كميل-جان حلو
أهمّيّة المواقع التّاريخيّة في السّياحة الموجّهة نحو الصّوفيّة، قد يترك انطباعًا أنّ الهندسة الصّوفيّة فئة مستقلّة من العمارة، تتمتّع بجماليّة ومقاربة للتّصميم الحيزيّ خاصَّين بها. لكنّ الواقع مغاير قليلًا عن افتراضاتنا، بخاصّة في ما يتعلّق بالثّقافة والتّاريخ.
في الحقيقة، الهندسة الصّوفيّة في تركيا اليوم هي نفسها الهندسة الإسلاميّة أيّام السّلطنة العثمانيّة، ويتعذّر التّمييز بينهما إلّا من ناحية ارتباطهما التّاريخيّ بالصّوفيّة أم عدمه. لكن في الوقت نفسه، كان للتّراث الصّوفي ولمبادئ الصّوفيّة الأساسيّة أثرًا هائلًا على الحضارة العثمانيّة، وبذلك يستحيل إنكار بصمتها في مجال الفنّ والهندسة.
من الضّروريّ، عند دراسة تاريخ الهندسة، الأخذ في الاعتبار أنّ الفروقات في الأسلوب، والعصر، والتّيّار هي في الغالب اختراعات حديثة، وليدة حاجة الدّراسات الأكاديميّة إلى التّحديد والتّصنيف. كان هذا النّهج من التّفكير سيبدو غريبًا جدًّا لمعماريّي القرن العاشر حتّى القرن الخامس عشر، فبالنّسبة إليهم، الهندسة شكل فنّيّ دائم التّطوّر، إنّما يرتكز تطوّره إلى مبادئ اعتباطيّة مُتّفَق عليها ضمنيًّا في المجتمع.
أراد المهندسون بالدّرجة الأولى، تشييد مبانٍ تخدم وظائفها بالطّريقة الّتي رأوها المثلى. ونتيجة لذلك، جعلوا من تصميماتهم بالفطرة، دليلًا على رؤيتهم للعالم (صورة ثقافيّة لفترة من التّاريخ). لم يحاولوا الالتزام بقوانين العصر أو المنطقة، بل كانوا هم واضعو هذه القوانين، لا شعوريًّا، في بحثهم التّنافسيّ عن العظمة الهندسيّة.
شيّد المهندسون الّذين يعيشون في ظلّ الدّولة نفسها، ويتمتّعون بالمعتقد والثّقافة نفسهما، عمارة متشابهة بحكم تأثّرهم بالأمور نفسها. وبإعادة النّظر في ذلك، قد نشمل هذه المنشآت ضمن مصطلح واحد، لكن آنذاك، كان كلّ مهندس يرنو إلى تحقيق أفضل تعبير عن عظمة اللّه.
المعلم الأكثر إبداعًا في الهندسة الصّوفيّة، جدلًا، هو ضريح رومي، الّذي يشكّل الآن متحف مولانا، في قونية، تركيا. ويمكن تمييزه فورًا بسبب قبّته الطّويلة الأسطوانيّة الفيروزيّة. كان هذا المقرّ في الأصل مدفن والد رومي، وقد أقيم في حديقة ورود السّلطان علاء الدّين كيقباد (1231). وبعد عقود، دُفِن المتصوّف الفارسيّ في ذلك الموقع إلى جانب أبيه (1273). توسّع هذا الموقع على مراحل بعد موت رومي، وظلّت تُزاد عليه أجنحة حتّى عام 1854، وقد خدم كتكيّة مولويّة فترة من الزّمن، وكمقرّ للدّراويش الدّوّارة إلى أن أُعلِن متحفًا عام 1926. وهو اليوم، أكثر المواقع السّياحيّة إقبالًا في المنطقة، وبالطّبع الوجهة الأساسيّة للغربيّين المفتونين بالطّقوس الصّوفيّة ومحبّي كتابات جلال الدّين الرّومي.
