يعاني أكراد لبنان من التهميش والمعاملة كمواطني درجة ثانية، حتى أن البعض يخفون أصولهم الكردية على الرغم من تواجدهم في هذه الدولة منذ آلاف السنين.
يوسف شرقاوي
المقدمة
يعاني الأكراد من التهميش والمعاملة كمواطني درجة ثانية في لبنان. وعلى الرغم من تواجدهم في هذه الدولة منذ آلاف السنين، فإنّ بعض الأكراد يضطرون لإخفاء أصولهم الكردية كي يتفادوا التمييز في المجتمع اللبناني.
ويعود إنكار التمثيل الدستوري للكرد إلى عددٍ من الإشكاليات السياسية والاجتماعية والطائفية التي يعيشها لبنان. ويأتي على رأس تلك الإشكاليات ارتكاز نظام لبنان الاجتماعي على تقسيمات وتكتلات عرقية وطائفية. وبطبيعة الحال، فقد أدى هذا النظام إلى تعزيز حضور جماعات على حساب جماعاتٍ أخرى مثل الأكراد.
تاريخٌ قديم
يعود تاريخ الحضور الكردي في لبنان إلى القرن الثاني عشر الميلادي وبالتحديد إلى العهد الأيوبي. وبحسب جمال حسن، رئيس رابطة نوروز الثقافية اللبنانية، فقد اعتمد صلاح الدين الأيوبي على القبائل الكردية في صراعه ضد خصومه وضد الصليبيين. كما أنه استخدم هذه القبائل في حماية الثغور وسواحل بلاد الشام.
واعتمد العثمانيون في لبنان على الباشوات والآغوات والأمراء الأكراد في الوظائف الإدارية والعسكرية. وتكثّف الوجود الكردي في لبنان بعد فشل الثورات الكردية في مواجهة جيوش الدولة التركية الوليدة بقيادة مصطفى كمال أتاتورك، لا سيّما ثورة الشيخ سعيد بيران، وثورة الجنرال إحسان نوري باشا وثورة سيد رضا.
وفي ستينيات القرن الماضي، استقبل لبنان موجة الهجرة الكردية الثانية التي أتت هذه المرة من الجارة سوريا. وبحسب إحدى الدراسات، فإن هذه الموجة جاءت نتيجةً للاضطرابات السياسية التي شهدتها سوريا بعد 1958 وما رافق تلك الاضطرابات من انحدار في الوضع الاقتصادي السوري. وفي هذا السياق، يقول حسن إنّ أغلب الكرد السوريين الذين هاجروا إلى لبنان كانوا من الطبقات الشعبية الفقيرة التي امتهنت الأعمال الشاقة كالعتالة.
يؤكد ذلك علي محمد حرفوش، الباحث المتخصص في العلوم الاجتماعية. ويقول حرفوش: “يشهد التاريخ الكردي في لبنان على التحام الفقر بالفقر بسبب العنصرية وعدم قدرة الأكراد الذين يمتلكون الجنسية على العمل في مهن ووظائف عامة. فكانوا يلجؤون للعمالة كعتالين واختاروا مناطق تكسوها ملامح الفقر الحزينة في ذلك الوقت للإقامة”. ويضيف أنّ هذا التاريخ المرير “طبع كلّ معاناة مستجدة للأكراد الذين يستعيدون في المحطات التي يشعرون فيها بالظلم، سنين طويلة من العنصرية والوصم بالغرباء”.
كلّ تلك العقبات لم تمنع الكرد السعي بشكلٍ حثيث للانصهار في نسيج المجتمع اللبناني. ومن المعروف أنّ القسم الأكبر من العائلات الكردية اللبنانية يعيش منذ مئات السنوات في لبنان. ومن أبرز تلك العائلات آل سيفا وآل المرعبي والحمية وآل جانبولات والمشيك. ويُقال إنّ مدينة عكار أخذت اسمها من ولاية هكاري حيث الجبال العالية في كردستان، موطن عائلة آل سيفا والمرعبي.
محاولات للاندماج السياسي
محاولات الكرد للاندماج في المجتمع اللبناني اقتصرت على الجوانب المجتمعية والثقافية والاقتصادية. بيد أن النجاح الذي تمّ تحقيقه في الجوانب السابقة لم يتوّج بتحقيق أي نجاح على مستوى التمثيل السياسي في لبنان.
ويرى جمال حسن أنّ الحركة السياسية الكردية لم تنجح في لملمة شتات الكرد على الساحة اللبنانية. وأضاف في هذا السياق: “سعت بعض القوى السياسية اللبنانية لاستغلال الثقل البشري الكردي أثناء الحرب الأهلية اللبنانية. وعلى هذا النحو، توزع انتماء الكرد السياسي بين القوى السياسية المتناحرة في لبنان”.
على الطرف الآخر، يقول حسن إنّ بعض الساسة من كرد سوريا لعبوا دوراً سلبياً في عدم تشكل حالة سياسية كردية وازنة في المشهد السياسي اللبناني.
هذه الظروف، بالإضافة إلى تردّي الأوضاع الاقتصادية لغالبية الأكراد، دفعت قسماً من أغلب العوائل الكردية للسفر إلى أوروبا. أما القسم الآخر، فاختار الاستقرار في تركيا.
ويقول حسن إنّ أكراد لبنان محسوبون على الطائفة السنية. ويعني هذا أن الكرد ليس لهم حصة تمثيلية سياسية “كوتا” ضمن المؤسسات الرسمية اللبنانية. وعلى هذا الأساس، لا نجد تحت قبة البرلمان اللبناني من يمثّل الكرد.
