وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

التّاريخ الغنيّ للهندسة المغربيّة

التّاريخ الغنيّ للهندسة المغربيّة
تظهر هذه الصورة أحد شوارع وسط مدينة فاس المغربية. فاضل سينا / وكالة الصحافة الفرنسية

كميل-جان حلو

اتّخذت الهندسة المغربيّة شكلها التّقليديّ عبر قرون من التّاريخ، إذ تركت فترات متتالية من الحكم الأجنبيّ والهجرة بصمتها على أسلوب البناء الإبداعيّ للبلد والمنطقة.

مرّ شمال إفريقيا، منذ خمسة آلاف سنة، بفترة من التّصحّر السّريع، حدّت بشكل ملحوظ التّنوّع في الموادّ المتاحة للبناء، فارضة بذلك قيودًا صارمة على حجم المستوطنات البشريّة وموقعها. كان الأمازيغ الّذين عاشوا في هذه المنطقة، مستقرّين أحيانًا ورُحَّل أحيانًا أخرى، ومنظّمين في قبائل مستقلّة تتشارك روابط ثقافيّة وطيدة. ولقد بنوا مدنًا مُسوَّرة بالتّربة المدكوكة والطّوب الطّينيّ لحماية أنفسهم من الغزاة الرُّحَّل، وزيّنوها بالشّبابيك الوهميّة والزّخارف الهندسيّة (الّتي كانت تحمل بالنّسبة إليهم معاني روحيّة).

وحوالى الألفيّة الأولى قبل الميلاد، توسّعت الحضارة الفينيقيّة لتشمل المنطقة السّاحليّة للمغرب الحديثة، منشئة بذلك مدينة تنجيس (طنجة في ما بعد)، ولقد حظيت مخلّفاتها المعماريّة بدراسات أثريّة معمّقة. إضافة إلى ذلك، بنى الفينيقيّون علاقة تجاريّة مربحة مع الأمازيغ نتج عنها تلاقح ثقافيّ حضاريّ.

وفي العام 500 قبل الميلاد، هاجر عدد كبير من الشّعب اليهوديّ المنفيّ بفعل اعتداء البابليّين على وطنهم، إلى شمال إفريقيا ونجحوا بالتّغلغل في مجتمعات الأمازيغ المحلّيّة.

بعد ذلك، في عام 300 قبل الميلاد، سعت الإمبراطوريّة الرّومانيّة إلى احتلال المنطقة، لكنّها واجهت صدًّا عنيفًا من قِبل القبائل المستقلّة والممالك الصّغرى. وبعد قرنين من الصّراع، نجحت الإمبراطوريّة الرّومانيّة بالسّيطرة على المنطقة السّاحليّة، وإخضاع قبائل داخليّة متعدّدة من الأمازيغ (المُشار إليهم بالبربر، مصطلح محقِّر أصله الكلمة الرّومانيّة “بربريّ”).

عندما انتشرت الدّيانة المسيحيّة بين مقاطعات الإمبراطوريّة (القرنان 2 م و4 م) تجذّرت في الأراضي الرّومانيّة في المغرب واعتنقتها قبائل كثيرة. وعلى الرّغم من دوام عدم الاستقرار بسبب ثورات الأمازيغ المتكرّرة، ترك المعماريّون الرّومانيّون إرثًا معماريًّا غنيًّا في المنطقة. فلقد بنوا معالم وبُنى تحتيّة بالأسلوب الرّومانيّ التّقليديّ، وأنشأوا شبكة طرقات واسعة ومترابطة على امتداد الأراضي المغربيّة. بعض الصّروح الرّومانيّة بقيت حتّى اليوم، لكنّ معظمها نُهِب وفُكّ بعد سقوط الإمبراطوريّة.

وفي عام 429 م، نجحت القبائل الجرمانيّة، بخاصّة الفاندال والقوط الغربيّين، في السّيطرة على الأراضي السّاحليّة. ونتجت عن حكمها القصير الأمد آثار معماريّة قليلة جدًّا (غالبيّتها كنائس)، وذلك لاعتمادهم الكبير على الأساسات الرّومانيّة الّتي كانت موجودة، ولبنائهم إنشاءات خفيفة وسريعة الفناء.