التّصوّف تقليد روحانيّ واسع النّطاق نابع من الدّيانة الإسلاميّة، وقد اشتهر حول العالم لتركيزه على المحبّة وتقبُّل الآخر والمساواة. في نظر الغرب، يقف احتضان هذا المذهب لتعدّد الثّقافات ولحوار الأديان، نقيضًا للإسلام ذو الطّابع الحربيّ العنيف المُصوَّر مرارًا في الإعلام السّائد، مشكّلًا بصيص أمل مغرٍ في خضمّ بيئة دينيّة محبِطة. يُعتبَر الشّاعر الذّائع الصّيت، جلال الدّين محمّد الرّومي، من قبل كثيرين، الممثّل الأبرز للتّصوّف (مع العلم بأنّ ذلك عائد جزئيًّا إلى تحرير الدّارسين الغربيّين لأعمله بحيث أصبحت أكثر تناغمًا مع الذّوق الغربيّ).
متحف مولانا مثال بارز ومهمّ للهندسة العثمانيّة في القرن الحادي عشر. قبل الدّخول إلى المجمع، يستقبل الزّائر تقشّف صامت يتجلّى بجدران خارجيّة واسعة متجعّدة مخدّدة، تتخلّلها نوافذ ضيّقة مشبّكة توحي بالصّلابة والمتانة. تقصُر الجدران العليا تدريجيًّا وتتراجع نحو الدّاخل (لأسباب هيكليّة)، منتهية بقبب منخفضة تتّسع أكثر فأكثر مع اقترابها من الوسط (نتيجة مباشرة لطريقة توزيع وظائف الأقسام الدّاخليّة).
تشبه مقاييس هذا المبنى هضبة ضخمة متينة من الحجر الخام. لا شيء في الشّكل الخارجيّ يحضّر الزّائر إلى ما سيجده في الدّاخل من ترف راقٍ، إلّا قبّة الضّريح المرتفعة والمذهلة، المكسوّة ببلاط أزرق مخضرّ، والّتي تشبه صاروخًا موجّهًا إلى السّماوات.
تؤدّي البوّابة الرّئيسيّة إلى فناء رخاميّ، محاطًا بغرف النّسّاك الدّراويش، كلّ منها صومعة مربّعة سقفها قبّة صغيرة، تصطفّ جنبًا إلى جنب مشكّلة محيط مغلق. نجد في وسط المساحة، عملًا هندسيًّا بديعًا وهو نافورة اغتسال تقليديّة تجري من خلالها المياه.
إلى الأمام مباشرة، تقف القناطر الأربعة المرتفعة الدّالّة على مدخل المبنى الرّئيسيّ. من الواضح هنا أنّ جودة عمل البناء بالآجرّ أرفع مستوى، فالزّوايا حادّة، والحوافّ مشحوذة، والخطوط مستقيمة، والألوان متناسقة. حتّى أنّ بعض الأحجار تتشابك كقطع “البازل”، والسّوابيط مقطّرة بالرّخام، والأعمدة متوّجة بزخارف محفورة. أحد أهمّ التّطوّرات في العمارة بالحجر هو القوس المدبّبة الّتي سمحت ببناء أسقف أعلا، ونوافذ أكبر، وأعمدة أرفع.
يقع تحت ساباط مرتفع باب ذو درفتين صنع عام 1492، مزيّن برسوم توضيحيّة سلجوقيّة وكتابات فارسيّة، ينفتح على المسجد. وكما هو قياسيّ في الهندسة العثمانيّة لهذا العصر، يُشار إلى المدخل بتراجع كبير ومهيب في الجدار الحجريّ محفور بطريقة زخرفيّة تربك حسّ القياس لدى الزّائر إلى أن يصل إلى الباب الفعليّ، فيجده أقصر ممّا تصوّر، مع العلم أنّ حجمه طبيعيّ. يتمتّع هذا الباب بعقد أفطح من الأحجار الفاتحة والغامقة المصفوفة بالتّناوب، وهو مُقزَّم بفعل التّراجع الهائل الّذي يبدو كباب في الجدار فوقه. من المرجّح أنّ هذه الظّاهرة متعمّدة كتذكير لاشعوريّ بضآلة الإنسان مقارنة باللّه.
