وبما أنّ المغرب طوّر بالفعل سلاسل التوريد التي تخدم هذا القطاع، وتزيد من المكوّنات المحليّة التي تدخل في صناعة السيارات، تمكّنت البلاد من زيادة مساهمة هذه الصناعة من الناتج المحلّي.
علي نور الدين
المقدمة
تحلم جميع الدول النامية بالانتقال من الاقتصاد الريعي، إلى الاقتصاد المنتج، القائم على القطاعات القادرة على توليد فرص العمل وخلق القيمة المضافة وتأسيس نمو اقتصادي مستدام على المدى البعيد.
وهذا الحلم، مازال بعيدًا عن التحقّق في الغالبيّة الساحقة من الدول الأفريقيّة، التي يعتمد معظمها على صادرات المواد البتروليّة والمعادن الخام. وحتّى اللحظة، فشلت هذه الدول في تأسيس قطاعات صناعيّة متقدّمة، أو تنمية صادراتها من المواد الغذائيّة واقتصاد المعرفة وغيرها من القطاعات الإنتاجيّة.
الإشكاليّة الأساسيّة هنا، هي أنّ الابتعاد عن بناء الاقتصادات المنتجة، والاعتماد حصرًا على الموارد الطبيعيّة، يعرّض هذه الدول لتقلّبات أسعار السوق العالميّة، ويربط استقرار ميزانيّاتها العامّة باستقرار أسعار النفط والمعادن. كما يضع هذه البلدان تحت سيطرة كارتيلات شركات الطاقة واستخراج المعادن الأجنبيّة الكبرى، التي يمتد نفوذها للتدخّل في سياسات هذه الدول الضريبيّة والماليّة.
أما أهم ما في الموضوع، فهو أنّ النمو المعتمد على صادرات الموارد الطبيعيّة يخلق اختلالات بنيويّة في أنظمة هذه الدول الاقتصاديّة، بما يؤدّي إلى انعدام فرص العمل اللائق ويركّز الثروات بيد القلّة المستفيدة من هذه الثروات.
تجارب سابقة غير موفّقة
في واقع الأمر، حاولت بعض الدول، كمصر مثلًا، استقطاب الشركات الأجنبيّة العاملة في مجال صناعة السيّارات، لتطوير هذا النوع من الصناعات الثقيلة لديها.
إلا أنّ تحديات ومشاكل كثيرة حالت دون تطوير هذه التجربة والاستفادة منها، أبرزها اكتفاء الشركات الأجنبيّة بالاعتماد على العمالة المصريّة المنخفضة الأجر، لتجميع القطع والمكونات والمواد الأوّليّة المستوردة من الخارج. وبذلك، انخفضت نسبة المكوّنات المحليّة التي تدخل في هذه الصناعات، ما قلّص فائدتها على الاقتصاد المحلّي إلى حد كبير، وخفّض القيمة المضافة التي تستفيد منها مصر من هذا القطاع.
ويمكن القول إن الشركات الأجنبيّة استفادت في هذا النوع من التجارب أكثر مما قدّمت للاقتصاد المصري بكثير. فالشركات الأجنبيّة كانت تستخدم، لتجميع السيّارات، مصادر الطاقة المدعومة من الدولة بأموال دافعي الضرائب، كما كانت تستهلك البنية التحتيّة وخدمات الدولة وغيرها من الموارد العامّة، بالإضافة إلى استفادتها من الحوافز والإعفاءات الضريبيّة.
في المقابل، لم تكن أنشطة تجميع قطع السيّارات تدر على الاقتصاد المحلّي سوى قيمة الأجور والرواتب، وبعض النفقات التي كانت تذهب للخدمات المحليّة البسيطة، أو لشراء نسبة محدودة من مكونات صناعة السيارات.
ببساطة، يتطلّب إنشاء قطاعات صناعيّة ثقيلة ومتطوّرة ما هو أبعد وأهم من معامل تجميع القطع المستوردة. فهذا النوع من القطاعات، يتطلّب أولًا العمل على سلاسل توريد محليّة قادرة على خدمة هذه القطاعات، بما يسمح بزيادة نسبة المكوّنات المحليّة التي تدخل في التصنيع. كما يتطلّب أن يتم درس القيمة المضافة التي تولّدها هذه المعامل، قبل إعطائها أي حوافز ضريبيّة على المدى البعيد.
