وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

تهميش البربر في شمال افريقيا يؤجج حركات الهوية

أفراد من المجتمع البربري الأمازيغي المغربي يغنون أثناء احتفالهم برأس السنة الأمازيغية، في الرباط
أفراد من المجتمع البربري الأمازيغي المغربي يغنون أثناء احتفالهم برأس السنة الأمازيغية، في الرباط. Photo AFP

البربر، أو الأمازيغ (الإنسان الحر باللغة الأمازيغية) كما يُشيرون إلى أنفسهم، هم السكان الأصليون لشمال افريقيا، إذ يعود وجودهم إلى آلاف السنين. ينتشر البربر جغرافياً في المناطق الممتدة من غرب وادي النيل إلى المحيط الأطلسي، ومن البحر الأبيض المتوسط إلى نهر النيجر الذي يغطي مساحات واسعة من الأراضي المتقطعة التي تشمل مصر وليبيا وتونس والجزائر والمغرب وموريتانيا، والنيجر، ونيجيريا، ومالي، وبوركينا فاسو.

يعيش غالبية البربر في المغرب، حيث يتواجدون في الغالب في المناطق الجبلية والصحراوية. لا يشكل البربر مجموعةً عرقية متجانسة، إذ يمكن تحديد ثلاث مناطق رئيسية هي: الشمال، والمركز، والجنوب، حيث تدعي كل منطقة انحدارها من قبيلة رئيسية معينة. وبالتالي، ينحدر البربر في الشمال من قبيلة زناتة، وفي الوسط من قبيلة صنهاجة، وفي الجنوب من قبيلة مصمودة. ومع ذلك، يتحد البربر في المغرب باللغة – الأمازيغية – والوطن، والإجماع على تحديد الهوية إلى جانب التراث والتاريخ المشترك.

فقد كانت أصول البربر موضع جدل، إذ أولى المؤرخون الغربيون والعرب على حد سواء، ممن يحمل كلٌ منهم أجندته الأيديولوجية، أهميةً خاصة لهذا الموضوع. فبالنسبة للمؤرخين الغربيين، أمثال هنري فورنيل وجورج مارصي وموريس بيغاس، يعود أصل البربر إلى الحروب البونيقية الثلاث التي دارت بين روما وقرطاج وانتهت بسقوط قرطاج عام 146 قبل الميلاد. وبعبارةٍ أخرى، ربط المؤرخون الغربيون البربر بفترة مجد الإمبراطورية الرومانية، أي نسبهم ضمنياً لأصولٍ غربية. وفي الوقت نفسه، قام المؤرخون العرب في العصور الوسطى (منهم على سبيل المثال عبد الدايم الزموري ومحمد الإدريسي) بتتبع أصول البربر إلى اليمن، وبالتالي إلى العرب.

وبعد استقلال المغرب عام 1956، استخدمت الأدوات الأثرية والأنثروبولوجية (المتعلقة بعلم الإنسان) واللغوية لمواصلة البحث في هذه الاستفسارات. عارضت الأدلة النتائج السابقة، مما يُشير بدلاً من ذلك أن السكان الحاليين لشمال افريقيا، على امتداد منطقةٍ واسعة تغطي المنطقة الساحلية من مصر إلى موريتانيا، ينحدرون من الشعوب التي عاشت على هذه الأرض منذ عصور ما قبل التاريخ (وهي فترة تقدر بحوالي تسعة آلاف عام) وأن الهجرة لطالما كانت من الشرق إلى الغرب. وبالتالي، لا يمكن أن تكون منطقة البربر سوى تلك الأرض التي لطالما عاش عليها البربر، وعليه فإن الآراء حول أصول البربر تتغير.

أدى الفتح العربي الإسلامي لشمال افريقيا في القرن الثامن إلى مزيجٍ من أسلمة وتعريب شعب البربر. أنهى هذا الكتابة باللغات الأمازيغية في كلٍ من المخطوطات الليبية القديمة والعربية الحديثة، لتقتصر بالتالي على اللغات الشعبية. وفي الوقت نفسه، أقصى تدفق المحاربين العرب البدو من الشرق منذ القرن الحادي عشر البربر من السهول إلى الجبال. حولت هذه العوامل مجتمعة السكان من ناطقين باللغة البربرية إلى ناطقين باللغة العربية، مما أدى إلى فقدان الهويات الأصلية. ومنذ القرن السادس عشر، استمرت العملية في ظل غياب السلالات البربرية، التي حل محلها العرب في المغرب الذين يدعون النسب إلى النبي محمد، والأتراك في الجزائر وتونس وطرابلس.

واليوم، يُعرف البربر بأنهم نسل السكان ما قبل العرب في شمال افريقيا. ومع بزوغ فجر القرن الواحد والعشرين، كان هناك حوالي 14 مليون من البربر في المغرب، و9 ملايين في الجزائر، و6 ملايين في ليبيا، وأعداد أقل بكثير في تونس ومصر وموريتانيا. وفي الصحراء الكبرى جنوب الجزائر وليبيا، ومالي والنيجر، تبلغ أعداد الطوارق البربر حوالي مليون نسمة. وقبل قرنٍ من الزمان، كان البربر لا يزالون يشكلون أغلبيةً جوهريةً من سكان المغرب وأقليةً ذات أهمية من السكان المسلمين في الجزائر الفرنسية. وكانت أعدادهم أصغر في ليبيا العثمانية وأصغر حجماً في تونس إبان الحماية الفرنسية.

