وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

ذهب لبنان: ضحية الأزمة الماليّة؟

ذهب لبنان
موظف يضع قطعة من الذهب على ميزان. FRANK RUMPENHORST / DPA / AFP

علي نور الدين

المقدمة

في آخر جلسات المحادثات التمهيديّة التي عقدتها حكومة ميقاتي في لنبان مع صندوق النقد، والتي جرت في شهر شباط/فبراير الماضي، عرضت الحكومة تصوّرًا متكاملًا لكيفيّة توزيع الخسائر المصرفيّة المتراكمة في ميزانيّات القطاع المالي اللبناني. كتلة الخسائر، التي تجاوزت قيمتها ال69 مليار دولار بحسب الخطّة الحكوميّة، باتت تمثّل اليوم الفارق بين ما يترتّب على القطاع المصرفي من التزامات ضخمة للمودعين بالعملات الأجنبيّة، وما تبقى من هذه السيولة في المصارف التجاريّة والمصرف المركزي، وهو ما يُفترض أن يتم معالجته لتمكّن القطاع المصرفي من استعادة انتظامه وملاءته.

مع الإشارة إلى أن هذه الفجوة تكوّنت جرّاء عوامل متعددة، منها كتلة السيولة التي وضعتها المصارف لدى المصرف المركزي، والتي تم تبديدها في عمليّات دعم العملة المحليّة، بالإضافة إلى السيولة التي أنفقها المصرف المركزي كفوائد ضخمة استفاد منها أصحاب المصارف، مقابل إيداع دولارات المودعين لدى المصرف المركزي. وفي الوقت نفسه، ساهم تعثّر الدولة اللبنانيّة في سداد ديونها في تكوين كتلة الخسائر هذه، وذلك نظرًا لاستعمال المصارف أموال المودعين لتسليف الدولة وتمويل الدين العام المتعاظم منذ التسعينات، مقابل فوائد مرتفعة استفاد منها المصرفيون تاريخيًّا.

الخطة الماليّة والخسائر والخطر على الذهب

للتخلّص من كتلة الخسائر، قررت الحكومة اللبنانيّة عرض مجموعة من الإجراءات المقترحة في الخطة التي تم تقديمها أمام صندوق النقد، والتي يُفترض أن يوافق عليها الصندوق ليدخل لبنان في برنامج قرض مع الصندوق. مع العلم أن القرض الذي يستهدف لبنان الحصول عليه من الصندوق تقارب قيمته الأربع مليارات دولار كحد أقصى، وهو مبلغ يمكن استخدامه على دفعات مقابل التزام الدولة اللبنانيّة بالإصلاحات الموعودة في الخطة الماليّة. أمّا إجراءات الخطّة الماليّة للتخلّص من الخسائر، فتقوم بشكل أساسي على طبع النقد لدفع الودائع المقومة بالعملات الأجنبيّة بالليرة اللبنانيّة، وبالتقسيط على مدى 15 سنة، وباعتماد أسعار صرف مجحفة مقارنة بسعر الصرف الفعلي. كما نصّت الخطة على إجراءات أخرى من قبيل تحويل بعض الودائع إلى أسهم في المصارف، أو سندات استثماريّة مملوكة بأصول الدولة.

في خلاصة الأمر، وبحسب توجهات الخطة الحكوميّة، سيتم تحميل كتلة الخسائر بشكل أساسي إلى المودعين من خلال الاقتصاص من قيمة ودائعهم، باعتماد أسعار الصرف المنخفضة المعتمدة لسداد الودائع المقومة بالعملات الأجنبيّة. كما سيتم تحميلها لجميع المقيمين، من خلال التراجع المتوقع في سعر صرف الليرة اللبنانيّة في المستقبل، نتيجة التوسّع في خلق النقد لسداد هذه الودائع. أما الأخطر، فهو التفريط بأصول الدولة اللبنانيّة، التي يُفترض أن تكون ملك الأجيال الحاليّة والمقبلة، لتخليص المصارف اللبنانيّة من كتلة الخسائر المتراكمة في ميزانيّة.

على أن أسوأ ما في الخطّة الماليّة، التي حضّرتها الحكومة اللبنانيّة، لم يقتصر على ذلك فحسب. فالخطة الماليّة نصّت أيضًا على تسييل أو بيع الذهب المملوك من قبل المصرف المركزي، والذي يُقارب وزنه الإجمالي حدود ال286.8 طن، بهدف التعامل مع جزء من الأزمة النقديّة والماليّة. مع الإشارة إلى أنّ لبنان يحل في المرتبة ال20 عالميًّا، والثانية عربيًّا بعد المملكة العربيّة السعوديّة، من ناحية حجم احتياطات هذا المعدن النفيس، والذي يفترض أن تكون احتياطيا استراتيجيا على المدى الطويل. باختصار، هذا الذهب الذي تقارب قيمته اليوم ال17 مليار دولار بحسب الأسعار المتداولة، والذي بدأ لبنان بمراكمته منذ العام 1948، بات معروضًا للبيع في إطار خطة تستهدف التعامل مع خسائر القطاع المصرفي اللبناني.

