يوفر موقع فَنَك لمحة عامة عن تاريخ المغرب من حاضره إلى ماضيه، مروراً بالأحداث الفاصلة التي رسمت حاضر وهويّة هذه الدولة من نظرة المؤرّخ.
مقدمة
يُشاع عن المغرب أنه فسيفساء تمتزج فيها الحداثة بالتاريخ. فمدنها أوروبية المظهر، والمجمعات السكانية والمصارف والمكاتب تجاور المدن والمساجد القديمة وحصونها العتيقة.
وخارج حدود المدينة، يعتمد الريف المغربي على الزراعة. فتجد الأراضي الزراعية الكبيرة التي ترويها السدود الضخمة إلى جانب الأراضي الصغيرة التي تعتمد على حالة الطقس. ووراء ذلك كله يقع المغرب الأقدم الذي نجد فيه أراض قاحلة يعيش أهلها على محاصيل الواحات ويعتمدون على المياه الجوفية في الزراعة. وتتخلل المناطق الصحراوية الوجود الهائل للصناعة الحديثة إذ يُستخرج منها الفوسفات.
تمتلئ تلك المناظر الحضرية والريفية بمظاهر أصغر من الوجود البشري: رجال ونساء يرتدون ملابس غربية يتنقّلون في الشوارع جنباً إلى جنب مع رجال يرتدون الجلباب ونساء يغطين وجوههن.
لكن تفاصيل المدن والبيئة هي التي تجسّد سمات المغرب الفريدة. فلافتات الشوارع والملصقات الإعلانية ورسوم الغرافيتي، فضلاً عن وسائل الإعلام، كلها تستخدم اللغات العربية والفرنسية والأمازيغية (أو البربرية). وصور الملك لا تُوجد في الجهات الحكومية والمباني العامة فحسب، بل نجدها كذلك في المطاعم الراقية والشعبية والبيوت. فنجد أن مثال الفسيفساء تشوّشه طبقات الزمن.
في هذا القسم، يستكشف فنك جذور هذا التشابك.
العصور القديمة
برزت حدود المغرب الصحراوية في الألفية الثالثة قبل الميلاد. وغزا الرومان الجزء الشمالي لما سيصبح المغرب اليوم وأسسوا مدينة وليلي العظيمة التي كانت محاطة بالزراعة المستقرة مرتبطة بالاقتصاد التجاري لحوض البحر الأبيض المتوسط. وكان الأمازيغ أسلاف سكان المغرب الحديث.
دخول الإسلام
برزت الروابط الثقافية مع المشرق العربي عندما أدخل الفاتحون العرب الإسلام إلى المغرب في أوائل القرن الثامن الميلادي. فقد انضم الرجال الأمازيغ إلى جيوش القائد طارق بن زياد، والي طنجة، التي غزت إسبانيا من الجنوب. وقد وصل حكم الإسلام لفترة إلى جنوب فرنسا. وصارت مدينة فاس المغربية الجديدة مركزاً كبيراً للتجارة والصناعة وعلوم الإسلام. وكانت فاس عاصمة الدولة الإدريسية في أواخر القرن الثامن، وهي التي يعتبرها بعض القوميين المعاصرين أول دولة مغربية.
سلالات البربر: المرابطون والموحدون وبنو مرين
من أوائل القرن الحادي عشر وحتى مطلع القرن الثالث عشر، حكمت المغرب سلالات أمازيغية متعاقبة. وربط المرابطون والموحدون شرعيتهم باتّباعهم “الإسلام النقي”.
جاء المرابطون من الصحراء الكبرى وأسسوا مدينة مراكش العظيمة. وقد وصل حكمهم إلى الجزائر الحديثة، لكن مركزهم كان في الصحراء الكبرى حيث يُوجد الذهب. أما خلفاؤهم الموحدون، فقد اتجهوا شرقاً عبر الجزائر وتونس حتى حدود ليبيا الحديثة.
أرسلت كلتا الدولتين جيوشهما إلى الأندلس المسلمة في شبه الجزيرة الإيبيرية. وساعدتا في مقاومة توغّل المسيحيين من الشمال، وسيطرتا لفترة على مناطق واسعة مما يُعرف الآن بإسبانيا والبرتغال.
في منتصف القرن الثالث عشر، ضعفت سلطة الموحدين واستولى بنو مرين (المرينيون)، الذين كانوا جزءاً من جيش الموحدين، على معظم أراضي المغرب الحديث. كانت الحدود مبهمة، لكنهم اتجهوا جنوباً عبر غرب الجزائر إلى مركز التجارة الصحراوية في سجلماسة. لكنهم فشلوا في إحكام سيطرتهم على الأندلس.
