المقدمة
يوسف شرقاوي
عايش المسرح العربي عدّة مراحل في حياته القصيرة الممتدة إلى قرنٍ ونصف تقريباً. دخل المسرح العربي “المرحلة الثالثة”، بعد أزمات ما بعد الاستقلال، من تفاوت طبقي وظلم اجتماعي، واجداً نفسه أمام مهمة تجديد المجتمع المستقل وحمايته ومساهماً في التغيير أثناء الثورات العربية المنادية بالاشتراكية. ثم جاءت هزيمة يونيو ١٩٦٧، وعاش المسرح هذه المرحلة إلى منتصف الثمانينات، حيث انتهى إلى هبوط يائس وسريع.
مرّ المسرح العربي بهذا المفصل منذ ١٩٦٧ إلى فترة متأخرة، بين تبنّي تقاليد المسرح الغربي وفكرة تأصيل المسرح العربي، وضمن هذا الواقع برزت أشكال مسرحية ارتبطت بواقع الناس ووضعهم واعتمدت على المشاركة الجماعية في إنتاجها المسرحي.
قد تكون أهمّها تجربة فرقة مسرح الحكواتي في لبنان، التي نشرت بيانها في أيار ١٩٧٩، بمحاولة لتأصيل تجربة مسرحية تستمد خامتها من المُعاش، وتستطيع من خلالها تشكيل موقف تقدّمي ونهضوي.
ثمّة خلفيّة سياسيّة واجتماعيّة وثقافيّة للمسرح اللبناني في السبعينات، تتبلور في الحرب الأهلية التي خلقت حالة من التشتّت.
هذه الحرب، رغم فظاعتها، كما يرى الناقد عبد الرحمن بن زيدون، استطاعت أن تبلور نتاج المسرح اللبناني الجديد، وأن تعزّز تنوّعاً مسرحياً شعبياً يعتمد في أساسه على العمل الجماعي وكتابة النص الدرامي الملتزم.
نشأة فرقة مسرح الحكواتي
من المعروف أنّ روجيه عساف هو المؤسس الحقيقي للفرقة، إلى جانب عبيدو باشا ورفيق علي أحمد ورفيق تابع وآخرين كثر. تشكّلت الفرقة واجتمعت عناصرها، كما يجيء في بيانها: “يحدوها دافعٌ مشترك إلى التعبير عبر المسرح”، واعية لعدم إمكانية تحقيق ذلك عبر المسرح السائد، لذا “قررت الفرقة مواجهة الإمكانية الوحيدة المتاحة وهي خوض التجارب باتجاه إيجاد عناصر تكوين المسرح البديل”.
تشكّلت الفرقة في ١٩٧٧ من طلاب وموظفين وأساتذة التقوا في معهد الفنون ببيروت الغربية على قناعات مشتركة، وهم من عدّة مناطق من لبنان. في البداية، تجمّع حوالي ثلاثين عنصراً، وخاضوا نقاشات أكثر من ثلاثة أشهر منطلقها حاسم: هو أنّ المسرح الذي عرفه لبنان حتى ١٩٧٧ مرفوض، لعدّة أسباب: لأنه يمثّل الفكر الأوروبي بعلاقات الإنتاج السائدة في أوروبا.
ولأنّ هذا المسرح الدخيل لا يتلاقى مع ذوق الجمهور الشعبي الوطني الذي ينبغي التوجه إليه، ويفتقد عناصر التعبير التي يعرفها الشعب في تراثه. كما أنّ هذا المسرح يمارس علاقة قمعيّة على الجمهور، إضافة إلى الإيهام المسرحي. انسحب بعض العناصر بعد النقاشات الطويلة، أما الباقون فاتفقوا على اعتماد منهج الحكواتي، أي (علاقة الحكواتي بالجمهور).
جاءت تجربة مسرح الحكواتي كمحاولة للتعبير عن الفساد الذي أنتجته الحرب الأهلية. وفي هذا الصدد، يقول عبيدو باشا وهو أحد أعضاء الفرقة: “النشاط السياسي الاجتماعي في اللجان الشعبية والتعاونيات الزراعية وفي التعاون مع الحركة الوطنية اللبنانية والمقاومة الفلسطينية، والنشاط الاجتماعي السياسي الذي خاضه روجيه عساف هنا وهناك، كان هو التجربة. جاء المسرح كوسيلة للتعبير عن هذا الانتماء، وسيلة ثانوية للتعبئة في العام ١٩٧٧، عندما تأسست فرقة مسرح الحكواتي”.