وفي حلول عام 533 م، كانت الإمبراطوريّة البيزنطيّة قد أخرجت آخر القوّات الجرمانيّة من سواحل المغرب. ولقد تميّزت هذه الفترة بتزايد استقلاليّة الأمازيغ وتوسّع مستوطناتهم القبليّة.

أجبر التّعصّب الإسبانيّ، عام 581 م، المجتمعات المضطهدة على الهروب إلى المغرب، موسّعة بذلك الأعداد الكبيرة من اليهود المقيمين في المنطقة. وحتّى القرن السّادس، كانت الغلبة في المنطقة للمباني الدّينيّة المسيحيّة واليهوديّة، من كنائس ومعابد.

عام 662 م (ثلاثون سنة بعد وفاة النّبيّ محمّد) بدأ الخليفة الأمويّ بغزو المغرب، معرّفًا الشّعب على الدّيانة الإسلاميّة، واللّغة العربيّة، والتّقدّم المعماريّ الكبير.

التّاريخ الغنيّ للهندسة المغربيّة
مصلون مسلمون يؤدون الصلاة في مسجد الحسن الثاني، أحد أكبر المساجد في القارة الأفريقية، في الدار البيضاء المغربية. فاضل السنا / وكالة الصحافة الفرنسية

تُظهِر الآثار المتبقّية من هذه الفترة تحسّنًا ملحوظًا في شغل الحجر والخشب، كما أنّها تبيّن اعتناق أفراد القبائل الإسلام، وتزاوجهم مع العرب، ودفعهم الضّرائب، وحتّى مشاركتهم إلى جانب الأمويّين في غزو جنوب إسبانيا. غير أنّ هذه الآثار تكشف لنا أنّهم سعوا إلى الحفاظ على هويّتهم الثّقافيّة بالحفاظ على تراتبيّتهم الاجتماعيّة والالتزام بقانون القبيلة العُرفيّ. وبذلك شكّلوا نوعًا من ثقافة هجينة تركت بصماتها المميّزة على عمارة تلك الفترة.

وعلى الرّغم من الرّوابط بينهم وبين العالم العربيّ، سعى الأمازيغ إلى الحصول على حقّ تقرير المصير، ولذلك من خلال الثّورات القبليّة المتتالية، استعادت المنطقة استقلالها تدريجيًّا عن الخليفة الأمويّ وخَلَفه العبّاسيّ، لتعود فتنقسم إلى ولايات صغيرة عند نهاية القرن السّابع. وهكذا بقي المغرب منقسمًا وعُرضة للنّزاعات الدّاخليّة إلى حين اتّحاده من جديد تحت حكم المملكة المرابطيّة (1055 إلى 1152 م) (عندما عاد القائد القبليّ يوسف بن تشفين إلى شمال إفريقيا بعد حملاته العسكريّة النّاجحة في إسبانيا، واستخدم هذا الزّخم السّياسيّ لإنشاء إمبراطوريّة امتدّت جنوبًا حتّى السّينيغال ونيجيريا).

أدّت هذه الفترة من الرّخاء الاقتصاديّ إلى ابتكار أهمّ الأمثلة للعمارة المغربيّة التّقليديّة، إذ أُعيد بناء المدن الكبرى (مثل مراكش عام 1062 م، وفاس عام 1069 م). ولقد رغب العالم بأسره بنقل المباني العظيمة في الإمبراطوريّة، لتصاميمها المتأثّرة بالأساليب الإسلاميّة بشكل كبير إنّما المميّزة بطابع شمال إفريقيّ.

كذلك، أسهم التّقدّم في مجال العلوم وعلم الهندسة في بلوغ شغل الحجر ذروته، وسمح الاستقرار السّياسيّ بازدهار الفنون. وفي هذه الفترة، تمتّعت الأقلّيّات المسيحيّة واليهوديّة في المغرب بالرّخاء، تاركة بصمتها على الهندسة في ذلك الوقت، على شكل أماكن عبادة ضخمة.