بدأ المغرب في التشكّل بطريقة أخرى، إذ ازدهرت مدن بني مرين المحصنة وأصبحت فاس مركزاً رئيسياً للعلوم الإسلامية التقليدية. وبنى المرينيون المدارس لتعليم الفقه المالكي. لكن بدأت سيطرة شيوخ الصوفية وعائلات الأشراف المنحدرة من النبي محمد تتزايد على الريف.
سلالات الأشراف: السعديون والعلويون
بدعم شعبي وتبجيل كبير، قاد كبار الأشراف والطرق الصوفية المقاومة ضد الغزاة الإسبان والبرتغاليين الذين احتلوا عدة مناطق على طول الساحل. فقد احتل البرتغاليون سبتة عام 1415 وطنجة عام 1471 عند مصب البحر المتوسط، ثم اتجهوا جنوباً عام 1515 نحو مدينة الجديدة (مازغان آنذاك). وفي عام 1497، احتلّ الإسبان أول موقع لهم على البحر المتوسط في مليلية. وبعد ذلك فقد البرتغاليون كل مستوطناتهم ما عدا سبتة التي انتقلت إلى سيطرة إسبانيا وبقيت كذلك حتى اليوم. وانتهى المطاف بطنجة في أيدي البريطانيين قبل أن تصبح العاصمة الدبلوماسية للمغرب ومنطقة خاضعة للسيطرة الدولية في القرن العشرين.
وضع السعديون، أولى سلالتي الأشراف، الحدود الشرقية للمغرب الحديث من خلال كبح تقدّم الإمبراطورية العثمانية. وتوغّل السلطان أحمد المنصور (حكم بين عامي 1578-1603) جنوباً في الصحراء الكبرى. وشجّعت المناطق الكبيرة التي سيطر عليها بعض القوميين في القرن العشرين على المطالبة بمناطق من الجزائر، ومعظم موريتانيا، والأراضي التي أصبحت تُسمّى الصحراء الغربية التي ما تزال محلّ نزاع حتى اليوم بين المغرب وجبهة البوليساريو.
انهارت سلالة السعديين عام 1603 بعد تفشّي الطاعون واندلاع حرب أهلية بين أبناء أحمد المنصور. واستمرّت تلك الحرب نصف قرن حتى استولت عائلة أخرى من الأشراف، العلويون، على الحكم في منتصف القرن السابع عشر.
العلويون
بدأ المغرب الحديث مع عهد أول سلطان علويّ، مولاي إسماعيل (1672-1727). فقد فرض سيطرة مشددة على الأراضي التي شملت في بعض الأحيان مناطق من الصحراء الكبرى. ورغم اندلاع حروب أهلية في فترات لاحقة، لم تخسر السلالة سلطتها على المغرب، بل ما زالت تحكمه حتى يومنا هذا. وهي العائلة المالكة الأقدم في بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا المسلمة.
زحف القوى الأوروبية في القرن التاسع عشر
نمت القوة الاقتصادية والسياسية الأوروبية منذ منتصف القرن التاسع عشر. لكن القوى الأوروبية كانت تتنافس على السيطرة على أقصى شمال غرب إفريقيا.
كانت المغرب دولة عصية على الاحتلال، فالمقاومة كانت هائلة، خاصةً في الريف والجبال والصحاري. ولذلك لم تنفرد أي قوة أوروبية باستعمار المغرب، بل خضع لحماية اثنتين منهم.
فقد قسّمت معاهدة فاس المغرب بين فرنسا وإسبانيا عام 1912. كما أقرّت المعاهدة السيطرة الإسبانية على جيوبها الساحلية ومستعمراتها القاحلة في الصحراء الغربية في الجنوب التي سيُثار النزاع عليها لاحقاً.
الحمايتان الفرنسية والإسبانية
نصّت معاهدة فاس على ألّا تمتلك فرنسا وإسبانيا مستعمراتهما، بل تديرها تحت الحماية، مما يحفظ سلطة العلويين وسيادة السلطان. لكنها ما كانت إلا سيادة رمزية تحفظ شرعية الحماية الاستعمارية والهوية المغربية التي ستتطور حولها الحركة الوطنية لاحقاً.
فرضت القوتان الاستعماريتان سيطرتهما على الجبال والصحاري بالقوة. لكن لم تتحقق السيطرة الكاملة للفرنسيين إلا في أوائل الثلاثينيات. واضطُر الإسبان إلى شنّ حرب شاملة لفرض سيطرتهم. وجاءت المقاومة من جبال الريف التي ألحقت بالجيوش الاستعمارية أكبر هزيمتين في القرن العشرين. لكن الغزو الإسباني الفرنسي المشترك أدى إلى سقوط مقاومة الريف عام 1926.