وأخيرًا، تحتاج هذه القطاعات إلى عمالة محليّة ماهرة ومدرّبة، ما يقلّص اعتماد المعامل على الخدمات الخارجيّة، وهو ما يزيد من القيمة المضافة التي تولّدها هذه المعامل.
نتائج التجربة المغربيّة في صناعة السيارات
في مقابل التجربة المصريّة، تظهر التجربة المغربيّة كنموذج مشجّع، مكّن المغرب من استقطاب كبرى شركات تصنيع السيّارات الأجنبيّة، ورفع نسبة المكونات المحليّة في هذه الصناعات، عبر تطوير صناعات قطع السيارات نفسها.
وعلى مدى السنوات الماضية، كانت قيمة صادرات المغرب من السيّارات وقطع السيارات ترتفع تدريجيًّا، بالاستفادة من المزايا التنافسيّة التي يمتلكها المغرب في هذا المجال، وبحسب خطّة الدولة لتطوير هذا القطاع والاستفادة منه.
فعلى مدى السنوات الثمانية الماضية، مثّلت السيّارات المنتج الأوّل في المغرب، من ناحية حجم الصادرات إلى الخارج. خلال النصف الأوّل من 2022، بلغ حجم هذه الصادرات حدود 5.4 مليار دولار، مقارنة ب4.18 مليار دولار خلال الفترة نفسها من 2021، و3.05 مليار دولار من العام 2020.
بمعنى آخر، لم تعد السيّارات رافعة لحجم الصادرات المغربيّة فقط، بوصفها الصنف الأكثر تصديرًا للخارج، بل باتت قطاعًا واعدًا يحظى بمعدلات نمو مرتفعة وسريعة في كل سنة. مع الإشارة إلى أنّ حجم صادرات السيّارات في النصف الأوّل من العام الحالي كان يوازي 20% من إجمالي صادرات البلاد، ما يشير إلى مساهمة هذه الصناعة في الميزان التجاري للبلاد.
وبما أنّ المغرب طوّر بالفعل سلاسل التوريد التي تخدم هذا القطاع، وتزيد من المكوّنات المحليّة التي تدخل في صناعة السيارات، تمكّنت البلاد من زيادة مساهمة هذه الصناعة من الناتج المحلّي.
فبحلول 2023، من المتوقّع أن ترتفع مساهمة قطاع السيّارات في الناتج المحلّي المغربي إلى حدود ال24%، ما سيعني أنّ هذا القطاع سيكون مسؤولًا عن نحو ربع النشاط الاقتصادي في البلاد وقيمة الدخل فيها. وفي حصيلة كل هذا التطوّرات، بات المغرب اليوم يحل في المرتبة الأولى على مستوى أفريقيا في صناعة السيّارات، ليتخطّى بذلك كل من مصر وجنوب أفريقيا.
مزايا تنافسيّة مهمّة
قبل الدخول في نوعيّة السياسات المخصصة لتطوير هذا القطاع، من المهم تعداد المزايا التفاضليّة للمغرب التي ساهمت بتشجيع شركات تصنيع السيّارات الأجنبيّة على بناء معامل فيه. وأبرز هذه المزايا، كانت الموقع الجغرافي، الذي يحاذي أسواق الاستهلاك الأوروبيّة والأفريقيّة، ويطل على أسواق البحر الأبيض المتوسّط.
وهذا الموقع، يسمح تلقائيًّا بخفض كلفة شحن المواد الأوليّة المستوردة قبل التصنيع، كما يخفّض كلفة تصدير السيارات إلى المستهلك. كما تستفيد المعامل الموجودة في المغرب من انخفاض كلفة العمالة فيه، والتي توازي ربع كلفة العمال في أسبانيا، التي تقع مباشرةً في الجانب الآخر لمضيق جبل طارق.
