وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

الأدب الإيراني الحديث: ما بين السياسة والتقاليد

Iran- Omar khayyam
رباعيات عمر الخيام. Photo Flickr

يُعتبر الشعراء في إيران من المشاهير، فالشعر الفارسي الكلاسيكي جزءٌ لا يتجزأ من الحياة اليومية، إذ يتم ترديد أشعار حافظ الشيرازي، الذي توفي عام 1390، في الأحاديث اليومية للأشخاص في جميع مناحي الحياة. ويستخدم الشباب والشيّاب، والأغنياء والفقراء، والمزارعون والنخب الحضارية الشعر للتعبير عن دلالتهم، بل حتى أن الأميين يحفظون بعض أبيات الشعر عن ظهر قلب. وفي كثيرٍ من الأحيان، يُستخدم الشعر كوسيلةٍ للتعبير السياسي. ففي بلدٍ له تاريخٌ طويلٌ بالاستبداد، يُعبّر الناس عن أنفسهم من خلال الشعر الذي كتب منذ مئات السنين لحماية أنفسهم من الاضطهاد.

وعلى الرغم من أن الأدب الفارسي كان له تأثيرٌ في أجزاء مختلفة من العالم الإسلامي، إلا أنه لم يكن معروفاً إلى حدٍ كبير في الغرب قبل القرن الثامن عشر تقريباً. ومع ذلك، تمت ترجمة بعض الأعمال الهامة تدريجياً إلى لغاتٍ أوروبية مختلفة. ولربما كان عمر الخيام (1048-1123) الشاعر الفارسي الأكثر شعبية في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين في أوروبا. فقد ترجم إدوارد فيتزجيرالد رباعيات الخيام إلى اللغة الإنجليزية في عام 1859، وعليه، أصبح واحداً من أكثر الكتب الشعرية المقتبسة باللغة الإنجليزية.

الشاهنامه (كتاب الملوك) هو ملحمة وطنية إيرانية. كتبها الشاعر الفردوسي عام 1000 ميلادية. تحكي هذه الملحمة قصة ماضي إيران الصوفي، بدءً من تكوين العالم وحتى الغزو الإسلامي لإيران في القرن السابع.

كتاب ألف ليلة وليلة عمل أدبي كلاسيكي آخر. تحكي هذه المجموعة من القصص الفولكلورية من القرون الوسطى، والتي كُتبت باللغة العربية في الأصل، قصة الملك شهريار الحاقد الذي كان يتزوج فتاة عذراء كل يوم ويأمر بقطع رأسها في اليوم التالي. ولتنقذ نفسها من الموت، كانت الملكة شهرزاد تروي للملك حكاية على أجزاء، وتحرص على أن تختم كل جزء منها بنهاية مشوّقة. تم جمع هذا الكتاب على مدى العصور من مناطق متعددة، غير أن نواة القصص تتمثل في المجموعة الفارسية بعنوان هزار أفسانا (ألف حكاية وحكاية). كما أنجبت إيران العديد من الشعراء والأدباء المعاصرين المتميزين.

كما اجتذب الشاعر والصوفي جلال الدين محمد الرومي (1207-1273) أتباعاً من جميع أنحاء العالم في أواخر القرن العشرين وأوائل القرن الحادي والعشرين. فقد تم بيع ملايين النسخ من مجموعاته الشعرية في السنوات الأخيرة، ويعتبر الشاعر الأكثر مبيعاً في الولايات المتحدة.

وعلى الرغم من امتلاك إيران تراثاً شعرياً منذ عهدٍ بعيد، إلا أن الأدب الإيراني الحديث ظهر في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وتشكل بفعل التحولات الاجتماعية -السياسية التي كانت إيران تمر بها في ذلك الوقت. كان أهمها الثورة الدستورية الإيرانية (1906- 1911)، التي اندلعت بسبب عدم الرضا عن الركود الاقتصادي، وتأثير القوى الغربية، ونتائج الثورة الروسية عام 1905. في تلك الفترة، نظرت النخبة الاجتماعية- السياسية إلى الحداثة باعتبارها حلاً للتحديات العميقة التي تواجه البلاد. فلم يستهدف هذا السعي نحو التحديث المؤسسات السياسية فحسب، بل كان له أيضاً تأثيرٌ على الحياة الأدبية الإيرانية.

