وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

المرأة في الثقافة البربرية

المغنية الأمازيغية فاطمة تبعمرانت تغني
المغنية الأمازيغية فاطمة تبعمرانت تغني أثناء أحد المهرجانات للاحتفال بالسنة الامازيغية الجديدة. Photo AFP

استُعمر البربر في شمال افريقيا، وتفاعلوا مع وعايشوا طويلاً كلاً من الفينيقيين والرومان والبيزنطيين. وبالكاد يذكر التاريخ المدوّن لهذه الحضارات المرأة. في الواقع، إن تاريخ النساء في حقبة ما قبل الإسلام مدون في الغالب في المسلات الجنائزية التي نصبت تكريماً لهنّ.

يُغاير هذا ثقافة البربر، حيث لعبت النساء دوراً بارزاً، فعلى سبيل المثال، لا تزال أسطورة الكاهنة ديهيا، وهي محاربة في حقبة ما قبل الإسلام، حيةً في ثقافة البربر ويستخدمها الشباب في الوقت الحاضر كرمزٍ للغة والثقافة البربرية.

تُذكر الكاهنة ديهيا لشجاعتها وقدرتها المستبصرة على قيادة شعبها ضد الغزوات العربية في القرن السابع الميلادي. فقد تغلبت على الاحتكار الذكوري للمؤسسة العسكرية لتصبح أسطورةً و”الملكة” الوحيدة غير المتوجة في التاريخ المغربي. ولدت ديهيا، التي يعني إسمها “الكاهنة” أو “النبية” في جبال الأوراس في الجزائر في القرن السابع؛ إذ أن التاريخ الدقيق لمولدها غير معروف.

وخلال حياتها، بدأ الجنرالات العرب بقيادة جيوشهم إلى شمال افريقيا، والاستعداد لفتح المنطقة وتعريف الشعوب المحلية بالإسلام. قادت ديهيا مقاومةً حازمة ضد هذه الغزوات، وحوالي عام 690، تولت القيادة الشخصية للقوات الافريقية، وفي ظل قيادتها الهجومية، اضطر العرب للتراجع لفترةٍ وجيزة.

وعلى الرغم من أن البربر في القرن السابع لم يكونوا متجانسين دينياً- فقد انتشر البربر المسيحيون واليهود والوثنيون في جميع أنحاء المنطقة التي باتت اليوم تُعرف بالمغرب وتونس والجزائر وليبيا– إلا أن ديهيا تمكنت من توحديهم ضد غزاتهم، لتقودهم في معركةٍ استمرت خمس سنواتٍ قبل أن تتعرض للهزيمة في نهاية المطاف. وقبل أن تسلب حياتها بيدها، أرسلت ديهيا أبناءها إلى معكسر العرب بتعليماتٍ بتبنيهم الإسلام ومشاركتهم العرب بقضيتهم. وبالفعل، أطاعوا أوامرها وشاركوا في غزو أوروبا وخضوع إسبانيا والبرتغال.

توصف ديهيا باعتبارها شخصيةً جمعت بين السلطة السياسية والدينية، ملكة البربر ومحاربةً قاتلت للدفاع عن شعبها وبلادها ضد الغزو العربي. وعلى الرغم من أنه من الصعب على العديد من المغاربة اليوم الاعتراف بهذه الشخصية الأنثوية القوية، إلا أن الشباب في العقود الأخيرة استخدموا شجاعة ديهيا للدفاع عن الحرية الشخصية وتقرير المصير، وإيجاد مساحة للتصرف على الرغم من القيود الأبوية أو السيطرة على مصير المرء. وبعد الفتح العربي، واصلت نساء البربر لعب دور محوري في أسرهن ومجتمعاتهن، حيث تمكنّ من الجمع بين دينهم الإسلامي وتقاليد أسلافهن.

يشهد إرث المرأة البربرية على هذا. في الواقع، إن مزيج الأساطير والواقع الذي أحاط بآلهات ومحاربات البربر ما قبل الإسلام تمكن من شغل اللاوعي والخيال الجماعي للمغاربة اليوم. ويرجع ذلك أساساً إلى الدور الأساسي الذي تقوم به المرأة في نقل اللغة والثقافة البربرية من خلال الطقوس، والثقافة الشفاهية والفن.

تتمحور هذه الطقوس حول الشفاء والخصوبة والعبادة والرثاء ودورات الحياة. وتهدف الطقوس، العامة والسرية، إلى تحقيق الرضى الشخصي والمجتمعي بشأن التشريع الديني والروحانية والاحتياجات العاطفية وتعزيز الروابط الأسرية والاجتماعية وتحقيق الأهداف التربوية وما إلى ذلك. ومن الأمثلة على الطقوس المعروفة طقس (تاغنجا) أو (تاسليت أونزار) أي عروس المطر، والذي يعود إلى تقليدٍ قديم يشتمل على التجمع وغناء الأهازيج أمام الآلهة تانيت لمطالبتها بهطول المطر عندما تكون المياه شحيحة. يختلف أداء هذه الطقوس من منطقةٍ لأخرى إلا أن الاختلافات بسيطة.

