كانت حدود دولة لبنان التي شكلتها فرنسا أوسع كثيراً من حدود لبنان العثماني قبل الحرب العالمية الأولى. وسعى الفرنسيون إلى إخضاع لبنان إلى سيطرة الموارنة بحيث تعتمد على فرنسا. وهكذا، سيطر الفرنسيون على منطقة أوسع تضم مجموعات طائفية أخرى.

كتبه: C.R. Pennell أستاذ سابق في تاريخ الإسلام والشرق الأوسط, جامعة ملبورن أستراليا
حرره: إريك برينس
السياق التاريخي
خلال الحرب العالمية الأولى، عقدت دول الحلفاء (بريطانيا، وفرنسا، وروسيا حتى عام 1917) مجموعة من الاتفاقيات السرية لتقسيم الإمبراطورية العثمانية بمجرد انتهاء الحرب. وشملت هذه الاتفاقيات ترتيبات مع الدولة العربية بزعامة الشريف حسين في الحجاز، والمنظمة الصهيونية (إعلان بلفور)، وبين الحلفاء أنفسهم.
وكانت اتفاقية سايكس بيكو بين بريطانيا وفرنسا إحدى أبرز نتائج تلك الاتفاقيات، إذ نصّت على تقسيم سوريا الكبرى ليكون الجزء الشمالي (سوريا ولبنان حالياً) لفرنسا، وأنّ تأخذ بريطانيا الجزء الجنوبي (فلسطين والأردن حالياً، لتشكيل ممر بين مصر والعراق).
وفي نهاية الحرب، خرج جيش الشريف حسين من الحجاز واستولى على دمشق في 1 أكتوبر 1918، قبل وصول القوات الفرنسية إلى هناك. وتولى الأمير فيصل نجل الشريف حسين، بمساعدة توماس إدوارد لورنس (لورنس العرب)، زمام الأمور وأعلن قيام دولة عربية تحت اسم سوريا الكبرى، وكانت تضم آنذاك المناطق التي خُصصت للبريطانيين والفرنسيين.
وبحلول عام 1920، أدت الضغوط البريطانية إلى إزاحة فيصل عن دمشق ليتولى عرش مملكة العراق الحديثة، والتي ستتحول إلى جمهورية بعد الانقلاب الذي نُفّذ في يوليو 1958 وأسفر عن اغتيال فيصل الثاني حفيد فيصل الأول.
وفي منطقة نفوذ فرنسا من سوريا الكبرى، أسس الفرنسيون إدارة للانتداب حرصت على تجنب المعارضة من خلال دمج حلفائها المحليين في الحكم الفرنسي. وأقامت فرنسا دولتين سنّيتين منفصلتين (في حلب ودمشق)، وأخرى علوية في اللاذقية، ودولة درزية في جنوب سوريا.
وعلى ساحل البحر المتوسط، اقُتطع لبنان من سوريا الكبرى ليصبح دولة منفصلة، ولكن تحت إدارة الانتداب الفرنسي. وبذلك نشأت الدويلة الوحيدة التي شكّلتها فرنسا ولم تنضم لاحقاً إلى سوريا مع إعادة توحيدها عام 1930.
إعادة تعريف لبنان: أسس الاضطراب
كانت حدود دولة لبنان التي شكلتها فرنسا أوسع كثيراً من حدود لبنان العثماني قبل الحرب العالمية الأولى. وأصبحت متصرفية جبل لبنان القديمة، معقل الموارنة والدروز، قلب الدولة الجديدة، لكنها كانت صغيرة بما لا يسمح لها بالاستمرار اقتصادياً بمفردها، إذ لم تكن تضم بيروت وطرابلس.
وسعى الفرنسيون أيضاً إلى إخضاع لبنان إلى سيطرة الموارنة بحيث تعتمد على فرنسا. وهكذا، سيطر الفرنسيون على منطقة أوسع تضم مجموعات طائفية أخرى.

ضمت الحدود الجديدة المدن الرئيسية على الساحل، ووادي البقاع شرق سلسلة جبال لبنان، ومنطقة أخرى في الجنوب شملت صيدا وصور وصولاً إلى الحدود مع فلسطين الخاضعة للسيطرة البريطانية، مما أدخل أعداداً كبيرة من الروم الأرثوذكس والسنّة والشيعة في تلك الحدود.
