وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

المغرب: العصور القديمة

المغرب: العصور القديمة
أطلال مدينة وَلِيلي (من عام 40 قبل الميلاد حتى القرن الثالث قبل الميلاد). Mazin Rosine / Aurimages via AFP

المقمة

المغرب واحد من البلدان التي تميّزت بتاريخ عريق من حيث الاستيطان البشري، لكن أولى فترات هذا الاستيطان لم نعرفها على وجه الدقة، وثمة آثار تدل على وجود ثقافات عرفت استعمال الأدوات في أزمنة سبقت العصر الجليدي الأخير، ولكننا لم نعرف حتى اليوم شيئًا عن أهل تلك الثقافات ولا عن أسمائها حتى.

كما اكتُشفت أدلة أركيولوجية تُبيّن آثار الوجود البشري في العصر البليستوسيني المبكر (أي منذ نحو 2.6 مليون إلى 781 ألف سنة)، ويتجلى ذلك من خلال الرسومات على جدران الكهوف والحجارة في صحراء المغرب. ورغم أن منطقة الدار البيضاء لم تحظ بالثراء الأركيولوجي الذي كُتب لغيرها من المناطق القديمة في شرق إفريقيا، فقد اشتهرت بتراثها العريق الذي يعود إلى عصور ما قبل التاريخ. وقد اكتُشفت آثار الوجود البشري المبكر هناك عام 1907، وذلك في أثناء بناء سكة حديدية أدت إلى اندلاع حرب قصيرة الأجل أعقبها احتلال الفرنسيين للمغرب.

وكانت أقدم البقايا من نصيب بعض العائلات الحيوانية مثل الخيليات والقوارض وآكلات اللحوم مثل الضباع. أمّا آثار الوجود البشري فقد اكتُشفت لاحقًا في مقلع طوما 1، مثل أحجار الكوارتزيت والصوان والبلط والمكاشط الحجرية، وهي كلها أدوات أشولينية. واكتُشفت في الموقع نفسه آثار عائلات حيوانية أخرى مثل فرس النهر والحمار الوحشي والغزال والثدييات الصغيرة. ويرجع تاريخ تلك الآثار إلى أواخر العصر البليستوسيني المبكر منذ نحو مليون إلى 1.3 مليون عام.

كما اكتشف علماء الأركيولوجيا في سيدي عبد الرحمن قرب الدار البيضاء آثارًا لأدوات عديدة ترجع إلى 3500 سنة مضت. وقد بدأت الصحراء الكبرى تجف عام 5000 قبل الميلاد تقريبًا. وبحلول الألفية الثالثة قبل الميلاد، اتسعت الصحراء لتفصل بلاد المغرب عن بلدان إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى وتقرّبه من حوض البحر الأبيض المتوسط. وبحلول نهاية الألفية الأولى قبل الميلاد، أصبحت الظروف المناخية في المغرب شبيهة بالمناخ اليوم.

القرطاجيون

أمسى البحر الأبيض المتوسط بحلول الألفية الثانية قبل الميلاد ساحةً للتجارة ومركزًا للحضارة. وبحلول نهاية القرن الثامن قبل الميلاد أبحر التجار الفينيقيون البحريون من مدينة صُور، في جنوب لبنان حاليًا، غربًا نحو شبه الجزيرة الإيبيرية بحثًا عن الفضة والقصدير. وقد استقروا على السواحل ولم يحاولوا السيطرة على المناطق النائية ما عدا قرطاجة في تونس اليوم.

وفي القرن التاسع قبل الميلاد، أسس القرطاجيون في هذه المنطقة مدينة تجارية وزراعية كبيرة. ثم استقروا في الرسادير (مليلية حاليًا) بالمغرب، وأنشؤوا مراكز تجارية أصغر في مدينة تمودة بالقرب من تطوان وطنجيس (طنجة) عند مضيق جبل طارق. وفي القرن السابع قبل الميلاد، تحركوا جنوبًا على طول ساحل المحيط الأطلسي، مرورًا بالقصر الصغير ومدينة ليكسوس التي تقع بالقرب من مدينة العرائش حاليًا، حتى وصلوا إلى مدينة الصويرة الحديثة.

