردية البارزة، أن العلويين ظلوا مُدرجين على قوائم مراقبة الدولة. كما كشف تقريرٌ مسرّبٌ من الشرطة أّنّ السلطات كانت تراقب الطبيعة العلمانية لاحتجاجات جيزي (حيث تُشير التقديرات إلى أن نحو 78% من المتظاهرين في الشوارع كانوا من العلويين)، مما يؤكد المخاوف من التنميط العنصري للدولة فيما يتعلق بالأقليات.

ولربما وفرّت الحرب في الجارة سوريا الشرارة الأكثر خطورة للتوترات العرقية حول العلويين الأتراك. ومع امتداد القتال وتدفق ملايين اللاجئين عبر الحدود التركية، أصبحت الطائفة الشيعية المحلية في تركيا ترزح تحت ضغوطاتٍ غير مرغوبٍ فيها. فقد جعلهم قربهم الديني من الطائفة العلوية التي يتبعها الأسد أهدافاً متوافقة لكراهية النظام السوري التي باتت تتنامى في تركيا.

فقد وضع دعم إيران الثابت لنظام الأسد، بالرغم من الإنتهاكات واسعة النطاق التي تمارسها ضد المدنيين السوريين، طهران في خانة أعداء أنقرة في المنطقة. كما أسهمت الصورة المجازية الدينية والتاريخية التي تتسم بالنقد اللاذع المناهض لإيران في تركيا، بعكس صورة الشبح الطائفي الذي يطارد الجغرافيا السياسية في الشرق الأوسط اليوم. ولربما تعكس الحرب الدامية في حلب أفضل مثالٍ على هذا.

فقبل أن تسقط المدينة أخيراً في أيدي القوات الموالية للأسد، دعا المحاضر التركي السُنيّ المتطرف، عبد القادر سين، علناً، إلى الإنتقام من العلويين الأتراك. وعلى الرغم من أنّ جامعة سين قد أوقفته عن العمل عندما جذبت تغريداته اهتمام البرلمان التركي، حيث أدان نائب رئيس الوزراء الدعوات للتحريض على العنف، إلا أن سين أفلت من أي عقوبةٍ أخرى بتهمة التحريض على القتل.

ومع ذلك لم تقتصر التهديدات ضد العلويين على الشبكة العنكبوتية. ففي عام 2015، قام مجرمون مجهولوا الهوية بوضع إشارة (X) على أبواب منازل العلويين؛ نزعةٌ مشؤومة تعود بالذاكرة إلى مذبحة عام 1978 بحق العلويين، والتي ظهرت قبلها علامات (X) مماثلة على منازل العلويين. وعلى الرغم من عدم تحوّل هذه المضايقات، بعد، إلى عنف، إلا أنّ الخوف أداةٌ قوية بيد هؤلاء من يسعون لاضطهاد الأقليات المحاصرة في تركيا.

فقد تسببت محاولة الإنقلاب في 15 يوليو من العام الماضي بصدمةٍ في جميع أنحاء تركيا وتسببت بشنّ قمعٍ سياسي واسع النطاق في جميع أجهزة الدولة. وباعتبارها جماعةً تُعرف بعلاقاتها المريرة مع حركة غولن (التي يُزعم مسؤوليتها عن الإنقلاب)، كان العلويون هدفاً غير محتملٍ لعمليات التطهير التي أعقبت ذلك. في الواقع، في أغسطس الماضي، أعلنت الحكومة أن منطقة درسيم، المحافظة ذات الأغلبية العلوية، الأقل اختراقاً من قِبل جماعة غولن من محافظات تركيا الـ81.

ومع ذلك، لم ينجوا العلويون من المطاردات دون أذى. فقد نشرت صحيفةٌ يومية تركية مقالاً أفردته على صفحتها الأولى تدعيّ فيه أن أحد مسؤولي بلدةٍ علوية قد أُمر بارتكاب مجزرةٍ بحق السُنة في أعقاب الإنقلاب. لم يُدرج أي دليلٍ أو حتى اسم المسؤول المعني في هذا المقال. وسرعان ما أصدر قادة المجتمع العلوي في البلاد، الذين انزعجوا دون شك من رد الفعل الدموي المحتمل لمثل هذه الشائعات التي لا أساس لها من الصحة، تصريحاً أدانوا فيه محاولة الإنقلاب. وبغض النظر عن هذا، لا تزال الحشود تتجمع في المناطق العلوية مرددةً شعاراتٍ طائفية.

وكما هو مفهوم، لا تزال علاقة العلويين بالدولة متوترة، ففي الذاكرة الحية، لم يطرأ تغييرٌ جوهريٌ يُذكر في طريقة تعامل الحكومة مع هذه الأقلية الكبيرة. وفي ظل المناخ الحالي من التوتر العرقي المتصاعد والقمع السياسي والحماسة الوطنية، يبدو أن العلويين يملكون جميع الأسباب للتحصن في موقفٍ دفاعي.

Advertisement
Fanack Water Palestine