فقد جادل روّادٌ أمثال اخوندوف، وكرماني، وملكم خان، ودهخدا، وبهار أن الشعر ينبغي أن يعكس واقع مجتمعٍ يمر بمرحلةٍ انتقالية. وبالتالي، تحدوا النظام التقليدي للشعر الفارسي وانشغاله بعلم المعاني اللغوي والبُنية الشعرية. كما استوحى معظم هؤلاء المجددون، بشكلٍ كبير، من تطور الأدب الأوروبي. وفي نفس الوقت تقريباً، جلب أوائل الخريجون الإيرانيون من الجامعات الأوروبية الأفكار والترجمات الجديدة لأهم الآداب والفلسفات الغربية. مهدت وجهات النظر الجديدة هذه والرغبة في التغيير الطريق أمام تحولٍ جذري في الأدب الإيراني.

يعتبر نيما يوشيج (1897-1960) أبو الشعر الفارسي الحديث، والذي كسر العديد من القيود وقدم أساليب وتقنياتٍ جديدة. وباعتباره شاعراً متمرداً، حرر الشعر الفارسي من أغلال علم العَرُوض (وزن الشعر). ولعله يُعرف على وجه الخصوص بسماحه بتحديد طول بيت الشعر وفقاً لتعقيد الفكرة بدلاً من الطول التقليدي للبيت. فقد كان ما يُسمى بالشعر “النيمي” بوابةً لتقليدٍ جديد حظي بتأييد العديد من الشعراء اللاحقين، بمن فيهم سهراب سبهري وأحمد شاملو وفروغ فرخزاد، الذين استمروا في تطوير الشعر الحديث. فقد انتقدت فارخزاد (1934-1967)، التي وصفت بأنها سيلفيا بلاث الإيرانية، الحدود الأبوية للمجتمع الإيراني وتحدت مكانة المرأة داخلها.

ومع ذلك، لا يكتمل الحديث عن الأدب الإيراني الحديث دون ذكر صادق هدايت (1903- 1951)، الذي يُعتبر على نطاقٍ واسع عرّاب الرواية الفارسية الحديثة. فقد جذبته إلى حدٍ كبير الأعمال الأدبية لإدغار ألان بو، وغي دي موباسان، وراينر ماريا ريلكه، وفرانز كافكا، وأنطون تشيخوف، وفيودور دوستويفسكي. وكان أول شخصٍ يُترجم أعمال كافكا وتشيخوف إلى الفارسية، كما ألف مقدمة شاملة للنسخة الفارسية لقصص كافكا. وعلاوة على ذلك، كان شخصيةً بارزة في الدوائر الفكرية في طهران وكان ينتمي إلى المجموعة الأدبية المعادية للملكية والمعادية للإسلام والمعروفة باسم الأربعة.

كانت رواية البومة العمياء (1937) لهدايت، والتي امتازت بالتشاؤم وتأثره بأعمال كافكا، أول روايةٍ حديثة باللغة الفارسية. فقد كان الكتاب رد فعلٍ على المناخ الاجتماعي- السياسي القمعي الذي عجز عن تحقيق المُثل العليا للثورة الدستورية. كما كتب عدداً من القصص القصيرة المهمة التي انتقدت بشدة الهياكل السائدة في المجتمع الإيراني. بدأ هدايت، وهو رجلٌ سوداوي بشدة، بالإبتعاد عن أصدقائه وسعى لإيجاد العزاء في المخدرات والكحول، لينتقل في نهاية المطاف إلى باريس، حيث أنهى حياته منتحراً.

