وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

عيد القديسة بربارة لمسيحيي بلاد الشام والحفاظ على التقاليد

الهالوين قد يكون ممتعًا، لكنه لا ينبغي أن يطغى على عيد البربارة. فهو عيد فرح وبهجة، والعنصر الديني يضفي بُعدًا إثرائيًا لأنه يؤكد على أهمية التضحية من أجل المسيحية.

عيد القديسة بربارة
أبنية وكنائس مغطاة بالثلوج في بلدة بشري المسيحية المارونية المطلة على وادي قاديشا في الجبال اللبنانية شمال بيروت. وكالة فرانس برس / باتريك باز

دانا حوراني

في الرابع من ديسمبر من كل عام، يحتفل المسيحيون في بلاد الشام في لبنان وفلسطين والأردن وسوريا بعيد البربارة.

ورغم أن تشابهًا ما يأتي بين عيديْ البربارة والهالوين ، فإن أصولهما مختلفة تمامًا. فعيد الهالوين، الذي يُحتفل به في 31 أكتوبر من كل عام، هو تقليد له جذور في عيد ساوِن (Samhain) القلطي القديم. لكنه تغيّر بمرور الوقت وأصبح عيدًا مليئًا بالأنشطة المبهجة والأزياء التنكرية واليقطين وجمع الحلوى من الأصدقاء والأقارب والجيران. أما عيد البربارة فما يزال محافظًا على أصالته وتقاليده رغم المحنة الاقتصادية والاضطرابات التي عمّت بلاد الشام.

قالت باسكال نعمة، معلّمة في المرحلة الابتدائية في مدرسة كاثوليكية في لبنان، لفنك: “تتجمع العائلات ويتلاقى الناس في عيد البربارة. ويتطلّع الصغار إلى قدوم هذا العيد لما فيه من أنشطة متنوعة تقدّم بديلًا ثقافيًا ودينيًا للهالوين في المدرسة والبيت”.

ماهيّة عيد البربارة؟

تُوجد روايات عديدة عن قصة القديسة بربارة، وغالبيتها تختلف في التفاصيل الصغيرة. كان والد بربارة وثنيًا معروفًا يُدعى ديوسقوروس، وقد وُلد في القرن الثالث الميلادي في مدينة هليوبوليس الفينيقية القديمة المعروفة الآن باسم بعلبك في لبنان. وكان أبوها يخاف عليها كثيرًا ، لذلك حبسها في برج لم يسمح بدخوله إلّا لمعلّمي الوثنيين. وتقول الأسطورة إن الوقت الذي أُجبرت على قضائه وحدها دفعها إلى التأمل العميق، فأيقظ في قلبها شكًّا في الوثنية.

تذكر بعض المصادر أن بربارة هربت من زواج من رجل وثني، بينما تؤكد مصادر أخرى على أن كاهنًا قد زار بربارة في حبسها وعمّدها، ثم ساعدها على الهروب متنكرة في زي طبيب.

لكن حقيقة إيمان بربارة بالمسيحية ما تزال مجهولة حتى اليوم لأن البعض يرى أنها وجدت الإيمان عبر التأمل، بينما يقول البعض الآخر إنها عرفت الإيمان على يد كاهن خطط لهروبها.

هرع والد بربارة لقطع رقبة ابنته بسيفه عندما علم باعتناقها المسيحية، لكنها هربت واختبأت في حقول القمح والتلال القريبة كما تقول الرواية.

تنكرت بربارة كي لا يعثر عليها والدها والجنود الرومانيون الذين أمرهم بالبحث عنها. يُقال إن أباها قد قتلها في الرابع من ديسمبر، لكنها ربما تكون قد اختُطفت وتعرّضت للتعذيب كما نجد في روايات مختلفة من القصة.

بعد محاولات فاشلة عديدة لحرقها وهي على قيد الحياة، قرر معذّبوها قتلها بالسيف في نهاية المطاف. لكن الروايات تقول إنهم صُعقوا بالبرق، مما جعل بربارة شفيعة البرق والحمّى والموت المفاجئ المروّع.