وبشكلٍ عام، ينتقل الموكب من قريةٍ إلى أخرى ومن معبد قديسٍ إلى آخر. وفي الطريق يتم رش “العروس” بالماء من الشرفات والنوافذ من قبل السكان، ويُعطي الأهالي العطايا والصدقات لقائد الموكب، حيث تخصص موادها لتهيئة مأدبة طقوسية تقام قرب مجرى نهر أو على بيدر، أو في مزار، أو على قمة مرتفعة حسب المناطق.

إن الثقافة الشفاهية للمرأة البربرية موروثة عن الأجداد، ومتعددة الجوانب، وموجودة في كل مكان، وتغطي الشعر، والأغاني، والحكايات الشعبية وفن الخطابة الجماهيري وتختلف في المواضيع من الحب، والذات، والأسرة والمجتمع إلى النضال من أجل الاستقلال عن الاستعمار والحداثة.

كما كانت الثقافة الشفاهية بمثابة أداة ولاءٍ للغة. وبشكلٍ عام، فإن تركيب الحكايات الشعبية للنساء البربر معقدٌ للغاية وتصور خصائص داخلية وخارجية محددة. ويمكن تقسيم الخصائص الخارجية إلى ثلاثة خصائص: البداية، ومجموعة متغيرة من الحلقات المتصلة، والنهاية. أما داخلياً، فالروايات غير متسلسلة ولا يحددها زمانٌ أو مكان. ويتم ترميز المعلومات الأكثر وضوحاً بشكلٍ عام بطريقةٍ مميزة عن البقية، أي بأكثر وسيلة تربط الموضوع من وجهة نظر الراوي.

كما ترى النساء في رواية القصص وسيلةً قوية للحفاظ على وتخليد السلطة داخل الأسرة، سيما في الأسر الريفية الممتدة. وتعزز الجدات وضعهنّ من خلال تأجيل رواية نهاية القصة عمداً حتى الليلة التالية، مما يؤدي إلى استمرار التشويق. كما يستخدمن القصص لخلق ألفة وإعطاء الإنطباع أن ما لا يبحن به بأهميه ما يقولونه. بمعنى آخر، تخلق هؤلاء النساء سلطتهن الخاصة. يدل هذا أنه على عكس الآراء السائدة، فإن لغة المرأة ليست عاجزة. إن استراتيجيات رواية القصص لدى نساء البربر مفهومة في البيئات التي تشعر فيها النساء الأكبر سناً بأن زوجات أبنائهن الأصغر سناً يكتسبن “سلطةً أكثر من اللازم” من خلال إنجاب الأطفال، وبالتالي يسعين إلى الاحتفاظ ببعض السيطرة على الوالدين من خلال أطفالهن.

والأهم من ذلك، فإن النساء هنّ الفنانات في الثقافة البربرية. فالمرأة البربرية تعبر عن الفن من خلال نسج السجاد، وصناعة المنسوجات، ووشم الأجساد، وتزيين القدمين واليدين.

تُمارس هذه الطقوس النسائية منذ آلاف السنين. ومن المعروف أن التعبير البصري يتخطى أي شكلٍ من أشكال التدوين المكتوب، إذ تعكس أشكال وألوان ومعاني التعابير الفنية للمرأة البربرية قصصاً قوية. تُهيمن النساء على عملية النسيج، مما يبث الحياة، مجازياً، في المنسوجات. وفي المناطق الريفية، يقمن بتمشيط الصوف وغزله وصبغه لصنع البطانيات والشالات والسجاد الذي يتم نسجه على دولاب النَّول الأفقي الرأسي. ويُعتقد أن الصوف مشبّع ببركة كبيرة، ويُعتقد أن القليل من هذه البركة تنتقل إلى النساجين، وبالتالي تنتقل الطبيعة المقدسة للنسج. وعليه، تحظى النساء البربريات اللواتي يعملنّ بالصوف باحترامٍ كبير، ويُقال أن المرأة التي تصنع 40 سجادة خلال حياتها تضمن دخول الجنة بعد وفاتها.

يعتبر هذا الفن مصدر فخرٍ وثقةٍ بالنفس للأجيال القادمة، فهو يضمن الاستمرارية ويعزز القيم المجتمعية للأسرة، والدعم، والمشاريع وغيرها من الأمور. فالإرادة السياسية والتكنولوجيا (أطباق الأقمار الصناعية والإنترنت) تساعد في بقاء السجاد على قيد الحياة.