تلخص غزالة سعدو، المرأة الكردية اللبنانية البالغة من العمر 65 عاماً، كلّ ذلك بقولها: “عامَلَتنا الدولة اللبنانية كمواطنين من الدرجة الثانية، حتى بدا الشعور بالانتماء إلى لبنان صعباً على بعضنا. عانينا من التهميش، وواجهنا صعوبات في الحصول على أدنى مقومات الحياة. وفي مرحلةٍ لاحقة، صار يُنظر إلينا كأداة انتخابية حصراً، ففَقَد أولادنا الشعور بالانتماء وبعضهم سافر إلى كردستان وحمل سلاحاً للدفاع عن موطنهم الأصلي كردستان واستشهدوا هناك”.
ظروف التجنيس
كلام سعدو السابق يشير إلى ما يعيشه الأكراد اللبنانيون من التباسٍ في هويتهم. وعلى الرغم من وجود قسمٍ من الأكراد في لبنان منذ عشرينيات القرن الماضي، إلا أنّ هذا القسم لم يتم منحه الجنسية اللبنانية. ويتشابه وضع هؤلاء مع حال السريان الكاثوليك والأرثوذكس والآشوريين والعرب الرحل في لبنان. وبقي أكراد لبنان دون جنسية حتى فترة طويلة من تواجدهم في هذا البلد، ما دفعهم كما أشرنا لإخفاء هويتهم الأصلية، درءاً للتمييز المُمارس ضدهم.
وعلى الرغم من عدم وجود إحصائيات دقيقة لأعداد الكرد في لبنان، فإن هناك ما بين 100 و150 ألف كردي لبناني. ومع ذلك، لا يملك هؤلاء الحق بمقعد خاص في البرلمان اللبناني. ويعود السبب في ذلك إلى عدم وجود اعتراف دستوري بهم كأقلية مماثلة للأقليات الأخرى الموجودة في لبنان. ونتيجة لذلك، يشعر الكثير من الكرد اللبنانيين بالغبن والحرمان ويؤثر في تطوير هذا الشعب وشعوره بأنه يمثل جزءاً من النسيج الوطني اللبناني.
تاريخياً سبق لعددٍ من النواب اللبنانيين المطالبة بمنح الأكراد الجنسية اللبنانية. ومن هؤلاء النائب سامي الصلح في عام 1951، وعبد الله المشنوق في عام 1962، وعدنان الحكيم في عام 1969 وعبد المجيد الزين عام 1971. كما تدخل كمال جنبلاط لمنح قسم كبير من الكرد من المصنفين قيد الدرس الجنسية اللبنانية.
وجرى تجنيس أكراد لبنان على مرحلتين. ففي عام 1956، جرى منح الجنسية اللبنانية لبعض العائلات الكردية. وفي عام 1994، منحت الجنسية اللبنانية للأكراد المقيمين في لبنان كالأقليات الأخرى.
ويذكر الخبير في الشؤون الكردية محمود فقيه أنّ الأكثرية الساحقة من الأكراد في لبنان مولودون فيه. وبحسب فقيه، فقد تم منح الجنسية اللبنانية لنحو 125 ألف شخص بينهم 10 آلاف كردي بموجب المرسوم الجمهوري رقم 5247 لعام 1994. وبقي عددٌ قليل من الكرد دون تجنيس. وحرم من حملوا هوية قيد الدرس من الاستفادة من الخدمات التعليمية والضمانات الاجتماعية والدخول إلى وظائف الدولة. ولهذا السبب، ترتفع نسبة الأمية ومعدّلات البطالة بينهم.
حنان عثمان، نائب رئيس رابطة نوروز الثقافية، تشير إلى أنّ “محطات الظلم لا تنتهي في جميع دول الشتات التي توزع بينها الأكراد”. وترد عثمان هذا الظلم إلى “حرمان الكرد من حقوق المواطنة والحقوق المدنية والسياسية”.
بدوره، يقول جمال حسن لفنك إنّ عدم قبول الهوية الكردية أسوةً ببقية أقليات لبنان، أمرٌ ناتج عن إنكار هذه الهوية في المواطن التي ينحدر تاريخياً أكراد لبنان منها، لا سيما سوريا وإيران وتركيا. يُضاف إلى ذلك ما شكلته تلك الدول من ضغط على الحكومات اللبنانية لعدم الإقرار بوجود هوية كردية في لبنان، لما لذلك من انعكاسات على الكرد المضطهدين في مواطنهم الأصلية. ويعتقد حسن أنّ العامل الخارجي المُشار إليه كان وما يزال صاحب الدور الحاسم في عدم إيراد الهوية الكردية في الدستور اللبناني.
وفي هذا السياق، يضيف حسن: “بقاء الكرد دون جنسية يحرمهم من دخول المدارس والجامعات وتولّي الوظائف الإدارية. ونتيجة لذلك، يضطر هؤلاء للتوجه للأعمال اليدوية والاشتغال بالمهن الحرة. كما أن عدم الاعتراف بالهوية الكردية في الدستور اللبناني أقصى الكرد عن الحياة السياسية. وبقي التمثيل السياسي لكرد لبنان حكراً على مرشحي الطائفة السنية الذين قد يلجؤون لكسب دعم الكرد عند الاحتياج لصوتهم الانتخابي”.