هكذا إذًا، عادت الحكومة اللبنانيّة إلى مبدأ تبديد الأموال العامّة لإنقاذ القطاع المصرفي من ورطة ناتجة عن قرارات إداراته الاستثماريّة، وعن قرارات المصرف المركزي التي صبّت لمصلحة أرباح أصحاب المصارف أنفسهم، على حساب المودعين في القطاع. وبعد أن استفاد المصرفيون تاريخيًّا من أرباح توظيفات مصارفهم في مصرف لبنان والدين العام، بات المطلوب اليوم تحميل المال العام كلفة خسائرهم، بدل أن يتم تحميلهم كلفة التصحيح المالي. مع الإشارة أن زيادة نسبة الأموال التي سيتم تبديدها لإنقاذ المصارف، تأتي هنا لتقليص حجم الخسائر التي سيتم تحميلها لأصحاب هذه المصارف، عبر الاقتطاع من قيمة رساميلهم، أو فرض إعادة رسملة هذه المصارف للتعامل مع جزء من الخسائر.

من هنا، يمكن فهم اتجاه مصرف لبنان للقيام بجردة شاملة للذهب الموجود لديه للمرّة الأولى منذ أكثر من ثلاثين سنة، وهو ما بدا كتحضير لعمليّة التصرّف بهذا الذهب، بعد التأكّد من حجم المخزون. ولم يكن من قبيل الصدفة أن يتزامن هذا الحدث مع توقيع لبنان اتفاق أوّلي مع صندوق النقد، وهو الاتفاق الذي يمهّد الطريق لتوقيع الاتفاق النهائي مع الصندوق لاحقًا، على أساس الخطّة الماليّة التي تعمل عليها الحكومة، والتي يندرج من ضمنها التصرّف بالذهب الموجود بحوزة مصرف لبنان.

تاريخ لبنان مع المعدن الأصفر

بدأ لبنان باكتناز الذهب للمرّة الأولى عام 1948، يوم اشترى نحو 1.5 طن من المعدن الأصفر، بهدف فك ارتباط الليرة اللبنانيّة بالفرنك الفرنسي، بعد أن نال لبنان استقلاله عن الفرنسيين سنة 1943. يومها كان الهدف من تخزين الذهب تعزيز الثقة بقيمة العملة المحليّة التي باتت مربوطة بقيمة الذهب من جهة، والدولار الأميركي كعملة عالميّة من جهة أخرى. وفي تلك المرحلة، قرر لبنان تضمين قانون النقد عام 1949 بنود تفرض تكوين احتياطات من الذهب والعملة الصعبة، بما يكفي لتغطية 50% من النقد المتداول بالعملة المحليّة في السوق، للحفاظ على مصداقيّة الليرة اللبنانيّة وقيمتها، وهو ما ساهم منذ ذلك الوقت بدفع الحكومات المتعاقبة إلى تعزيز احتياطاتها من هذا المعدن النفيس. وهكذا، ظلّت تتراكم احتياطات الذهب على مدى السنوات اللاحقة إلى أن وصلت عام 1971 لحدود ال286.5 طن، ثم توقّفت عمليّات الشراء منذ ذلك الوقت.

عام 1971، دخل العالم مرحلة تعويم العملات، عبر فك ارتباط قيمة الدولار الأميركي بمخزون الذهب الموجود لدى الولايات المتحدة، وتعويم قيمة العملات الأخرى بشكل حر دون اعتبار لقيمة الذهب. وبذلك انتهى نظام بريتون وودز المعتمد منذ العام 1945، الذي نص على ربط عملات العالم بشكل ثابت بالدولار، والمربوط بدوره بالذهب. على هذا الأساس، لم يعد المصرف المركزي اللبناني ملزمًا بتغطية النقد المطبوع بموجودات معيّنة من الذهب أو الاحتياطات الأخرى، باستثناء بعض القيود القانونيّة، وفقًا لنظام النقد الجديد. لكن بقاء الذهب الذي تراكم منذ السنوات السابقة ظل ضرورة استراتيجيّة، لتعزيز الثقة بموجودات المصرف المركزي، وبملاءة ميزانيّته.

بعد أن دخلت البلاد الحرب الأهليّة عام 1975، لجأ المصرف المركزي إلى شحن نحو 75% من الذهب الموجود لديه إلى قلعة فورت نوكس في الولايات المتحدة، ليتم وضعه في القلعة كوديعة مملوكة من المصرف المركزي اللبناني. أما الهدف من ذلك الإجراء، فكان تحييد الذهب عن الخضات الأمنيّة التي شهدتها الحرب الأهليّة بين عامي 1975 و1990، في ظل تدهور قدرة الدولة  اللبنانية على حماية مؤسساتها، ومنها المصرف المركزي. هنا تجدر الإشارة إلى أن مبنى المصرف المركزي نفسه، الذي يحتوي على مخزون الذهب المملوك من المصرف، تعرّض في العديد من محطات الحرب إلى القصف عمدًا أو عن طريق الخطأ، وهو ما يبرّر قرار إيداع الذهب في قلعة فورت نوكس.