البيان
جاء في البيان الطويل لمسرح الحكواتي سنة ١٩٧٩ مسألتان أساسيتان: تغيير نوعية العلاقة مع الإنتاج المسرحي، وتغيير نوعية العلاقة مع الجمهور. على هذه الأسس، اختارت الفرقة في عملها “العمل الجمعي” في الموضوع والكتابة وإعداد التمثيل والتعامل الاقتصادي. كما اختارت أن تكون علاقتها مع الجمهور (الفئات الشعبية) مباشرة، تتحقق في كسر الإيهام المسرحي، من خلال استخدام وتطوير أسلوب الحكواتي، وإشراك الجمهور نفسه في تنظيم العروض. وتعتمد الفرقة التوجه القصدي إلى الجمهور (الفئات الشعبية) في أماكن تواجده.
واختتمت الفرقة بيانها على هذا النحو: “إنّ هذا الاتجاه العام الذي يضم مجمل العناصر التي تحدثنا عنها، هو الممارسة التي ستسمح بطرح مسألة هوية الفن ووظيفته في مجتمعنا على المستويين النظري والعملي، وهو المجال الوحيد الذي يتيح إمكانية تجسيد العلاقة الجدلية بين الجمهور والفن، والذي يعطي للمسرح بالذات مبرراً لوجوده ويمكّنه من لعب دوره الوطني التقدمي”.
يقول مختار الهرابي في دراسته “تجربة مسرح الحكواتي في لبنان بين النظرية والتطبيق” إنها المرة الأولى التي حاول فيها المسرح الانفتاح بشكل جدي على شكل مسرحي جدي؛ شكلٌ لا علاقة له بأشكال المسرح السائد، إلا من حيث استخدام بعض تقنياته. وإنّ العمل الجماعي في الفرقة لا يقف عند حدود جماعية العمل فقط، بل غايته الوصول إلى موقف الفنان الشعبي تجاه الجماعة، لأنه لا يوقع الأعمال بمفرده.
تقوم فرقة مسرح الحكواتي، بحسب الناقدة خالدة سعيد، بدور “الوسيط الذي يهيئ لتشكل صوت الجماعة أو ذاكرة الجماعة في صورة تصل إلى سلطة الكتابة، وتظل منسجمة مع حالة الالتصاق الكامل بالجماعة، فلا توقع العمل إلا كفرقة، بل تشرك في التوقيع مجموعة من القرى المهجرة. إنه خروج على تقليدٍ قديم في الثقافتين العربية والأوروبية، وعودة إلى موقع الفنان الشعبي من الجماعة، لأنه مرحلة في سلسلة”.
التجربة
يتّخذ مسرح الحكواتي بعداً شعبياً احتفالياً في قالبه ورؤيته وتقنياته الأدائية. والحكواتي في الفرقة لصيقٌ بالبيئة اللبنانية. من مقومات فرقة مسرح الحكواتي كما يقول د. جميل حمداوي: “السعي الجاد نحو تأسيس مسرح عربي أصيل، والعمل على الذاكرة التراثية، والميل إلى النزعة الشعبية والفطرية، والإيمان بالعمل الجماعي، وتحويل الفرقة إلى ورشة للبحث والاجتهاد والابتكار والتجريب، والتميز النظري والتطبيقي”.
قوام النص في فرقة مسرح الحكواتي هو تجميع وتراكم من الموروث الشفوي على ألسنة العامة من الناس، الذين يلتقي أعضاء الفرقة بهم، فيقص بعضهم الحكايات أو الأحداث التي شاهدوها، أو الشخصيات المؤثرة في حياتهم من أقربائهم ومجتمعهم، فيسجل أعضاء الفرقة الملاحظات من خلال اللقاءات. “ثم يقوم أعضاء الفرقة بعدها بالفرز بين الموروث الإيمائي، وصفات الأفراد وطبائعهم، بغية الحصول على نوعية متميزة من مجموعة اجتماعية في ماضيها، وحاضرها.