أنتجت الحماية الفرنسية اقتصاداً استعمارياً استيطانياً في أراضي المغرب الخصبة، وطوّرت الاتصالات والمناطق الحضرية، لكن غالبية السكان ظلّوا فقراء. واحتشدت حركة وطنية في الحضر بين الطبقة الوسطى حول السلطان محمد الخامس.
لكن المنطقة الإسبانية كانت أقل تطوراً على الصعيدين الاقتصادي والسياسي.
الاستقلال
عندما غزت القوات الأمريكية المغرب في أعقاب الحرب العالمية الثانية، ألحقت الحركة الوطنية نفسها بالملكية التي كانت متحالفة أيديولوجياً مع التحالف الغربي وكذلك بالحركة القومية العربية. وبعد الاستقلال عام 1956، اتحد شطرا المغرب المستعمرين وغيّر محمد الخامس لقبه إلى ملك. وأقام هو وابنه الحسن الثاني، الذي خلفه عام 1961، ملكية دستورية تتنافس فيها الأحزاب الوطنية المختلفة على السلطة.
لكن القصر لم يسمح بممارسة السياسة بحرية، وواجه حركات المعارضة بقمع متعسف، خاصةً خلال السبعينيات والثمانينيات. ففي عهد الحسن الثاني (1961-1999)، اعتُقل العديد من اليساريين والإسلاميين واحتُجزوا لفترات طويلة وتعرّضوا للتعذيب. لكن المظاهر الديمقراطية بقيت على حالها. فقد أُجريت انتخابات لم تكن قط حرة ولا نزيهة، لكنها وفّرت مساحة للملك لدمج العديد من الفاعلين السياسيين للتغلب على المعارضة. كما حصل الملك على الدعم بعد الدمج القسري لمستعمرة الصحراء الإسبانية مدّعياً وجود روابط قديمة مع سكانها.
الحرب على الصحراء الغربية
في عام 1975، سيطر المغرب على الصحراء الغربية. لم تكن الصحراء الغربية رمزاً قومياً مهماً فحسب، بل كانت تتمتع باحتياطيات هائلة من الفوسفات. في البداية، قُسّمت الصحراء الغربية بين المغرب وموريتانيا، لكن الموريتانيين سرعان ما استسلموا بسبب المقاومة الحازمة من جبهة البوليساريو. لم يقدر الملك الحسن على فرض سيطرته على المنطقة بأسرها إلا من خلال بناء جيشه سلسلة من الجدران الرملية بامتداد الصحراء وتطهير الأراضي الداخلية.
التحضيرات لتغيير النظام (1980-2000)
أدت الحرب الباهظة على الصحراء الغربية، بالإضافة إلى الركود العالمي في الثمانينيات، إلى مشكلات اقتصادية جعلت الملك الحسن يدرك أن عليه أن يترك لابنه محمد إرثاً مستقراً، ففتح الاقتصاد والنظام السياسي. وفي أواخر التسعينيات، أطلق سراح السجناء السياسيين وشجّع استثمار رؤوس الأموال.
ملكية جديدة
خلف محمد والده ملكاً عام 1999، وواصل إصلاح الاقتصاد والحياة السياسية. وأدت المصالحة السياسية إلى إجراء تحقيقات في سنوات القمع. لكن المصالحة كانت في النهاية أكثر تحفظاً من مصالحات أخرى مماثلة في جنوب إفريقيا وأمريكا الجنوبية، إذ لم يُحاسب إلا قلة من المسؤولين. وقد تراجع القمع، لكنه بقي مستمراً، خاصةً ضد الإسلاميين.
في النهاية، عاد القصر إلى سياسة الملك حسن في دمج المعارضين المحتملين في النظام. إذ شارك أكبر الأحزاب الإسلامية، حزب العدالة والتنمية، في الانتخابات وفاز بالعديد من المقاعد، لكن القمع استمر ضد الجماعات الإسلامية المتطرفة. ولإدماج المعارضة الأمازيغية المتزايدة، عُدّل الدستور واعتُبرت اللغة الأمازيغية لغة رسمية، وشُجّعت الثقافة الأمازيغية.
المغرب بعد "الربيع العربي"
رغم الاحتجاجات الكبيرة المستلهمة من أحداث ليبيا وتونس ومصر، نجح النظام المغربي في تجاوز حركات “الربيع العربي” في 2011. وخلال العقد الذي تلاها، كسب النظام وقتاً بخوض حرب الصحراء الغربية. وسمح لحزب العدالة والتنمية الإسلامي بالسيطرة على الحكومة بعد فوز الحزب بأغلبية المقاعد في الانتخابات. واستمرت احتجاجات الأمازيغ، لا سيما في الريف، لكن الاقتصاد انتعش جيداً. وعندما تفشّت جائحة كورونا، كان النظام قوياً بما يكفي لاتخاذ إجراءات حاسمة للحدّ من انتشار المرض.