التّاريخ الغنيّ للهندسة المغربيّة
منازل نموذجية في الملاح أو الحي اليهودي ، تأسست عام 1438 عندما طرد اليهود من البلدة القديمة إلى الملاح ، فاس ، فاس بولمان ، شمال المغرب. مانويل كوهين / وكالة فرانس برس

وبعد سقوط الإمبراطوريّة (القرن الثّالث عشر)، حُكِمت الأراضي الّتي تتضمّن المغرب من قبل أُسَر متعاقبة من الأمازيغ، لكن لم يتمكّن أيّ منها من مضاهات نجاح سلفه. عانى الفنّ والهندسة نتيجة لذلك انحطاطًا حادًّا، كما وشكّلت الموجات المتقطّعة من الاضطهادات ضدّ الأقلّيّات الدّينيّة ضربة قاضية للتّنوّع السّكّانيّ.

في عام 1554 م، احتلّت الإمبراطوريّة العثمانيّة فاس وعيّنت تابعًا لها على العرش المغربيّ. إنّما ظلّ الحكم العثمانيّ جزئيًّا بسبب المقاومة القبليّة والتّدخّل الإسبانيّ. ومع ذلك، ترك أسلوب الإمبراطوريّة الإبداعيّ بصمته على الهندسة المغربيّة.

بعد الحروب النّابّوليونيّة (1815 م)، خسرت اسطنبول تدريجيًّا قدرتها على حكم أراضيها الشّمال إفريقيّة. وأثناء خروجها عن الحكم العثمانيّ، استطاعت الأُسرة العلويّة (الّتي ما زالت تحكم المغرب حتّى يومنا هذا)، أن تبقى مستقلّة على الرّغم من التّدخّل الأوروبّيّ المتصاعد. ولقد اكتسب المغرب في هذه الفترة سمعته كـ”معقل للقراصنة” و”عرين للجواسيس“، لطمع كلّ القوى العالميّة الكبرى به بشدّة،  إنّما حفاظه على استقلاله عن حكم أيّ منها.

ولسنوات عديدة، سعى الفرنسيّون وراء أيّ حجّة تمكّنهم من زيادة وجودهم العسكريّ في المغرب، إلى أن أُجبِر حاكمه على الموافقة على شروطهم. وهكذا في عام 1912، أصبحت غالبيّة البلد مستعمرة فرنسيّة، فيما وُضعت منطقة شماليّة وأخرى جنوبيّة منه تحت سيطرة إسبانيا. كانت الموضة في التّنظيم المدنيّ آنذاك تميل إلى الحفاظ على المباني التّاريخيّة، ولهذا السّبب، قرّر مستعمرو المغرب بناء أحيائهم الأوروبّيّة الحديثة خارج المدن الموجودة في الأصل مباشرة، وذلك حفاظًا على المراكز الحضريّة التّاريخيّة كما هي. ولقد خدمت أنظمة البناء الصّارمة في الحفاظ على التّباين الحادّ بين العمارة المحلّيّة والأجنبيّة، خالقة نوعًا من التّمييز الحضريّ.

وبعد عقود من النّضال، حقّقت دولة المغرب استقلالها عن الفرنسيّين عام 1956، وعن الإسبان عام 1958، لكن بقيت الهندسة المغربيّة ما بعد الاستعمار متأثّرة بالأساليب الأوروبّيّة بشكل كبير.

منذ ذلك الحين، دفعت الحاجة إلى الإنشاء سريعًا وبكلفة زهيدة، المهندسين المغربيّين العصريّين إلى البناء بالأسلوب المبتذل العمليّ نفسه الّذي يمكن إيجاده في كلّ مدينة حول العالم، بدلًا من التّوسّع في الأسلوب المغربيّ التّقليديّ الفريد وتطويره وعصرنته. ففي النّهاية، لقد صُقِلت العمارة المغربيّة التّقليديّة عبر عصور من المحاولة والخطأ لتتناسب مع المناخ والثّقافة المحلّيّين.

يتألّف المنزل المغربيّ التّقليديّ من طابقين إلى ثلاثة طوابق تحيط بفناء مركزيّ.

وبنيت جدرانه الخارجيّة من صخور متعرّجة مختلفة الأشكال، مصبوبة في ملاط كثيف، ومكسوّة بالجصّ. هي بيضاء وغير مزخرفة على مستوى الأرض (نتيجة التّقليد الإسلاميّ الّذي يركّز على التّواضع)، ومزيّنة بأشكال هندسيّة طفيفة في الأعلى (بطريقة تذكّرنا بالمنشآت الأمازيغيّة القديمة).