وعلى الرغم من أن السكان البربر كانوا محوريين في مزيج الصفات السياسية والاجتماعية والثقافية واللغوية التي تُميّز شمال أفريقيا، إلا أنه تم تهميشهم تاريخياً وسياسياً واجتماعياً واقتصادياً. فقد شاركوا بنشاطٍ في الكفاح من أجل الاستقلال في جميع أنحاء شمال أفريقيا، وخاصة في المغرب والجزائر، بيد أنه تم تهميشهم في الروايات الوطنية حول القومية، التي تضع العناصر العربية والإسلامية لهويات المنطقة في المقدمة. وخلال العقود التي أعقبت الاستقلال، أصبح تهميش اللغة البربرية وثقافتها منهجياً. وقد أدى تعريب النظام التعليمي والحياة العامة بشكلٍ عام إلى نقل الأمازيغية إلى عالم التراث الشعبي.

ومن الناحية السياسية، قسّم المستعمرون الفرنسيون في الجزائر والمغرب السكان المحليين على أسسٍ عرقية، فعلى سبيل المثال، تم فرض المرسوم البربري لعام 1930 في المغرب، والذي تم بموجبه عزل الشريعة الإسلامية عن التقاضي بين البربر في المناطق الريفية. وفي الجزائر، حاول الفرنسيون “فرنَسة” قبائل البربر من خلال الإدعاء أن ثقافة البربر أقرب ما تكون إلى الثقافة الغربية منها إلى الثقافة العربية. ومن المفارقات أن البربر تحالفوا مع باقي السكان لأنهم عرفوا بأنهم مسلمون. وعليه، يُشكل هذا الاتحاد بداية الحركة القومية في المغرب.

وبعد الاستقلال، بات يُشار إلى البربر بـ”عناصر الشقاق،” وتم تهميشهم سياسياً واجتماعياً لأن النخب الحضرية المُعرّبة أرادت تولي السلطة. وفي المغرب، اعتبرت مناطق البربر “غير مناسبة للحداثة” (المغرب غير المفيد) ونتيجةً لذلك، أصبح التخلف يُنسب إلى البربر.

ومع استمرار انخفاض أعداد المتحدثين بالبربرية، ظهرت حركات الهوية البربرية في الجزائر والمغرب. وفي الجزائر، طالبت الحركة بالحقوق اللغوية والثقافية، واستخدمت في بعض الأحيان العنف لتحقيق أهدافها، كما حدث في الربيع البربري عام 1980، الذي قتل فيه العشرات.

وفي المغرب، كان لدى حركة الهوية البربرية مطالب مماثلة، بالإضافة إلى حقوق استخدام الأرض، إلا أنها كانت سلمية إلى حدٍ كبير. ولربما يعود السبب في ذلك إلى أن السكان البربر في المغرب هم الأكبر عدداً في شمال افريقيا، فضلاً عن النظام السياسي الأكثر تحرراً في المغرب والأكثر ودية، نسبياً، تجاه البربر. أما في ليبيا، فقد تعرض البربر لقمعٍ وحشي في ظل نظام القذافي الذي استمر 40 عاماً. واليوم، تبرز حركة البربر الليبية كعنصرٍ رئيسي في حقبة ما بعد الربيع العربي. وبالإضافة إلى الاعتراف السياسي، يُطالب البربر في ليبيا بالمساواة والحقوق المدنية.

وضع البربر استراتيجيةً وردوا على تهميشهم بطرقٍ مختلفة، وفقاً لواقع بيئتهم المحلية والوطنية. ومع ذلك، يسعون بوجهٍ عام إلى إعادة النظر في ما يشكل الهويات الجماعية لبلدانهم وكيفية إبراز الأدوار التاريخية والاجتماعية- السياسية للبربر في بناء شمال أفريقيا. كما يطالبون بالعدالة الاجتماعية وتحسين وضعهم الاجتماعي، وبخاصة في المناطق الريفية، التي تتسم بارتفاع معدلات الفقر. وفي أعقاب الربيع العربي، أصبحت القضية البربرية أكثر وضوحاً في ظل الجدل القائم حول الحصة في الفرص الاجتماعية والاقتصادية.

وعلى الرغم من أن مطالب البربر لا تشكل تهديداً حقيقياً سواء للتكامل الإقليمي لدول شمال افريقيا أو حتى لاستقرار نخب هذه البلدان، إلا أن قضية البربر باتت اليوم جزءاً لا يتجزأ، على نحوٍ متزايد، من الطيف السياسي والاجتماعي الأوسع في جميع أنحاء المنطقة. إن الهوية العرقية المستجدة، إلى جانب الطرق الجديدة لتصور الإنتماء الجماعي، وبالتحديد القبلي والوطني والديني، تستميل العديد من الشباب البربر المحرومين، ويتم توطيدها على جناح السرعة باعتبارها عنصراً رئيسياً في العلاقات المستقبلية بين الدولة والمجتمع في شمال افريقيا.

Advertisement
Fanack Water Palestine