شهد لبنان بعض الهدوء في التسعينيات، لكن الأمر لم يكن أكثر من استقرار هش.

كتبه: C.R. Pennell أستاذ سابق في تاريخ الإسلام والشرق الأوسط, جامعة ملبورن أستراليا
حرره: إريك برينس
اتفاق الطائف
في يناير 1989، نظّمت جامعة الدول العربية مؤتمراً في الطائف بالسعودية أسفر عن وثيقة الوفاق الوطني اللبناني التي عُرفت فيما بعد باسم “اتفاق الطائف”. وشكّلت الوثيقة حزمة قانونية هدفت إلى إنهاء الحرب الأهلية من خلال إجراء إصلاحات إدارية وإعادة النظر في المسائل السياسية المتعلقة بالهوية والسيادة، والتي كانت تشكل جوهر الدولة ولبّها في الميثاق الوطني لعام 1943.
وكان رفيق الحريري ضمن أبرز منظمي اتفاق الطائف خلف الكواليس، وهو رجل الأعمال اللبناني الشهير صاحب العلاقة الوثيقة بالنظام السعودي الذي منحه الجنسية السعودية عام 1978. كانت للحريري مساهمة كبيرة في قطاع البناء والتشييد بالمملكة، وحظي بدعم النظام السعودي ليكون شخصية مؤثرة في لبنان.
نصت وثيقة الوفاق الوطني على عروبة لبنان وأنّه وطن حر مستقل ذو سيادة، وأنّه “وطن نهائي لجميع أبنائه”. كما أكدت الوثيقة على ما جاء في ميثاق عام 1943 الذي نص على الطابع العربي للبنان واستقلاله عن الدول العربية الأخرى والتزامه بالحياد الدولي بين الكتلتين الغربية والشرقية. ومن الناحية النظرية، لم يطرأ تغيير يُذكر على الوضع القائم.
ومع ذلك، شهد لبنان تحولات كبيرة منذ عام 1943. فقد تراجعت السيادة اللبنانية بسبب احتلال الجيش السوري، والاحتلال الإسرائيلي للجنوب، فضلاً عن صعود حزب الله إلى الساحة السياسية. ومن ثمّ، انهار التوازن الداخلي الذي كان يشكل أساس الميثاق الوطني. ولم يعد للمسيحيين الموارنة تلك المكانة المهيمنة التي كانت لهم قبل اندلاع الحرب الأهلية عام 1975.
كان على اتفاق الطائف أن يأخذ في الاعتبار التغيرات الديمغرافية الكبيرة التي أثّرت في المشهد السياسي اللبناني. فقد أعاد توزيع مقاعد مجلس النواب بنسبة 50:50 بين المسيحيين والمسلمين، وخفض صلاحيات الرئاسة المارونية لصالح مجلس الوزراء. وبتحول لبنان من نظام شبه رئاسي إلى ديمقراطية نيابية، زادت صلاحيات رئيس الوزراء السنّي. نتيجةً لذلك، لم يعد التقسيم البسيط بين المسيحيين والمسلمين صالحاً للتطبيق.
وقد رفض زعماء الطائفة المارونية اتساع النفوذ السوري في لبنان، في حين أصرّت الحكومة السورية على عدم سحب قواتها ومساعدة حزب الله ليواصل المقاومة العسكرية.
الحفاظ على الهيكل الطائفي
رحّب معظم السياسيين والمواطنين اللبنانيين باتفاق الطائف، بيد أنّ الجمهورية اللبنانية الثانية لم تكن أقل اضطراباً عن سابقتها. فبعد التوصل إلى الاتفاق، انتخب مجلس النواب اللبناني رينيه معوض رئيساً جديداً، لكنه اُغتيل بعد ثلاثة أسابيع فقط في منطقة تخضع للسيطرة السورية في بيروت. وحل محله إلياس الهراوي بقرار من مجلس النواب، وتولى سليم الحص رئاسة الوزراء. لكن الحص اضطُر إلى تقديم استقالته في ديسمبر 1990. وشكّل بعد ذلك عمر كرامي حكومة “وحدة وطنية”، بدعم من سوريا على ما يبدو، لكنها قوبلت بالرفض من قبل حزب الله.