الشّبابيك المطلّة على الشّوارع كانت قليلة جدًّا، فأكثريّتها مطلّ نحو الدّاخل على الفناء المركزيّ، إذ كانت الخصوصيّة أولويّة.

يعتلي المدخل الرّئيسيّ، قوس حدوة الحصان المميّز (أطرافه السّفلى تلتوي داخليًّا في اتّجاه بعضها بعضًا)، ميزة مُستقطَبة من أندلس القرن العاشر، ورمز للعمارة المغربيّة.

يدخل سكّان المنزل من باب مزخرف يؤدّي إلى الفناء الرّئيسيّ من خلال ممرّ على شكل “ل” مصمّم بطريقة تمنع المارّين في الخارج من النّظر إلى داخل المنزل عندما يكون الباب مفتوحًا.

وتخبّئ الرّصانة الخارجيّة للمنازل المغربيّة كنز دفين من العبقريّة الجماليّة. فغالبًا ما كانت جدران منازل الأغنياء تزيّن بزخارف خشبيّة وبألواح محفورة من الجصّ، وتضفي الصّخور المتعّددة الألوان والمتشابكة الحياة على الأرضيّات، أمّا الأسقف فكانت تُظهِر زخارف مُزهَّرة بتكامل سلس مع أنماط من الأشكال الهندسيّة.

تقف في كلّ زاوية من الفناء المربّع أو المستطيل مجموعة من ثلاثة أعمدة، تدعم شرفات متّصلة ببعضها من كلّ جانب.

وغالبًا ما كانت توضع في وسط المساحة نافورة أو ديكور مائيّ، كجزء من نظام تحكّم مناخيّ فعّال يوفّر جوًّا منعشًا ومريحًا للسّكّان والضّيوف. تساهم أيضًا الفتحات والتّراكيب المُظلِّلة الموزَّعة بدقّة في التّبريد السّلبيّ للمساحات الدّاخليّة في أشهُر الصّيف.

كما يلتفّ حول الفناء رواق يوصل المقيمين إلى أقرب الغرف، فيما تؤدّي ممرّات متفرّعة إلى أعماق المنزل، نحو فناءات ثانويّة وغرف أكثر خصوصيّة، أمّا الطّوابق العلويّة فتصعد إليها سلالم مخفيّة.

بالتّطابق مع التّقليد الإسلاميّ، ينقسم المنزل بحسب الجنس. فالنّساء يعشن ويعملن في أعمق أقسام المنازل، بحيث لا يراهنّ الرّجال من الأقارب والزّوّار. لكنّ بعض مواضع المراقبة المخفيّة تسمح للنّساء بتتبّع ما يحدث في بقيّة المنزل من دون أن يراهنّ أحد.

لقد تطوّر تصميم المنزل المغربيّ التّقليديّ ليعكس أهمّيّة حسن الضّيافة في الثّقافة المغربيّة. ومثل هذه المنازل تضمّ عادة غرفًا مخصَّصة للضّيوف، مستقلّة نسبيًّا ومداخلها منعزلة.

الإقامة في مثل هذه المنازل، في أيّامنا الحاضرة، يتخطّى بالتّأكيد القدرة الشّرائيّة للكثيرين. إلّا أنّه يمكن تطبيق المبادئ الّتي يرتكز عليها هذا التّصميم والدّروس المُكتسَبة من عصور من التّجريب، بكلّ سهولة في سياق عصريّ.

فيمكن لشقّة في مبنى سكنيّ مثلًا، أن تكون بالقدر نفسه من الهدوء، والاستدامة، والقدرة على الحفاظ على خصوصيّة المقيمين فيها. كما يمكنها أن تعزّز الأواصر العائليّة، وتنظّم التّفاعل مع المجتمع، وتسهّل استضافة الضّيوف. يمكنها أيضًا أن تُصمَّم بطريقة تتلاءم مع ثقافة مستخدميها، وحتّى أن تُضبط بحسب عاداتهم وتقاليدهم المشتركة، لكن بشرط أن يكون مصمّمها مستعدًّا لاتّخاذ العبرة من التّاريخ.

Advertisement
Fanack Water Palestine