المغرب: العصور القديمة
المغرب في عصر القرطاجيين والرومان في عصر ما قبل التاريخ. المصدر: C.R. Pennell

الممالك الأولى الأصلية

منافسا القرطاجيين

بعيدًا عن الساحل، عاش شعب سمّاه العلماء قديمًا بالنوميديين. وفي القرن الرابع قبل الميلاد، اشتمل على اتحاد قبائل مملكة المور في شمال المغرب الحديث وشمال غرب الجزائر. ودخل مصطلح “مور” إلى اللغة اللاتينية واليونانية، ولكن غالبًا ما كان يُشار إليهم باسم البربر. وقد استُبدلت كلمة البربر اليوم باعتبارها وصفًا لغويًا وإثنيًا بمصطلح “الأمازيغ” (ومفردها أمازيغي وتعني “الحر” أو “النبيل”). وأما أبجديتهم فتُعرف باسم “تيفيناغ” ولم تُستخدم في الكتابة اليومية أو التجارة، بل وُجدت في نقوش ترجع إلى القرن الثالث قبل الميلاد. وقد اعتمد القوميون الأمازيغ المعاصرون هذه اللغة أساسًا للأبجدية.

الرومان

حاصرت جماعة من البدو الرعاة مدينة قرطاجة العظيمة التي استصعب حكامها السيطرة على الاتحادات القبلية في شمال الجزائر وجنوب تونس وصحاري منطقة فزان.

المغرب: العصور القديمة
شمال إفريقيا والإمبراطورية الرومانية. المصدر: C.R. Pennell

وكان هناك خطر أكبر على الساحل الشمالي للبحر الأبيض المتوسط. ففي منتصف القرن الثالث قبل الميلاد، شنّت روما حرباً على قرطاجة من أجل صقلية وانتهت الحروب البونيقية الثلاثة بهزيمة المدينة الفينيقية. وفي الحرب البونيقية الثالثة (149-146 قبل الميلاد)، دخل الرومان قرطاجة ودمّروها.

وفي المناطق النائية من شمال إفريقيا، اعتمد الرومان على علاقتهم بالحكام المحليين الذين لم يكونوا أهلًا للثقة. وقد استغرق الرومان ست سنوات (112-106 قبل الميلاد) حتى تمكنوا من هزيمة يوغرطة في نوميديا. ودمر الإمبراطور الروماني يوليوس قيصر الممالك الأصلية الأخرى التي دعمت مدينة بومبي في الحرب الأهلية.

وفي عام 44 قبل الميلاد، قُتل القيصر وحاول الرومان حكم موريطنية (شمال المغرب) حكمًا مباشرًا. ولكن سرعان ما لجؤوا إلى النهج القديم واستعانوا بالحكام المحليين مرة أخرى. وفي عام 25 قبل الميلاد، سلّم أغسطس قيصر موريطنية إلى يوبا الثاني (48 قبل الميلاد – 23 ميلادية) حاكم مدينة أيول القيصرية (وموقعها شرشال في الجزائر). وصارت بعد ذلك مدينته الثانية وليلي (بالقرب من مكناس) مدينة كبيرة. وأعقب بعد موت يوبا تمرد، وضمت الإمبراطورية الرومانية موريطنية في عام 40 ميلادية.

ظلّت مدن أقصى الغرب موالية للرومان، وأصبحت وليلي عاصمة لإقليم روماني جديد هو موريطنية الطنجية. وفي نهاية المطاف، ضمت الإمبراطورية مملكة موريطنية بالكامل وقسمتها إلى ولايتين ثم ثلاث ولايات لاحقًا. لكن الرومان لم يبسطوا نفوذهم على الأراضي الداخلية. وكانت المعسكرات ذات الخنادق والأسوار وأبراج المراقبة تطوّق الأراضي الرومانية. وكانت المناطق داخل حدود الليمس الروماني من المحيط الأطلسي إلى الصحاري في جنوب طرابلس مقاطعات مقسمةً تخضع مباشرة للحكم الروماني، وازدهرت التجارة والزراعة فيها بفضل البدو والرعاة.