لم يتحقق هدف اتفاق الطائف الخاص بحظر الميليشيات المسلحة وإنهاء البنية الطائفية، إذ شملت الحكومة الجديدة قادة ميليشيات سابقين مثل الزعيم الدرزي وليد جنبلاط ونبيه بري زعيم حركة أمل. كما رفض سمير جعجع، زعيم حزب القوات اللبنانية اليمينية (المسيحية)، الانضمام إلى الحكومة رغم تأييده لاتفاق الطائف. وفي عام 1991، حل جعجع الذراع العسكري لحزب القوات اللبنانية وسلم أسلحته للجيش اللبناني. وفي غضون عام واحد، ترك جنبلاط وبري الحكومة، ورفض حزب الله وميليشيا جيش لبنان الجنوبي بقيادة الرائد سعد حداد تفكيك الأذرع العسكرية.
ونظراً إلى غياب أي آلية للمصالحة عن اتفاق الطائف، لم تشهد البلاد أي تحقيق في ما حدث خلال الحرب الأهلية. ولم تُشكّل أيضاً لجنة لتقصي الحقائق على غرار البلاد الأخرى التي شهدت صدامات وطنية مشابهة، بل ساد نوع من “فقدان الذاكرة برعاية الدولة”. فقد أصدر مجلس النواب قوانين عفو عام 1990 ليمنح الحصانة القانونية لأولئك الذين ارتكبوا أعمال عنف خلال الحرب. وبقيت قيادات الميليشيات السابقة حرة طليقة، بل دخل كثير منها إلى الساحة السياسية. وقد حال ذلك دون معالجة قضايا مهمة مثل مصير آلاف المفقودين اللبنانيين، ومنع تطوير الحوار بين الطوائف، ولم تُبذل أي محاولة لرأب الصدع بين الميليشيات المسيحية المتناحرة.
حكومة رفيق الحريري الأولى
أُجريت أول انتخابات نيابية في لبنان منذ زمن ما قبل الحرب الأهلية في أغسطس وسبتمبر من عام 1992. وفي أعقابها، أصبح رفيق الحريري رئيساً للوزراء وظل في منصبه حتى عام 1998. ونُسب إلى الحريري الفضل في إعادة إعمار بيروت من خلال شركة سوليدير المملوكة للحكومة ومستثمرين من القطاع الخاص. تأسست سوليدير لإعادة إعمار لبنان بعد الحرب الأهلية، لكنها ركزت بشكل كبير على إعادة تطوير العاصمة. وقد بنت مركزاً حضرياً جديداً في بيروت بسرعة كبيرة. وكانت لسوليدير سلطة نزع الملكية للمصلحة العامة، واتُهمت بمضايقة أصحاب الأراضي المنتزعة ودفع تعويضات زهيدة لهم.
وإلى جانب حملة إعادة الإعمار، عمل الحريري على خصخصة صناعات البنية التحتية الرئيسية (الاتصالات، والمطارات والطرق، والطاقة، والكهرباء)، ومنح حوافز ضريبية للمستثمرين الأجانب. وكانت سياسته الاقتصادية الكلية تتبع نهجاً صارماً للسيطرة على الاحتياطيات المصرفية ومعدلات الفائدة، وهو ما أدى إلى انخفاض التضخم وارتفاع قيمة الليرة اللبنانية.
في البداية، حقق الحريري نجاحاً ملحوظاً في إعادة إعمار الاقتصاد اللبناني، وحظي بدعم البنك الدولي. فبين عامي 1993 و1997، نما الدخل القومي بمعدل 8%، وازدهر القطاع المصرفي، وتوسعت إيرادات الدولة. وانخفض معدل التضخم من 131% في عام 1992 إلى 12% في عام 1997. ولكن على الرغم من هذا النجاح، تراكم الدين العام اللبناني وارتفع من 3 مليارات دولار إلى 9 مليارات دولار بين عامي 1992 و 1996.
القوى الخارجية
حققت الحكومة بعض النجاح في استعادة السيطرة على أجزاء من جنوب لبنان. وفي أواخر الثمانينيات، سيطرت الجماعات الفلسطينية المدعومة من سوريا على معظم مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان. وسعت حركة فتح بقيادة ياسر عرفات إلى استعادة السيطرة حتى استولت في سبتمبر عام 1990 بعد قتال عنيف على المخيم الأكبر وهو مخيم عين الحلوة. لكن فتح رفضت نزع سلاحها وفقاً لاتفاق الطائف، فهاجم الجيش اللبناني مواقع فلسطينية في جنوب لبنان في يوليو 1991 وطردهم من محيط صيدا. وبعد ذلك سلّمت فتح جميع أسلحتها الثقيلة، ولم تحتفظ بأسلحتها الخفيفة إلا في مخيمي عين الحلوة والمية ومية.