لم يكن تأثير الإسلام على الجمالية البربرية معوقاً، بل كان أيضاً تأثيراً إحتفالياً ومخلصاً فيما يتعلق بالمرأة. وبالتالي، فإن غلبة الزخارف المعمارية والنباتات والزهور وغياب الوجوه يرجع إلى حقيقة أن الإسلام يحظر التمثيل الفني للشخصيات البشرية، لأن البشر هم ممثلو الله، الذي لم يصوّر أبداً. وبالنسبة لنساء البربر، فإن صنع القطع الفنية هو تكريم لله، وبالتالي، هو فعلٌ من أفعال العبادة. وغالباً ما تساوي النساء تفانيهنّ في عملهنّ بالإخلاص لله. وتعتبر المرأة أعمالها الفنية ممارسةً تأملية، ومن هنا ينبع تركيزهن عند تطبيق الوشم أو الحناء، الذي يهدف إلى جعلهن أقرب إلى خالقهن. وغالباً ما يبدأن العمل بالبسملة (بسم الله) وينتهين بالحمد لله.

وقد تغيرت فنون البربر منذ الاستقلال المغربي في عام 1956. كما تأثرت الأنماط البربرية البدوية والتعبيرات الجمالية بالعربية المغربية، والوسائل التي من خلالها يتم الحفاظ على الهوية البربرية. فقد اختفت الأشكال الفنية التي تمتاز بها المرأة البربرية، مثل الأوشام، بشكلٍ تدريجي إلا أنها مُنحت حياةً جديدة على أيدي الرسامين المغاربة المعاصرين، من البربر والعرب على حد سواء. فقد استولى الفنانون الذكور على أشكال الفن والزخارف البربرية المحلية المرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالنساء، رغبةً منهم في التعبير عن هويتهم المغربية ما بعد الاستعمار، وهي هويةٌ منفتحة بشكلٍ متزايد على سكانها البربر.

وبالمثل، فإن تيفيناغ، وهي الأبجدية المستخدمة في اللغات البربرية، قد ظهرت مرةً أخرى في المنسوجات والأوشام والزخارف المعاصرة للمرأة. واليوم، أصبح الفنانون، وكذلك الشعراء والكتاب، يلجأون إلى الفنون البصرية والأدائية للبربر للحصول على الإلهام.

تُثمن النساء باعتبارهن محافظاتٍ على اللغة والثقافة البربرية وكونهن مركز بناء الهوية. إن بناء الهوية والحفاظ عليها من خلال الفن هو أيضاً مركز القوة الدينية والروحانية للمرأة البربرية. ومن خلال تعابيرهم الفنية، لا تتحكم النساء فحسب بحفلات الزفاف باعتبارها وسائل للحفاظ على قدسية الخصوصية الثقافية في خضم التأثيرات الاجتماعية القوية، مثل العصرنة، التي تؤثر على حياتهن بشكلٍ متسارع، بل يقمن أيضاً بنسج السجاد، وصناعة الخيام والفخار، وتزيين الوجوه والأيدي والقدمين بالحناء، وتطريز الملابس التي تعزز الهوية العرقية البربرية. ومن خلال الفن ونقل المورث من الأم إلى الإبنة، تربط المرأة البربرية الماضي بالحاضر.

يمنح هذا الرابط شكلاً مادياً للوعي البربري. وعليه، تُبرهن المرأة البربرية الاحترام والتقدير والوضع الممنوح للأمومة من خلال دمج رموز الخصوبة في السجاد والملابس والوشم وتسريحات الشعر. وبالتالي، فإن الفنون البربرية مجازٌ للأمومة، مما يدل على الدور الهام الذي تلعبه المرأة في نشر الهوية البربرية والحفاظ عليها. كما كان هناك ظهورٌ متجدد لرمزية المرأة البربرية في ثقافة الشباب المعاصر، إذ يظهر هذا جلياً في أسماء المراكز النسائية المختلفة: تانيت، وإيزيس، وديهيا… الخ. وبالمثل، فإن الفرق الموسيقية المختلفة، والمواقع الالكترونية، وعروض الأزياء وأنماط الملابس الشائعة بين الشباب تحمل نفس الأسماء.

وعلى الرغم من غيابها إلى حدٍ كبير من الروايات التاريخية الرسمية، إلا أن طقوس المرأة البربرية وثقافتها الشفاهية وفنها يشكلون مصدراً حقيقياً للمعرفة، في تحدٍ للروايات السائدة حول دور المرأة في إنتاج المعرفة واستخدامها وتكييفها.

Advertisement
Fanack Water Palestine