كانت الحرب العالمية الثانية، التي أسفرت عن احتلال إيران من قبل قوات الحلفاء، نقطة تحولٍ أخرى للأدب الإيراني الحديث. فقد أسفر وصول القوات الأجنبية إلى إضعاف قدرة الحكومة الإيرانية على فرض رقابتها المعتادة إلى حدٍ كبير، كما ازدهر النشاط السياسي والمنشورات المستقلة. وبين عامي 1941 و1947، تم تأسيس حوالي 500 صحيفة ومجلة. كما مهد المناخ الفكري المتجدد الطريق أمام تأسيس المؤتمر الأول للكتاب الإيرانيين في عام 1946. وقد ظهر خلال هذه الفترة بعض أهم الكتاب الإيرانيين مثل جلال آل أحمد وإبراهيم غولستان وصادق جوبك.

عكس معظم الأدب القصصي الذي كُتب في تلك الفترة التحديات الاجتماعية- السياسية للمجتمع الإيراني، حيث انتقد مؤلفون مثل جوبك الخرافات الدينية وبدأوا يكتبون عن حياة الشرائح الأكثر فقراً في المجتمع. فقد كان بزرك علوي (1904-1997) كاتباً سياسياً مؤثراً وعضواً مؤسساً لحزب توده الشيوعي في أربعينيات القرن الماضي. وفي أعقاب الانقلاب الذي أطاح بالرئيس المنتخب ديمقراطياً محمد مصدق في عام 1953، ذهب علوي إلى المنفى في ألمانيا. وبالرغم من عودته بعد فترةٍ وجيزة بعد الإطاحة بالشاه في عام 1979، إلا أن المناخ السياسي المعادي ما بعد الثورة أجبره على العودة إلى ألمانيا، حيث عاش إلى أن توفي هناك. تعتبر رواية چشمهايش (عيناها)، التي نُشرت عام 1952 وحظرتها السلطات على الفور أفضل روايةٍ لعلوي.

كما شكلت الثورة نقطة تحولٍ أخرى للأدب الإيراني، ففي السنوات التالية، كان هناك فترة قصيرة من الحرية عززت كلاً من المنشورات المستقلة والأنشطة الفكرية الأخرى. بيد أن هذا المناخ المتفائل والمفعم بالنشاط لم يدم طويلاً، فقد شهدت الثمانينيات أسوأ العقود التي عاشها الأدب الإيراني، إذ قوّض القمع الإسلامي، والحرب مع العراق والمشاكل الاقتصادية المُلّحة، من بين أمورٍ أخرى، آفاق الكتّاب الذين لم يختاروا المنفى. ومع ذلك، تغير المشهد الأدبي مجدداً مع وصول الإصلاحي محمد خاتمي إلى السلطة عام 1997.

مهد الإنفتاح السياسي الطريق أمام ظهور جيلٍ جديد من الكتّاب الشباب، واكتسب كتّاب أمثال زويا بيرزاد وحسين سنابور إشادةً من النقاد وجمهورٍ كبير. وفي هذه الفترة، ظهرت العديد من الصحف الإصلاحية التي جذبت جمهوراً واسعاً. كما كانت الصفحات الأدبية تحظى بشعبية، وتم إنشاء عدد من الجوائز الأدبية غير الحكومية. وقد مُنحت نصف هذه الجوائز لنساء، إذ كان نصف هؤلاء النسوة يكتبنّ لأول مرة. وعلى الرغم من أن “حقبة الإصلاح” هذه كانت تعتبر مرحلةً جيدة للأدب الإيراني، إلا أن رئاسة محمود أحمدي نجاد من عام 2005 إلى عام 2013 فرضت مرةً أخرى نظام رقابةٍ صارم. وبعد وصول حسن روحاني إلى السلطة عام 2013، تحسن الوضع، ولكن لا يزال المناخ الاجتماعي- السياسي والاقتصادي غير مضيافٍ إلى حدٍ كبير بالنسبة للكتّاب.

وعلى الرغم من أن بعض الأشكال الفنية الأخرى مثل السينما وجدت طريقةً للنجاة والازدهار منذ الثورة الإسلامية، إلا أن الأدب الإيراني كان أكثر عرضةً للديناميات الاجتماعية- السياسية في البلاد. وبينما لم يتغير الشغف تجاه الأدب الكلاسيكي وحب الشعر، إلا أن الأدب الإيراني الحديث يواجه مرحلةً صعبة أخرى.

Advertisement
Fanack Water Palestine