ومع ذلك، كانت قصة النجاح تلك محدودة للغاية. إذ ظل الجيش السوري في لبنان، وتعهد حزب الله “بإبقاء أسلحته طالما بقي التهديد الإسرائيلي قائماً”. وكان وجود الجيش الإسرائيلي دليلاً على حقيقة هذا التهديد. وفي عام 1992، اغتالت طائرات إسرائيلية الأمين العام لحزب الله عباس الموسوي، الذي خلفه حسن نصر الله، الذي اغتالته إسرائيل لاحقًا عام 2024. واستمرت المناوشات على مستوى منخفض بين إسرائيل وحزب الله بشكل شبه دائم عبر الحدود الإسرائيلية اللبنانية حتى عام 1996.
وفي 11 أبريل 1996، شنّت إسرائيل حملة عسكرية استمرت 17 يوماً وأطلقت عليها اسم “عناقيد الغضب”، بهدف معاقبة حزب الله وإجبار الحكومتين اللبنانية والسورية على وقف الهجمات ضدها. فقصفت الطائرات الإسرائيلية مواقع حزب الله في جنوب لبنان، وجنوب بيروت، ومنطقة البقاع. وشهدت المنطقة تبادلاً كثيفاً لإطلاق الصواريخ والقصف المدفعي بين الطرفين، مما أدى إلى وقوع خسائر كبيرة في صفوف المدنيين، رغم أنّ تحديد الأعداد الدقيقة يظل صعباً في مثل هذه الحالات. ووفقاً لقوات الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان (اليونيفيل)، فقد قُتل أكثر من 120 مدنياً نتيجة القصف الإسرائيلي وأُصيب نحو 500 آخرين. بينما قدّرت الحكومة الإسرائيلية عدد القتلى بنحو 102 شخص.
وبلغت الأحداث ذروتها في مجزرة قانا (18 أبريل) في جنوب لبنان، عندما أطلق الجيش الإسرائيلي قذائف مدفعية على مجمع تابع للأمم المتحدة كان يحتمي فيه مدنيون لبنانيون. أسفر الهجوم عن مقتل أكثر من 100 شخص وإصابة عدد من عناصر من قوات اليونيفيل بجروح خطيرة.
وفي نهاية أبريل، توصّل حزب الله والحكومة الإسرائيلية إلى تفاهم لوقف إطلاق النار (وليس اتفاقاً رسمياً) يقضي بعدم قيام حزب الله بشن أي هجمات على شمال إسرائيل مقابل التزام إسرائيل وميليشيا جيش لبنان الجنوبي التابعة لها بعدم استهداف المدنيين في لبنان. وعُيّنت مجموعة مراقبة تضم ممثلين عن الولايات المتحدة وفرنسا ولبنان وإسرائيل للإشراف على وقف إطلاق النار. ولم يؤدّ هذا التفاهم إلى تحقيق السلام الكامل، لكنه ساهم في خفض عدد الاشتباكات بشكل كبير. كما انخفضت أعداد الضحايا المدنيين اللبنانيين من 640 عام 1996، إلى 123 خلال الأشهر الثمانية الأولى من العام التالي.
في تلك الأثناء، بدأت شعبية حكومة رفيق الحريري تتراجع، إذ ارتفع الدين العام إلى مستويات قياسية وواجه الاقتصاد أزمات حادة. وفي عام 1998، حلّ سليم الحص محل الحريري رئيساً للوزراء في إطار الصراع على السلطة بين الحريري وإميل لحود الذي انتُخب رئيساً للجمهورية بدعم سوري.
الفراغ السياسي
كانت الأحداث السياسية في لبنان ما تزال خاضعة بشكل كبير لتأثير القوى الخارجية، وعلى رأسها النظام السوري الذي واصل تدخله في الشؤون اللبنانية. سعى الرئيس إميل لحود ورئيس الوزراء سليم الحص إلى كسب التأييد الشعبي من خلال اتهام رفيق الحريري وحلفائه بالفساد والتواطؤ مع إسرائيل. وقد نالت تلك الاتهامات من الحريري وزعيم الدروز وليد جنبلاط، وكانا كلاهما من حلفاء سوريا في السابق، لكنهما تخليا آنذاك عن دعمها. ومع ذلك، عجزت حكومة الحص عن مواجهة الأزمة المالية المتفاقمة التي بدأت قبل مغادرة الحريري لمنصبه.
وعلى صعيد العلاقات الخارجية، كانت حكومة الحص في موقف ضعف لا يسمح لها بالتفاوض للتوصل إلى اتفاق مع إسرائيل. وفي الوقت نفسه، كانت حكومتا سوريا وإسرائيل تجريان مفاوضات بشأن فك اشتباك، ولكن على نطاق أوسع. وأوضح رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود باراك أنّه يريد الانسحاب من لبنان لتنتفي الذريعة المؤدية لاستمرار الهجمات عبر الحدود.