ويبدو من هذه العملية أن الصفة الجماعية في هذا التوجه لها خصوصيتها، من حيث قابليتها للوصول إلى الناس، والالتحام بهم، بل وسحبهم إلى العمل، واستدراج ذكرياتهم، بتلك التلقائية في السرد والعفوية في التعبير والإيماء”.
وبحسب مجلة الفنون المسرحية، فقد حاولت الفرقة في تجربتها أن “تتفادى وقفة المثقف الذي يعلّم الشعب الأمّي، ويُشعره بأنه يعلّمه، فالعرض يبدأ بالتعارف بين أصدقاء، أنداد يرون أحداثاً واحدة، ويتذكرون حوادث منسية. ومع ذلك، فهذا المسرح يحرّض ويعلم، يوجه نظر الناس إلى القوة الكامنة فيهم.”
أما خالدة سعيد، فتقول: “فرقة الحكواتي لا تكتب، ولا تؤرّخ، لكنها تشكّل وسيطاً عبره تكتب الجماعة وتؤرخ. تنهض الكتابة بدءاً من الجزئيات المعيشة، من الأفراد، من الهموم اليومية، من الذكريات. الفنان هنا لا يؤلف عن الجماعة، لا يمثل (أي ينوب عنها) أحلامها وتطلعاتها، بل يقوم العمل على نهوض صوت الناس من الهامش إلى المحور”. أي أنّ الفرقة استطاعت تحقيق ما كان ضرورياً في بيانها، وهو “الانطلاق من صور وشخصيات وأحداث واقعية حسية، وتحويلها فنياً عبر اكتشاف أساليب في الأداء نابعة من ذوق ومخيلة أصيلين”.
معادل موضوعي للبنان
لقد عمل أعضاء الفرقة معاً على مدى سنين طويلة رغم التمايز الديني والثقافي بينهم، أو الانتماء الفكري والسياسي. وبدت الفرقة معادلاً لما يجب أن يكون عليه لبنان في فترة الحرب الأهلية وما بعدها. التقت بروح جماعية موحدة، واتفقت على العمل الجماعي دون مخرج ديكتاتور وقيادة مباشرة، بل يتحمل كل فرد فيها مسؤوليته، دون أن يلغي أي أحد الآخر، بل بالتكامل معه.
دامت مناقشة وصياغة البيان عامين قبل صدوره، وهذه النقاشات بين أعضاء الفرقة نمت في جو من الانتماءات الإيديولوجية المختلفة داخل الجماعة، كما يقول مختار الهباشي، مما جعل مستوى هذا النقاش يشكل وحدة متنوعة تحقق حالة إثراء على الصعيدين المسرحي والإنساني فيما بين أفراد المجموعة، إلى أن أصبحت تجربة مسرح الحكواتي تجربة حب حقيقية.
يلخص روجيه عساف تجربة الحكواتي خلال حوار معه بقوله: “هي تجربة أساسية لأنها غيرت علاقة العمل الفني الثقافي بالواقع وبالجمهور، باعتراف الذين عايشوا تلك الفترة في لبنان والعالم العربي. هي مرحلة أساسية اكتشفنا فيها كيف يمكن للعمل الفني أن يكون متجذراً في الواقع، ويحمل جانباً يسمح للناس أن ينفتحوا ويخرجوا من حدود فهمهم للواقع، ويتصلوا بالتاريخ والذاكرة، وبشكل خاص بالتاريخ غير المكتوب الذي تحمله ذاكرة الناس الجماعية.
وثانياً له علاقة بخارج الإطار الذي نعيش فيه، أي: الأمة العربية. واكتشاف هذا الأمر من خلال المسرح هو المهم في تجربة الحكواتي، إضافة إلى الشكل المسرحي الذي له علاقة بجذور الثقافة الشعبية في لبنان بخصوصيتها التي تجد لها مرادفاً في كل بلد عربي. تجربتنا في الحكواتي مرتبطة بالقرية في جبل عامل في الجنوب، وليست بعيدة عن تراث الشعوب العربية. فحيثما كنا نمثل الحكواتي كان يسهل التواصل مع الجماهير العربية”.