داخل المسجد، قُسِّمت المساحة بواسطة أعمدة يحمل كلّ منها قبّة، ورُتّبت الأرجاء هرميًّا بحسب أهمّيّة وظائفها، باستخدام التّزيين. وبذلك يمكن على الفور تمييز غرفة الصّلاة كالنّقطة المركزيّة في المساحة، لكونها مكسوّة بالكامل بالخطّ العثمانيّ النّادر والثّمين، في حين زُيِّن جزء من جدران غرفة الاستقبال، وغرفة الرّقص، وغرفة القراءة وأسقفها وطُلِي جزءها الآخر بالأبيض.
تحت العقود الّتي تحمل السّقف مباشرة، تمتدّ عوارض خشبيّة رفيعة من عمود إلى آخر. هذا إجراء تقليديّ للتّخفيف من استخدام الحجر، يسمح ببناء مساحات أوسع بأقلّ وحدات حجريّة ضخمة. عولج الخشب أينما وجد في المبنى ليتحمّل الرّطوبة ليس إلّا، وتُرِك مكشوفًا. إنّما في الغرف المهمّة كغرفة الصّلاة (المكان الّذي يُتلى فيه القرآن باستمرار) غُطّيت كلّ العناصر، حتّى هذه العوارض الخشبيّة الرّفيعة، بالفسيفساء المتشابكة.
للوصول إلى قسم الضّريح من المبنى، على الزّائر أن يمرّ عبر باب مطعّم بالفضّة صنع عام 1599، في ساباط حجريّ، مُحاط بمشغولات خشبيّة فاخرة وباهرة. وتحت القبّة المتميّزة ذات اللّون الأزرق المخضرّ، تقع تحفة القرن الثّاني عشر السّلجوقيّة، وهي ضريح رومي المحفور في الخشب والمغطّى بديباج مزخرف، طُرّزت عليه بالذّهب آيات من القرآن الكريم.
وتجلّت براعة الحرفيّين العثمانيّين التّقنيّة في كلّ ما حول هذا الضّريح، من أرضيّة وجدران وسقف، مشبّعة بالألوان والزّخارف المعقّدة. ولأسباب دينيّة وثقافيّة اقتصر التّزيين على النّصوص والأشكال الهندسيّة، لكن مهما كانت القيود المفروضة، يجد عقل الفنّان دائمًا طريقة للصّمود في بحثه عن الجمال.
على الجدران والأعمدة، تختلط خطوط مصبوبة بمعادن ثمينة مع أحجار متشابكة متعدّدة الألوان محفورة ببراعة، لتشكّل نسيجًا ساحرًا من الخطّ والأنماط الانسيابيّة غير المتقطّعة. على السّقف تحاكي الأشكال الهندسيّة الطّبيعة بزخارف زهريّة ظاهرة من خلال تكرار الزّوايا.
تتشكّل الأرض من أحجار محفورة متشابكة كأجزاء “البازل”، بطريقة مذهلة مُحكمة، من دون أيّ فراغات ظاهرة للعين المجرّدة، لدرجة أنّ الزّائر غير المتخصّص قد يعتقد الأرضيّة حجرًا واحدًا كاملًا لولا تعدّد ألوان البلاط.
مرقد هذا الشّاعر محاط بفائض من الجمال الفنّيّ الجليل الباعث للدّفء، تشريف لائق برجل قال: “إذا بدا كلّ شيء من حولك مظلمًا، قد تكون أنت مصدر الضّوء.”
الصّوفيّة مذهب لاهوتيّ معقّد من الإسلام، حمل إرثًا ثقافيًّا عميقًا ترك بصمته في هندسة القرن العاشر حتّى الخامس عشر في تركيا. وبهدف التّوغّل في أسرارهذا التّقليد الرّوحانيّ الّذي ما زال مجهولًا نسبيًّا ومُساء فهمه، يمكن زيارة مواقع كمتحف مولانا العاكس لصورة المتصوّف الّذي يبدو للعيان متقشّفًا صامتًا، ويعود إلى نفسه متأمّلًا الجمال النّابض الخفيّ في سعي أبديّ للاتّحاد باللّه.