لكن الحكومة السورية رفضت التخلي عن نفوذها في لبنان، ولم تسمح للحكومة اللبنانية بالمشاركة في هذه المفاوضات. فقرر باراك المضي قدماً بشكل أحادي، وسحب القوات الإسرائيلية من لبنان في نهاية مايو 2000. ومع ذلك، بقيت القوات الإسرائيلية في جيب صغير بمنطقة مزارع شبعا التي احتلتها إسرائيل في حرب عام 1967، وهكذا بقيت التوترات كبيرة في تلك المنطقة.
حكومة رفيق الحريري الثانية
في أكتوبر عام 2000، عاد رفيق الحريري إلى منصب رئيس الوزراء. وكان هذا العام الأخير لبيل كلينتون في البيت الأبيض، وكان الرئيس الأمريكي حريصاً على دفع عملية السلام قبل ترك منصبه. وفي مارس عام 2000، التقى كلينتون بالرئيس السوري حافظ الأسد، لكنه فشل في إنقاذ المفاوضات بين إسرائيل وسوريا، ثمّ تُوفي الأسد في شهر يونيو. وفي يوليو عام 2000، انهارت قمة كامب ديفيد جديدة محتملة بسبب خلافات تتعلق بمطالب متعارضة بشأن القدس.
أنهى الانسحاب الإسرائيلي الأحادي من الجنوب في مايو 2000 الاحتلال الذي استمر 18 عاماً. وقد حرم ذلك حزب الله من أحد أبرز أسباب وجوده، لكن الحكومة كانت ضعيفة للغاية للاستفادة من هذا التطور حتى إنّ الحريري صرّح علناً بأنّ وجود حزب الله والجيش السوري ضروري لحماية لبنان.
كان من الواضح أنّ التعامل مع الميليشيات الفلسطينية المسلحة أمر بالغ الصعوبة. ففي عام 2001، صرّح وزير الدفاع اللبناني بأنّ فرض إجراءات أمنية حول المخيمات سيكون أسهل من المخاطرة بتنفيذ عملية توغل عسكري شاملة. كان ذلك وقتاً عصيباً للغاية بالنسبة للاجئين في المخيمات، فلم يكن ثمّة أمل في إيجاد فرص عمل خارج نطاق وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) المعنية بتقديم المساعدات لهم. وعلى الرغم من وجود تحويلات مالية كبيرة من الخارج، فإنّ العمل اليدوي المتاح في الاقتصاد اللبناني كان زهيد الأجر.
واجه الحريري صعوبات متزايدة في إدارة الحكومة، إذ كان الرئيس إميل لحود يعمل على عرقلة خططه الاقتصادية المتعلقة بالخصخصة، في حين واصل حزب الله هجماته على مواقع السيطرة الإسرائيلية لمزارع شبعا. ومع ذلك، وجد الحريري دعماً في جهات أخرى. إذ ساعده الرئيس الفرنسي جاك شيراك في الحصول على دعم مالي في نوفمبر 2002 من خلال حزمة مساعدات وسداد ديون بقيمة سبعة مليارات دولار.
وفي واشنطن، دعمت إدارة الرئيس جورج بوش الحريري في مواجهة الرئيس السوري بشار الأسد بعد تقديم سوريا الدعم لصدام حسين عام 2003. وفي أواخر عام 2004، تصاعدت الأزمة اللبنانية-السورية إلى ذروتها. إذ انتهت في نوفمبر الولاية الدستورية للرئيس لحود ومدتها ست سنوات من دون وجود بديل واضح من الطائفة المارونية. فأمر الأسد الحريري بحث مجلس النواب اللبناني على تجاهل الدستور وتمديد ولاية لحود ثلاث سنوات إضافية.
وفي سبتمبر 2004، دفعت الحكومة الأمريكية وحلفاؤها بقرار جديد في مجلس الأمن الدولي (القرار رقم 1559) طالب بإجراء انتخابات حرة ونزيهة في لبنان دون تدخل خارجي، مع احترام القواعد الدستورية، وانسحاب جميع القوات الأجنبية من لبنان، ونزع سلاح الميليشيات كافة. ودعم الحريري القرار، لكن مجلس النواب اللبناني، تحت ضغوط سورية، وافق على التعديل الدستوري وتمديد ولاية لحود لثلاث سنوات جديدة. وفي 20 أكتوبر 2004، قدّم الحريري استقالته، وتولى عمر كرامي رئاسة الحكومة. وبعد أقل من أربعة أشهر، اُغتيل الحريري في انفجار سيارة مفخخة وسط بيروت.