وفي نفس سياق حماية الذهب من تداعيات الفوضى السياسيّة والأمنيّة خلال الحرب الأهليّة، قرر لبنان عام 1986 إصدار القانون رقم 42، الذي نصّ على منع أي طرف من التصرّف بالذهب عبر بيعه أو رهنه بشكل مباشر أو غير مباشر، إلا عبر قانون خاص صادر عن المجلس النيابي. وبذلك، كان القانون يضيف المزيد من القيود التشريعيّة التي تمنع نقل ملكيّة الذهب بأي شكل من الأشكال، خصوصًا أن بعض سنوات الحرب الأهليّة شهدت فوضى وتضاربا وعشوائيّة في عمل المؤسسات الدستوريّة، وهو ما هدد بإمكانيّة تحايل طرف ما للمس بملكيّة المصرف المركزي للذهب الموجود في البلاد.

كل ما سبق، يؤكّد الحساسيّة التاريخيّة لمخزون الذهب الموجود في المصرف المركزي من الناحيتين الماليّة والقانونيّة، والذي لطالما تعاملت معه البلاد كمخزون استراتيجي لا يُفترض أن يتم المس به، لكونه يمثّل آخر ما يضمن وجود بعض الملاءة في ميزانيّة المصرف المركزي. بل من الناحية العمليّة، تمثّل هذه الملاءة المتبقية بالتحديد آخر ما يعطي المصرف المركزي اللبناني الثقة عند تعامله مع المصارف المراسلة الأجنبيّة في الخارج، والتي مازالت توافق على منحه بعض التسهيلات في العمليّات الماليّة، رغم كل الخسائر التي ألمّت بميزانيّته.

مخططات بيع الذهب

في مقابل كل هذا الحرص التاريخي على الحفاظ على ذهب المصرف المركزي، تبدي الحكومة اليوم تفريطا غير مفهوم بهذه الثروة الاستراتيجيّة، كما تبيّن في الخطة الأخيرة المعروضة أمام صندوق النقد. ففي بادئ الأمر، نصّت الخطة بشكل صريح على بيع الذهب في المستقبل لاستخدام عائداته في التعامل مع الأزمة النقديّة، دون أن تحدد بشكل واضح وصريح كيفيّة استخدام هذه العائدات، ولا نوعيّة الضوابط التي ستكفل استخدامها بالطريقة الأمثل في إطار مسار التعافي المالي. وهذا الغموض، في كل ما يخص كيفيّة التصرّف بهذه العوائد، عزز من خوف كثيرين من إمكانيّة أن تكون هذه الخطوة مجرّد تبديد عبثي لاحتياطي الذهب الاستراتيجي، تمامًا كما بدد مصرف لبنان منذ بداية الأزمة الجزء الأكبر من احتياطات العملة الأجنبيّة بشكل فوضوي وغير مدروس.

لاحقًا، بدأت المداولات مع صندوق النقد تُظهر اتجاه الحكومة لاستخدام عائدات بيع الذهب في إطار عمليّة الإنقاذ المصرفي وتخليص المصارف من كتلة خسائرها، عبر استعمال هذه العائدات لسداد جزء من التزامات المصارف للمودعين. وهنا بالتحديد، تبيّن أن التفريط بالذهب لن يكون إلا في سبيل تقليص حجم الخسائر المتراكمة التي ستتحمّلها المصارف من رساميل أصحابها، مقابل زيادة نسبة الخسائر التي سيتم تحميلها للأموال العامّة، عبر بيع الذهب. وهكذا، وبدل أن يكون استعمال عائدات الذهب –في حال بيعه- محكوما برؤية ماليّة مدروسة ومنتجة على المدى البعيد، لكونه ثروة سياديّة تتسم بالحساسيّة الشديدة، اتجهت الحكومة لاستخدامه لخدمة الفئة الأكثر نفوذًا في النظام المالي.

حتّى اللحظة، لم تحصل الحكومة على قبول مبدئي من صندوق النقد اتجاه مقارباتها، ومنها تلك المتصلة بطريقة توزيع الخسائر، وهو ما حيّد الذهب الموجود بحوزة المصرف المركزي عن هذا النوع من الخطط. وخلال الأيام المقبلة من المفترض أن تبدأ الحكومة جولة المباحثات الجديدة مع الصندوق، التي ستتمحور حول الخطّة الماليّة التي سيحصل على أساسها لبنان على قرض الصندوق. ولهذا السبب، ستُحدد الأيام المقبلة مصير الذهب اللبناني، من ضمن معادلات توزيع الخسائر التي سيتم التفاهم عليها بين الحكومة اللبنانيّة وصندوق النقد الدولي. مع العلم أن أي مس بالذهب سيحتاج في المستقبل إلى تشريع خاص من المجلس النيابي، بالنظر إلى وجود القانون الذي يمنع الحكومة من التصرّف به دون موافقة المجلس.

Advertisement
Fanack Water Palestine