لكن مناطق أقصى الغرب لم تكن ثرية مثل الشرق. وكانت الجم في تونس ولبدة الكبرى في ليبيا مدينتين عظيمتين، في حين كانت وليلي منطقة منعزلة. وقد بلغ عدد سكانها نحو 20 ألف نسمة كان معظمهم من السكان المحليين. ومع ذلك حظيت بقسط يسير من الثروة، إذ فاضت محاصيلها الزراعية وكفت حاجتها وزيادة من الكثير من المنتوجات كالزيتون والحبوب عامة، فضلًا عن المعادن مثل الرصاص والفضة والحديد والنحاس. وزُيّنت بيوت الأثرياء الفارهة بتصاميم مستوحاة من اليونان وفسيفساء أرضية تشبه الأنماط الأمازيغية.

الديانات التوحيدية: اليهودية والمسيحية

المغرب: العصور القديمة
نظرة إلى مولاي إدريس. صلة تربط بين المدينة الرومانية ومدينة مولاي إدريس المسلمة القديمة. Photo: C.R. Pennell

تعددت الآلهة في الإمبراطورية الرومانية، لكن انتشارها الجغرافي سمح للتوحيد بالانتشار في شمال غرب إفريقيا.

وصلت اليهودية أولًا، على الأرجح من الشرق، ووصلت إلى قرطاجة في القرن الثاني الميلادي. ولا نعرف الكثير عن انتشارها غربًا، إذ لم يُعثر إلا على بعض النقوش اليهودية المتناثرة.

وربما تكون المسيحية قد وفدت من الشرق أيضًا، أو من روما نفسها، ثم انتشرت سريعًا في تونس خلال القرن الثالث. وقد حاول الأباطرة الرومان القضاء على المسيحية، لكن الاضطهاد الوحشي لم يحقق غرضه، بل أدى إلى تطرف المسيحيين. وكانت أرض الجزائر وتونس حاليًا موقعًا للمراكز المسيحية الكبرى. وبعدما اعتنق قسطنطين الأول المسيحية عام 306 ميلادية، تصالح بعض المسيحيين مع روما وهو ما نتج عنه انشقاق كبير بين الراديكاليين من الحركة الدوناتيّة بقيادة دوناتوس أسقف قرطاجة، وحلفاء روما المسيحيين. وتمكن الإمبراطور هونوريوس من سحقهم في بداية القرن الخامس الميلادي.

الفاندال والبيزنطيون

وقد وقع انقسام آخر في أواخر القرن الرابع. فقد كان الفاندال، وهم من الشعوب الجرمانية، يؤمنون بمذهب الآريوسية في تفسير المسيحية، وهو ما رأت فيه الإمبراطورية الرومانية هرطقة تامة. وغزا الفاندال أوروبا الغربية وإسبانيا. وفي عام 429، عبروا مضيق جبل طارق وغزوا شمال إفريقيا وسرعان ما وصلوا إلى الجزائر وتونس. وفي عام 442، تنازل لهم الرومان عن شمال إفريقيا. ولم يكترث الفاندال بمناطق أقصى الشمال الغربي، فلم يروا فيها من الثروة ما يجذبهم إليها. ولم يخلّفوا آثارًا تذكر في هذه المنطقة، ولم يلبث حكم الفاندال أن اندثر سريعًا.

وفي عام 527، أعاد الإمبراطور جستنيان الأول بناء الإمبراطورية الرومانية في بيزنطة (إسطنبول اليوم). واقتصر الغزو البيزنطي في المغرب على سبتة وطنجة. ومع ذلك عُثر على آثار بيزنطية في مدينة سلا، وكانت مدينة وليلي لم تزل مأهولة بالسكان آنذاك، وقد استغل زعماء القبائل الوجود البيزنطي ليعززوا حكمهم، وبقيت هناك بعض الممالك المحلية التي لا نعلم عنها سوى القليل.

قراءة متعمقة

Advertisement
Fanack Water Palestine