بالإضافة إلى كونها واحدة من القديسين المساعدين الأربعة عشر عند الروم الكاثوليك، تُعتبر بربارة قديسة مبجلة في التقاليد المسيحية المشرقية.

العادات والتقاليد

في الرابع من ديسمبر، يزرع مسيحيو بلاد الشام بذور القمح (أو الحمص، أو حبوب الشعير، أو الفول، أو العدس) على الصوف القطني، وبعد ذلك يضعونها تحت شجرة عيد الميلاد بمجرد أن تنبت.

وذلك لإعادة تمثيل إحدى معجزات بربارة، إذ يُقال إن القمح ظهر من العدم ليغطي طريقها في أثناء هروبها عبر الحقول. وبمجرد أن يبلغ طول البراعم ست بوصات، يستخدمها الناس في مشاهد المهد أو يعرضونها أمام المزود في المغارة.

ومن الأطعمة الشهيرة التي يتشاركها الناس في العيد القطايف المحشوة بالجوز والسكر أو القشطة وتُقدّم مع القطر.

ومن الأطباق الشعبية التي تجلّ حقول القمح التي اختبأت بها هو القمحية التي تُحلّى بالسكر وتُزيّن بالجوز والزبيب.

ومن الحلوى المحبوبة كذلك المعكرون الذي يُعدّ من السميد ويُقلى ثم يُغطى بالقطر، واللقيمات التي تُعدّ من العجين المقلي وتُحشى بالكريمة.

يرتدي الكبار والصغار أزياء وأقنعة تعبّر عن هروب القديسة بينما يحتفلون بالعيد بغناء “هاشلي بربارة” التي اشتهرت بعدما غنّتها الراحلة صباح.

ويردد الجميع كلمات الأغنية التي تقول: “هاشلي بربارة مع بنات الحارة. عرفتا من عينيها، ومن لمسة إيديها، ومن هاك الإسوارة”.

يتنقّل الأطفال، بخاصةً في لبنان، من باب إلى باب لجمع الحلوى والنقود من بيوت الجيران. لكن الاحتفالات في سوريا وفلسطين تقتصر على المراكز الدينية والمدارس المسيحية والتجمعات العائلية، وفقاً لما قاله خبير اللاهوت المسيحي السوري جاد صوما لفنك.

الاحتفالات في بلاد الشام

سوريا

يقول صوما إن مظاهر الاحتفالات في المراكز الدينية والأكاديمية أمر جديد على سوريا. فمنذ بضع سنوات، كان عيد القديسة بربارة يقتصر على قداس الكنيسة والتجمعات العائلية في البيوت.

بالنظر إلى الصعوبات التي واجهها المسيحيون السوريون على مدى العقد الماضي، فإنهم الآن يحتفلون بالمناسبة بشكل مختلف قليلًا.

وأضاف صوما: “أحسب أنهم يفعلون هذا لإسعاد الأطفال ولمّ شمل المجتمع”.

وجدير بالذكر أن أكثر من خمسة ملايين سوري قد اضطُروا إلى الهرب من الصراع الذي دمّر البلاد سعيًا إلى الأمان.

ورغم أن بلاد الشام تتشارك هذه التقاليد، فإن صوما أشار إلى أن الأزمة الاقتصادية الأخيرة في سوريا صعّبت الأمر على العائلات المتضررة التي ترغب في الاحتفال.

فبين ديسمبر 2019 و ديسمبر 2020، ارتفعت أسعار المواد الغذائية الأساسية بنسبة 236%، وفقدت الليرة السورية 82% من قيمتها أمام الدولار، وأصبح 60% من السكان يعانون انعدام الأمن الغذائي.

وقال صوما: “لم يعد من ليس له أطفال يهتم لهذه الأعياد، ومن عندهم أطفال يخشون من تكلفة الأزياء والحلوى”. وأضاف: “يبذل الآباء قصارى جهدهم ليشارك أبناؤهم في الاحتفالات بصناعة أزياء رخيصة وإعداد القليل من الحلوى”.

يعيش في سوريا نحو 638 ألف مسيحي، أو 3.3% من السكان البالغ عددهم 19.6 مليون نسمة. وقد انخفض عدد المسيحيين في البلاد انخفاضًا حادًا نتيجة الاضطهاد والصراع المسلح.