ظلّ السكان المسيحيون يشكّلون غالبية هذا الخليط من الهويات الدينية المختلفة، وحظي الموارنة بالنسبة الأكبر بينهم. ولمّا كانت هذه الطائفة هي الأكبر من دون أن تشكل أغلبية مطلقة، اضطُرت إلى الاعتماد أكثر على الفرنسيين. وصار الموارنة والفرنسيون حلفاء مقربين في الدولة المستقلة الجديدة التي نشأت بعد الانتداب.
بالإضافة إلى ذلك، كانت هناك فوارق اقتصادية واضحة، فالشيعة الذين سيطروا على الجنوب كانوا فقراء بشكل عام فضلاً عن كونهم مهمشين سياسياً في توزيع السلطة. وقد أدى كل ذلك إلى جعل لبنان الموسع، بعد إعادة رسم حدوده وتشكيل الهويات الطائفية، مضطرباً جوهرياً.
نال لبنان استقلاله رسمياً عام 1920، لكن البلاد ظلّت بلا دستور حتى عام 1926. ثم عُدّل هذا الدستور في العام التالي ثم عام 1930 مرة أخرى. واستقر الأمر في النهاية على تشكيل نظام جمهوري بمجلس نيابي من غرفة واحدة يتولى انتخاب الرئيس لولاية لست سنوات غير قابلة للتجديد، وما تزال تلك المواد الدستورية قائمة إلى اليوم.
لم ينص الدستور صراحةً على اتباع نظام المحاصصة الطائفية، لكنه أعطى وزناً غير رسمي لما أُطلق عليه “الاختلافات الطائفية”. وبصرف النظر عن بنود الدستور، فإنّ الدولة اللبنانية الجديدة أُسست على الطائفية وفي إطار أضيق عما كان عليه الوضع قبل الحرب العالمية الأولى. ولكن المختلف هو أنّ تلك الانتماءات الطائفية أصبحت مرتبطة بهويات قومية مثل المسيحية أو الأوروبية عند الموارنة، والقومية العربية عند السنّة، كما اشتد التنافس على النفوذ والسلطة.
التوازن الطائفي
تغير التوازن الديمغرافي مع إعادة رسم حدود لبنان. فقد استاء الروم الأرثوذكس من نمو نفوذ الطائفة المارونية، وتضاءل حجم الطائفة الدرزية لتصبح ممثلة لنسبة أصغر بكثير من السكان. كما انقسم الموارنة على أنفسهم، إذ أراد بعضهم أن يظل لبنان مجرد دولة مارونية صغيرة.
زعم إميل إده، الذي أصبح رئيساً للوزراء عام 1929، أنّ لبنان دولة غربية من حيث أصلها بسبب هويتها المسيحية، ولذلك يجب إقرار الحكم المسيحي بلا خلاف. وكان ذلك في رأيه يعني تقليص حجم لبنان. ففي عام 1932، اقترح إعادة طرابلس وعكار في الشمال إلى سوريا لتقوية الأغلبية المارونية، وأراد بذلك الاقتراح أن تكون نسبة المسيحيين في لبنان 80%.
وعلى الجانب الآخر، دعا زعيم ماروني بارز وهو بشارة الخوري إلى تشكيل دولة لبنانية عربية. وكانت له علاقات بالقوميين العرب السنّة مثل عبد الحميد كرامي من طرابلس وصائب سلام من بيروت، اللذين كانا على استعداد للتعاون مع فرنسا بهدف الوصول إلى الوحدة مع سوريا في نهاية المطاف.
أما الزعيم السنّي الشهير رياض الصلح، والذي أصبح لاحقًا أول رئيس وزراء للبنان بعد الاستقلال، فقد كان ضد مشروع الدولة اللبنانية الجديدة تماماً، وسعى بدلاً من ذلك إلى الوحدة مع سوريا فوراً.
وبغرض تحقيق توازن بين التناقضات والتوترات بين مختلف الطوائف (وداخلها)، استقر الأمر على تفاهم يقضي بتوزيع المناصب العليا في الدولة بين الطوائف كل حسب حجمه. وهكذا، أصبح منصب الرئيس للموارنة، ورئيس الوزراء للسنّة، ورئيس مجلس النواب للشيعة.
وأُُسس النظام السياسي اللبناني القائم إلى اليوم على ذلك التفاهم الذي وزع السلطة على أساس المحاصصة الطائفية.