بالإضافة إلى كل ذلك، يستفيد المغرب من اتفاقيّات التجارة الحرّة والثنائيّة مع أوروبا والولايات المتحدة الأميركيّة وتركيا والإمارات العربيّة المتحدة، بالإضافة إلى أكثر عشرات الدول الأخرى في جميع أنحاء العالم. وهذه الاتفاقيّات، ساهمت بإعطاء المعامل الموجودة في المغرب فرصة تصدير إنتاجها إلى هذه الأسواق بأقل قدر من الرسوم والتكاليف والتعقيدات، كما أعطتها القدرة على استيراد المواد الأوليّة التي تحتاجها دون تكبّد أي رسوم جمركيّة.
في الوقت نفسه، استفادت الشركات في المغرب من سهولة وبساطة التنظيمات والإجراءات الرسميّة، التي تحتاج الشركات للقيام بها بشكل روتيني، ما زاد من جاذبيّة المغرب كمركز للإنتاج. أمّا الشركات الصناعيّة بالتحديد، فاستفادت من مزايا ضريبيّة تصل إلى حد إعفائها لمدّة خمس سنوات من الرسوم والضرائب.
وأخيرًا، استفاد القطاع الصناعي من مخطط تسريع التنمية الصناعيّة، الذي قام على ربط المناطق الصناعيّة والمناطق الحرّة على الساحل المغربي بسكك الحديد، بالإضافة إلى تطوير مرفأ طنجة ليصبح الأكبر من حيث القدرة الاستيعابيّة في حوض البحر الأبيض المتوسّط وأفريقيا. ببساطة، استفاد المغرب من كل العوامل التي تسمح بتنمية القطاعات الصناعيّة، سواء على مستوى السياسات الحكوميّة، أو المزايا التنافسيّة الطبيعيّة.
مسار تطوير صناعة السيارات وقطعها
بالنسبة إلى صناعة السيارات وقطع السيّارات، كان المغرب قد بدأ بمحاولة تطوير هذا القطاع بعد استقلاله مباشرةً، من خلال الجمعيّة المغربيّة لصناعة السيارات. إلا أنّ تطوير هذا القطاع ظل متعذّرًا لعقود طويلة، قبل أن يشهد النهضة التي يعيشها اليوم ابتداءً من العام 2007، بالاستفادة من السياسات الحكوميّة المشجّعة للنشاط الصناعي.
منذ ذلك الوقت، بدأ المغرب باستقطاب شركات تصنيع قطع السيّارات أولًا. وهذه الإستراتيجيّة، هدف بشكل أساسي لتشجيع شركات السيارات على إنشاء معامل جديدة لها في المغرب، بالاستفادة من قرب مصانع مورّديها، وانخفاض كلفة الحصول على قطع السيارات. كما هدفت هذه الخطوة لزيادة نسبة المكوّنات المحليّة في السيارات المصنّعة داخل المغرب.
وبفضل هذه الإستراتيجيّة، وسّعت شركة رينو إنتاجها داخل المغرب، قبل أن تتبعها مجموعة بيجو سيتروين وفولكس فاجن وهيونداي، بالإضافة إلى عدد كبير من شركات قطع السيّارات. ومع تزايد معامل قطع السيّارات داخل المغرب، وبوجود البنية التحتيّة التي تسهّل ربط هذه المعامل بمعامل تصنيع السيارات، كان المغرب قد أمّن منظومة متكاملة من سلاسل التوريد لهذه الصناعة، وبأكلاف مجدية اقتصاديًّا.
على المستوى الصناعي، يمثّل المغرب علامة فارقة من بين دول شمال أفريقيا والشرق الأوسط، بالنظر إلى تصدّر قطاع صناعي منتج قائمة صادراتها إلى الخارج. وهذا تحديدًا ما يفترض أن يدفع الاقتصاديين في هذه الدول لمراجعة التجربة المغربيّة للتعلّم منها، وبناء السياسات القادرة على إعطاء دولهم النامية القدرة على المنافسة في المجال الصناعي، ما سيسهم بتأمين النمو الاقتصادي المستدام وخلق فرص العمل.