ويرى صوما أن عيد القديسة بربارة، رغم تناقص حجم المجتمع، يمكّن المسيحيين السوريين من الحفاظ على تراثهم والمساهمة في إضفاء التنوع على تقاليد المجتمع السوري.

لبنان

شأنه شأن سوريا، توضّح نعمة أن أزمة لبنان المالية أدّت إلى انخفاض قيمة الليرة اللبنانية بنسبة 95%، وانخفاض المعروض من الدولار، وتضاعف معدلات التخضم.

وقالت المعلّمة إن الاحتفالات والتجمعات قلّت بعد جائحة كورونا. وأضافت: “الجائحة جعلت الناس يقلقون من زيارة بيوت الآخرين أو استقبال الآخرين في بيوتهم”.

وأضافت: “قبل الجائحة، كان التلاميذ يرتدون الأزياء في الفصول ويغنّون ويمثّلون مسرحيات صغيرة تحكي حياة القديسة. ولا أدري إن كان هذا ما ستشهده المدارس المسيحية كلها في العيد هذه السنة”.

فلسطين

جورج خوري رجل دين شدد على أهمية هذا اليوم عند المسيحيين الفلسطينيين، وقال إن الأطفال في فلسطين يتطلّعون إلى الاحتفال به كل عام.

وقال خوري: “لن يقف شيء في طريق الأعياد. لقد صمدت العادات الحالية على مرّ السنين وما تزال صامدة. سنعدّ كميات كبيرة من الطعام لتوزيعها على الناس. والأطفال غالبًا ما يحبون الاحتفال بها”.

كان المسيحيون الفلسطينيون يشكّلون ذات يوم جزءًا كبيرًا من السكان، لكن نسبتهم الآن لا تتخطى 2% من السكان الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، و10% من الفلسطينيين في أنحاء العالم. ويتبع غالبية المسيحيين الفلسطينيين إلى الطوائف الأرثوذكسية، يليها الروم الكاثوليك والأنجليكان واللوثريين وغيرها من الطوائف.

حفظ الثقافة

وفقاً للمحلل الاجتماعي جو شليطا، فإن الحفاظ على التقاليد القديمة أمر بالغ الأهمية لحفظ الهوية الوطنية والدينية المعرّضة لخطر الانقراض بسبب العولمة والتأثيرات الأجنبية الكبيرة.

ويقول إن الأجيال القادمة قد تبقى على اتصال مع أسلافها وتحافظ على مجتمعاتها بحفظ هذه العادات وإثراء الثقافة القومية.

وأضاف لفنك: “إن لم نحفظ تراثنا، فستكون خسارتنا هائلة. لكن الناس غالبًا ما يقاومون، بخاصةً عندما يكون الخطر وشيكًا”.

ويرى شليطا أن سكان الريف، لا سيما القرى النائية، سيكونون هم من يتمسكون بالعادات والتقاليد على المدى الطويل. وتقع مسؤولية تعليم الصغار بعيد القديسة بربارة والأعياد الأخرى ذات الأهمية الثقافية والروحية على عاتق أفراد المجتمع، لا سيما الكبار منهم.

وقال إن الهالوين قد يكون ممتعًا، لكنه لا ينبغي أن يطغى على عيد البربارة. فهو عيد فرح وبهجة، والعنصر الديني يضفي بُعدًا إثرائيًا لأنه يؤكد على أهمية التضحية من أجل المسيحية.

لقد ظهرت المسيحية في الشرق الأوسط. وفي فلسطين، اعتنق بعض اليهود المسيحية لأول مرة وهم ينشرون إنجيل يسوع المسيح في أنحاء الإمبراطورية الرومانية وبقية العالم.

يتفق الخبراء على أن الأعياد المسيحية الصغيرة والكبيرة، من عيد البربارة إلى عيد الميلاد المجيد، ما تزال مهمة عند مسيحيي الشرق الأوسط الذين ما يزالون متمسكّين بتقاليدهم وثقافتهم رغم تضاؤل أعدادهم.

Advertisement
Fanack Water Palestine